الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


-الصبار-، رواية رشيد بوجدرة الأخيرة عن جزائر أدمت نفسها وهي تدمي الاستعمار

ياسين تملالي

2010 / 7 / 24
الادب والفن


رشيد بوجدرة يفكك التاريخ الرسمي لثورة التحرير
"الصبار"، رواية عن جزائر أدمت نفسها وهي تدمي يد الاستعمار

رغم انقضاء أكثرَ من خمسين سنةً على انتهائها، لا تزال حربُ التحرير (1954-1962) تلهم أحدَ أكبر الكتاب الجزائريين، رشيد بوجدرة، فبعد "Hôtel Saint-George" (فندق سان جورج، 2007) أصدرت له مؤخرا دار البرزخ، بالاشتراك مع ناشره الفرنسي، غراسيه، روايةً جديدة عنوانُها "Les figuiers de Barbarie"، أي "شجر الصبار"، رمزُ جزائر أدمى الاستعمارُ الفرنسي يديه وهو يحاول السيطرةَ عليها.
وكما هي الحالُ مع باقي أعمال بوجدرة، من الصعب تلخيصُ "الصبار"، فقصتها ليست خطا مستقيما تنتظم فيه الأحداثُ الواحد تلو الآخر في تسلسل زمني "منطقي". هي بالأحرى تسجيلٌ لحوار، جلُه ذهني صامت، بين صديقين التقيا في طائرة فاسترجعا في ساعة سفر ذكريات صباهما وشبابهما وظروفَ التحاق كل منهما بجبهة التحرير الوطني. في هذا الحوار ذي الهدف التطهري (cathartique) شبه المعلن، يتعمد أحدُهما، الراوي رشيد، الضغطَ على مواضع جراح قديمة غائرة في نفسه ونفس رفيقه (وابن عمه) عمر.
على طريقة المحللين النفسانيين، يدعو رشيد عمر إلى التخلص من أشباحه بمواجهتها، فالفكاكُ من الماضي مرهونٌ بإطلاق العنان لذاكرته مهما كان إيلامها: هل حقا تعاون والدُه، محافظُ الشرطة المتفرنس، مع الثوار وإن فعل ذلك، فهل عن اقتناع أم عن خوف من انتقامهم الرهيب؟ ما الذي دفع أخاه إلى الانخراط في منظمة الجيش السري (OAS) التي أنشاها في 1961 غلاةُ "الأقدام السوداء" (أي أوروبيي الجزائر) الرافضون للاستقلال، وما سرُ حميته البالغة في تقتيل إخوانه المستعمَرين؟
قد يكون وقوعُ هذا الحوار في الجو، على علو عشرة آلاف قدم، إشارةً إلى صعوبة حدوثه في "ظروف عادية"، في بلاد لا يزال فيها تاريخُ الثورة الرسمي منبعَ الشرعية السياسية. أما اتجاهُ الطائرة التي يلتقي على متنها رشيد وعمر، مدينة قسنطينة، فرمزُ العودة إلى الماضي، حلوه ومره، مغامراته الإيروسية الساخنة وصدماته العنيفة التي فتحت أعينَهما على وضع استعماري لم يكن بوسعهما تجاهله، بالرغم من انتمائهما إلى عائلة ميسورة.
تطرقت "فندق سان جورج" إلى ممارسات الجيش الفرنسي الوحشية ضد الثوار الجزائريين من خلال قصة فنان حولته دوامة الحرب إلى صانع توابيت في خدمة الجلادين. "الصبار" تتطرق إلى جرائم الاستعمار منذ بداياته الأولى في 1830 (على طريقة بوجدرة، تتخللها مراسلاتٌ لقادة الاحتلال يفخرون فيها بعدد من قتلوهم من "الأهالي" قبل أن يسألوا أهاليهم عن أحوالهم بمنتهى الرقة والحنان)، لكن فظائعَ "حرب الإخوة الأعداء" حاضرة فيها أيضا كل الحضور : إعدامُ أحد أبرز قادة الثورة، رمضان عبان، على يد رفاق السلاح، الاغتيالاتُ التي طالت مئات الطلبة ممن نجحت الاستخباراتُ الاستعمارية في تصويرهم لبعض كبار ضباط جبهة التحرير كجواسيسَ مندسين...
هذه الأحداثُ الحقيقية المحكية على لسان رشيد تأتي دليلا على أن لا فصلَ بين الحميمي والسياسي، بين الخاص والعام، إلا في تاريخ وهمي يصور الشعبَ بطلا جماعيا وقادتَه أنبياءَ معصومين، يُخرجونه من الظلمات إلى النور. أقوى رمز في الرواية إلى تعقد "التاريخ الحقيقي" هو تباينُ الهويات السياسية لأفراد أسرة عمر: مناضلان مقتنعان بضرورة الاستقلال ومحافظُ شرطة وضعته الثورة أمام مسؤولياته الوطنية وحليفٌ صريح للعدو، بلغ به كرهُ الذات حدَ الالتحاق بأكثر تنظيمات الأقدام السوداء عنفا وعنصرية.
ليس التاريخُ في "الصبار" إطارا عاما للحكي، هو موضوعُ استنطاق يدمر "أسطورة الأسلاف" الميامين ليسلط الضوءَ على شخصيتين قلقتين ابتلعت الحرب أحلامَهما فلم يبق لهما منها سوى ذكريات غائمة وتساؤلات مفتوحة. وكما في نصوص أخرى له فضحت أكاذيبَ التاريخ المتوارثةَ ("معركة الزقاق"، مثلا، بإلحاحها على أن غيرة موسى بن نصير من طارق بن زياد كادت تتسبب في توقف غزو الأندلس)، سعى بوجدرة في آخر أعماله إلى فضح تهافت الرواية الرسمية لمعركة التحرير، رواية لا أثر فيها لما عاصره رشيد من تصفية حسابات داخلية ولا لما عاشه من تجارب شخصية في سياق مضطرب، ربط المصائرَ الفردية أيما ربط بالمصير الجماعي.
لا يذكر التاريخُ الرسمي غيرَ المنتصرين (جناح جبهة التحرير الذي استولى على السلطة في صيف 1962) ويصور محاربي الاستقلال كلَهم، على تباين مساراتهم، كمثاليين خالصين باعوا الدنيا بأمل الاستشهاد. أما "التاريخُ الحقيقي"، الذي تختزن ذاكرةُ الراوي بعضَ شذراته، فيذكر المنسيَ والمسكوتَ عنه، كاستشهاد المناضلين الشيوعيين فرناند إيفوتون وهنري مايو، ويقر بأن دوافعَ حمل السلاح لم تكن دائما مثالية محضةً، فمن الثوار من وجد، كعمر، في الجبال مهربا من أسرة تعج بالعملاء.
ماذا صنعت الجزائرُ باستقلالها، يتساءل رشيد وعمر، ويجيبان: نصبت مكانَ متسلطي الأمس، الذين سادوها باسم تفوق الأوروبيين على "الأهالي"، متسلطين جددا تحكموا في مقدراتها باسم "مُثُل نوفمبر 1954"، فدفعوا بالشباب دفعا إلى الشوارع، كما في أكتوبر 1988. هذه الانتفاضةُ، التي حطمت نظام الحزب الواحد، تبدو في "الصبار" تواصلاً لخيط رفيع لم ينقطع، خيط الثورات الشعبية الجزائرية، واستئنافاً لانتفاضة 8 مايو 1945، التي قوضت وهم إصلاح الوضع الاستعماري وأقنعت الحركةَ الوطنية بضرورة الكفاح المسلح.
وإذا كانت تيمة الثورة المغدورة من ثوابت كثير من الروايات الجزائرية المعاصرة (مثلا "Le fleuve détourné"، أو "النهر الذي حول مجراه" للراحل رشيد ميموني)، فإن بوجدرة يعالجها في "الصبار"بالتوازي مع تيمة فظائع الاحتلال (خصوصا تلك التي ارتُكبت في أولى سنوات الغزو والتي قاربها روائيا لأول مرة). هذا ما يميز نصه عن نصوص أدبية أخرى ("قَسَم البرابرة" لبوعلام صنصال مثلا) تعللت بإعادة قراءة الماضي للتنقيب عن محاسنَ مزعومة "للحضور الفرنسي" في الجزائر ("التعايش" بين مختلف الأعراق والديانات، الخ).
لدى صاحب "التطليق" إذاً، لا تعارضَ بين كتابة "التاريخ الحقيقي" والإشادة بضرورة الثورة، بل إنه بصراحته المعهودة لم يتحرج من الاعتراف بأن "للصبار" وظيفة إيديولوجية محددة (يومية "النصر"، 27 نيسان/أبريل 2010) : "الرد على بعض الكتاب (الذين) يكتبون من المنظور الكولونيالي لليمين الرجعي الحاكم في فرنسا" و"يشككون في جدوى حرب التحرير والاستقلال".
ياسين تملالي

"Les figuiers de Barbarie" (شجر الصبار)، رشيد بوجدرة، البرزخ (الجزائر)/غراسيه (فرنسا)، 2010، 199 صفحة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب يتخطى 8 ملايين جنيه في شباك التذاكر خلال 4 أيام ع


.. الفنان محمد عبده يكشف عبر برنامج -تفاعلكم- أنه يتلقى الكيماو




.. حوار من المسافة صفر | الفنان نداء ابو مراد | 2024-05-05


.. الشاعر كامل فرحان: الدين هو نفسه الشعر




.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب