الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عَلَى عَتَبَةِ التَدْوين

حيدر الكعبي

2010 / 7 / 27
الادب والفن


عَلَى عَـتَـبَـةِ التَـدْوين

عن توحيد التهجئة لدى تدوين الشعر الشعبي





أحد مظاهر حداثة عهد الشعر الشعبي العراقي بالتدوين هو تعدد أشكال كتابة المفردة الواحدة المرتبط بغياب قاموس العامية. هذه التعددية في التهجئة يمكن ردها الى مصادر ثلاثة: أولها، احتواء العامية العراقية على أصوات لا وجود لها في الفصحى. وثانيها، افتقار العامية لأصوات موجودة (أو كانت موجودة) في الفصحى. وثالثها، عدم التزام العامية بقواعد تلتزم بها الفصحى.

فأما عن المصدر الأول، فالعامية تحتوي على أصوات لها رموز كتابية في لغات أخرى كالفارسية والإنكليزية دون العربية، كالـ(گاف) والـ(چيه) والـ(ژيه). وأما عن المصدر الثاني، فقد اتحد صوتا الضاد والظاء في اللسان العراقي، ولم يعد يمكن التمييز بينهما. وأما عن المصدر الثالث، فإن بوسع العامية أن تبدأ بساكن وأن تجمع الساكنين، خلافاً للفصحى.

الأمثلة على الأصوات التي لا مقابل لها في الفصحى كثيرة. أما صعوبة كتابتها فمتأتية، كما يبدو، من خلو الآلات الكاتبة وبرامج الطباعة الألكترونية العربية من رموز تمثل تلك الحروف، مثلما هي متأتية من عدم وجود تقليد أو اتفاق ضمني بين الشعراء أو الناسخين على كتابة الأصوات المذكورة برموز موحدة. ولنأخذ مثالاً؛ كتب الشاعر عريان السيد خلف في قصيدته "نذر":

"واورجه اعله الجروح، المالهن جاره"

نلاحظ أن الجيم في كلمة "جاره" تلفظ كالـ"چيه" الفارسية، خلافاً لجيم "الجروح" التي تنطق جيماً قياسية، فيما يمكن لجيم "اورجه" أن تلفظ كالجيم أو كالـ"ژيه" تبعاً للهجة الناطق. وهكذا نرى أن الجيمات الثلاث توحدهن الكتابة ويفرقهن اللفظ. ولعل من الطريف، بهذا الخصوص ملاحظة أن عنوان قصيدة مظفر النواب "جذاب" قد يوهم بأنه مشتق من الجاذبية لا الكذب. ولا شك أن للسياق، أو المنطق الداخلي للنص، دوراً كبيراً في تحاشي الإلتباسات الناشئة عن تمثيل صوتين مختلفين أو أكثر برمز كتابي واحد. فحين يقول مظفر النواب في قصيدته "الريل وحمد":

"ولا تمشي .. مشية هجر ..
كلبي ..
بعد ما مات"

فلا يعقل أن يفهم من كلمة "كلبي" هنا الحيوان المعروف, لأن السياق، أو المنطق الداخلي للنص، يحول دون ذلك. ومن الواضح أن الكاف هنا أريد لها أن تقرأ "گافـ"ـاً. لكن فرز الدلالات لايتم دائماً بنفس الدرجة من السهولة. ففي بيت آخر من القصيدة ذاتها، يقول الشاعر:


"يا ريل ..
جيم حزن ..
اهل الهوى، امجيمين"

فكلمة "امجيمين" هنا قد تحيل الى "الصدأ"، إذا كانت جيمها جيماً قياسية، أي (امْجَيْمِيْـن)، أو الى "الإقامة"، إذا كان أصل الجيم قافاً، أي (امْجِيْمِيْـن)، أو الى "إشعال التنور"، إذا كانت الجيم بثلاث نقاط، أي (امْچَيْمِيْـن).

أما المصدر الثاني لتعدد التهجئة، أي افتقار العامية لأصوات موجودة (أو كانت موجودة) في الفصحى، فيتمثل في زوال الفرق بين صوتي الضاد والظاء في اللسان العراقي (وليس من شأننا الآن أن نتحرى أي الصوتين زال وأيهما بقي). والمقصود باللسان العراقي، هنا، هو العامية العراقية زائداً النسخة العراقية من الفصحى. إن شيوع الخلط بين هذين الحرفين على صعيد الكتابة لا يمكن ان يفسر إلا بزوال الفارق الصوتي بينهما مع بقاء الفارق الخطي. فنحن لا نرى هذا الخلط يمتد الى حروف أخرى ذات مخارج صوتية متقاربة، كالسين والصاد. فالفارق اللفظي بين الضاد و الظاء قد زال تلقائياً من لسـاننا، فلم نعد نفرق في اللفظ بين "ضنَّ" بمعنى (بخِلَ) و "ظنَّ" بمعنى (حسِـبَ)، أو بين "ضلَّ" بمعنى (تاهَ) و"ظلَّ" بمعني (بقيَ)، أو بين "الغيض" أي (النضوب) و"الغيظ" أي (الغضب)، أو بين "حضَرَ" (ضد غابَ) و"حظر" (ضد أباحَ)، إلا بدلالة السياق. وهكذا تواجهنا كلمات معيّنة مكتوبة بالضاد تارة، وبالظاء تارة أخرى، تبعاً للشاعر، أو القصيدة، أو حتى داخل القصيدة الواحدة. ففي حين يقول مظفر النواب في قصيدته "يا ريحان":

"و(الكيظ) إجانه
وانكضه
ورد أنكضه
ورد (كيظ) إجه"

يقول عريان السيد خلف في قصيدته "إخذني وياك":

"عصفورة جرف بلل جنحها (الكيض)"

وأولى بنا هنا، بدل المسارعة الى الحكم بأن أحد الشاعرين مصيب والآخر مخطيء، هو أن نتساءل عما إذا كنّا نلفظ الضاد والظاء في مقطع مظفر آنف الذكر كصوتين مختلفين أم كصوت واحد. ويمكننا، للتأكد، الرجوع الى تسجيل للقصيدة بصوت الشاعر.

ثمة مفردات معينة يوردها بعض الشعراء بهجاء مخالف لما هي عليه في القاموس، وبشكلٍ مكرور، مثل كلمتي "هضم" و "غيظ" و مشتقاتهما لدى الشاعر عريان السيد خلف. ففي قصيدته "نذر" يقول:

"ابدمع، يادمعة (المهظوم) .. ماتعتاز .. تسياره"

وفي مكانٍ آخر من القصيدة يقول:

"(هظم) والشال (هظم) الناس لو جه الموت ما يندم"

وفي قصيدة "لا تجينه" يقول:

"او حتى أعز الناس من طحنه (ابهظم) جاروا علينه"

وفي "نذر" أيضاً يقول:

"لَوَن .. شحَّت دموع (الغيض) خل دمع العتب .. يلتم"

كذلك كتب في قصيدة "عاذرك":

"عاذرك (تغتاض) .. بس من غير شاره .."

بل نلاحظ أحياناً أن الكلمة الواحدة ترد مكتوبة بشكلين ضمن القصيدة الواحدة. ففي أحد مواقع الإنترنيت ورد مطلع قصيدة مظفر النواب المعروفة "البراءة" هكذا:

"يابني (ظلعك) من رجيته
(لظلعي) جبرته وبنيته"

وفي مكانٍ آخر من القصيدة ذاتها، نقرأ هذا الشطر:

"تلكه منه خطوط اضمهن حدر (ضلعي)"

ولا بد من التذكير بـأننا، ابتداءً، لم ندخل الموضوع من باب الخطأ والصواب، وأن مدار حديثنا هو مسألة تثبيت تهجئة المفردات العامية، لاغير، لأنه إذا أمكننا الإحتكام للقاموس بشأن الكلمات المأخوذة عن الفصحى، تلك التي تسمح لنا بتعقب أصولها، فماذا بوسعنا أن نقول عن الكلمات التي لا يمكننا التأكد من مصادرها؟ فحين يقول مظفر النواب في قصيدته "الريل وحمد":

"(كضبة) دفو، يا نهد"

فبوسعنا إرجاع كلمة "گضبة"، المقلوبة عن"قبضة"، الى أصلها بسهولة، لا بسبب القرائن اللفظية فقط (وحدة حروف الكلمتين بعد رد الـ"گاف" الى أصله . . إلخ), بل بسبب الشراكة الدلالية أيضاً. فكلمة "گضبة" ترد على ألسن الناس مرادفةً لـ"حفنة" الفصحى و لـ"صَمّ" العامية. وفي المثل الشعبي "اليدري يدري و الما يدري گضبة عدس". وهكذا يمكن لمن يكتب "گضبة" بالضاد، كما فعل مظفر هنا، أن يبرر ذلك بمراعاته الأصل الفصيح للكلمة. ولكن ماذا عن لفظة "كضّ" (بمعنى مَسَـكَ) الواردة في قصيدة "يا ريحان" للشاعر نفسـه، هكذا:

"من ظني كضّك
بالحلم ..
عنبر فحت" ؟

هل يمكننا تبرير كتابتها بهذه الصيغة بنفس الحجة السابقة؟ فكلمة "كضّ" بالضاد لا وجود لها في القاموس لا بهذا المعنى ولا بغيره. أما "كظّ" بالظاء فتتمحور دلالتها حول مفهوم الإمتلاء. ومنها قول الإمام علي في شِـقشِـقيّته: "ألا يُقارّوا على (كِظَّةِ) ظالمٍ ولا سَـغَبِ مظلوم،" أي شَبَع الظالم و جوع المظلوم. وهي, بهذا المعنى، كلمة حيّة ترد في كلامنا اليومي مثلما في كتاباتنا. فنقول، مثلاً، "(اكتظّت) الغرفة بالضيوف" . . إلخ. لكن هذا المعنى بعيد تماماً عن مفهوم (المَسْـك)، و بالتالي لا بد من إهماله. أما عن قولهم في القاموس: "(كظَّ) خصمه، أي ألجمه حتى لا يجد مخرجاً"، فليستْ لدينا في كتابات المعاصرين أمثلة حية عليه، ولا بد من إهماله هو الآخر. ولكننا بحاجة الى أن نكتب الكلمة إمّا بهذه الصيغة أو تلك. فإن كتبناها بالضاد وجب علينا أن نكتبها بالضاد دائماً، وإن بالظاء فبالظاء دائماً. لأننا إنْ كتبناها تارةً بالضاد وتارة بالظاء فسنجعلها تبدو وكأنها كلمتان لا كلمة واحدة. ولذلك لا بد من استحداث مرجعية معينة بهذا الخصوص.

أما المصدر الثالث لتعددية التهجئة، أي عدم التزام العامية بقواعد تلتزم بها الفصحى، فيتمثل في أن العامية قد تبدأ بساكن وقد تجمع الساكنين خلافاً للفصحى. والأمثلة على البدء بالساكن كثيرة. منها قول مظفر النواب في "الريل وحمد":

"شْـلايل بريسم ..
والبريسم إله سوله"

وقوله في "يا ريحان":

"شْـجاب العشك ؟! وأشوده ؟!"

وقوله في "زرازير البراري":

"عْيونك
زرازير البراري"

و "شْـفافك ولا كولن ورد"

ويجدر بنا هنا أن نُسـقط الألف الزائدة التي يبتديء بها بعض الشعراء أبياتهم أحياناً، ربما لتحاشي البدء بساكن، كما في قصيدة عريان السيد خلف "نذر":

"(اشْـتكل) للطاح .. بين ارماح .. كلها
اوياه كصّاية .. ؟
(اشْـتكلي)؟ .. او بيك روحي اتموت
وترد .. بيك تتحايه"

وفي قصيدة مظفر "يا ريحان":

"(اشْـكد) نده
نكط على الضلع،
ونسيت أكلك يمته
(اشْـكد) رازقي،
ونيمته"

أما عن الجمع بين الساكنَيْن فأمثلته عديدة أيضاً، كقول مظفر في "الريل وحمد":

"يا بو محابس شذر، يلشـ(ـاْدْ) خزامات
يا ر(يْـلْ) بلله .. ابغنج
من تجزي بام شامات"

وكقول عريان في "لا تجينه":

"او جينه نشجيلك .. عذاب اجر(وْحْـ)ـنه
او لوعة هوانه .. "

وكقوله في قصيدة "ردي . . ردي":

"وانه .. خلاني الوكت .. ناعـ(ـوْرْ) بس اترس .. وابدي"

وكقوله في القصيدة ذاتها:

"والله جا مل او جزع . . لو قصتي
اعله ايـ(ـوْبْ) تسدي"

(يلاحظ—عَرَضاً—أن الحرف الساكن الأول في جميع الأمثلة التي أوردناها كان دائماً حرف علة).

نخلص من ذلك الى القول إنه إذا كانت الحاجة الى توحيد التهجئة لدى تدوين الشعر الشعبي لم تفرض نفسها بعد كضرورة ملحة، فبسبب شحة المطبوع من هذا الشعر في الوقت الحاضر. إذ ما زال القسم الأكبر منه محفوظاً في ذاكرة الناس وأغانيهم, لا في الكتب. ولكن شيوع طباعة هذا الشعر واطّراد نشره سيدفع بهذه الحاجة الى الواجهة, آخر الأمر.



حيدر الكعبي
آب 2003
[email protected]



مراجع

http://iraqiat.jeeran.com/shaeer1.html
http://geocities.com/elnaob/
http://eryan.4t.com/








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - نريد شعرا
علي الانباري ( 2010 / 7 / 27 - 17:32 )
شكرا على موضوعك الجميل
الذي لا يخلو من فوائد في اللغة للكتاب
ويا ليتك تكثر من هذه المواضيع فانت صاحب خبرة فيها
ولكن00000000000
نريد شعرا لك فلا تضن علينا وانت الكريم كما عودتنا
تحياتي القلبية لشخصك الرائع


2 - عودة الى الشعر
حيدر الكعبي ( 2010 / 7 / 28 - 17:34 )
الصديق الشاعر علي الانباري

شكرا لاهتمامك بما اكتب. اراك مصمما على ان تعيد لي ايماني بالشعر. فقد كففت عنه وكف عني منذ امد بعيد. اقبل امتناني وخالص محبتي.


3 - توضيح من الكاتب
حيدر الكعبي ( 2010 / 7 / 29 - 01:06 )
اود ان انبه القاريء الكريم انني لست كاتب المقال المعنون -ماركس اخلاق الحرية- المشار اليه في الزاوية العليا اليسرى من هذه الصفحة تحت عنوان -مواضيع اخرى للكاتبـ -ة-. واتمنى على كاتبه الكريم ان يؤكد ذلك ..مع خالص تقديري له.

اخر الافلام

.. عادل إمام: أحب التمثيل جدا وعمرى ما اشتغلت بدراستى فى الهندس


.. حلقة TheStage عن -مختار المخاتير- الممثل ايلي صنيفر الجمعة 8




.. الزعيم عادل إمام: لا يجب أن ينفصل الممثل عن مشاكل المجتمع و


.. الوحيد اللى مثل مع أم كلثوم وليلى مراد وأسمهان.. مفاجآت في ح




.. لقاء مع الناقد السينمائي الكويتي عبد الستار ناجي حول الدورة