الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


ثقافة الاستبداد الوطني

لؤي حسين - سوريا

2004 / 8 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


كما النظام الديمقراطي يحتاج إلى ثقافة ديمقراطية توطّده وتحميه، كذلك النظام الاستبدادي يحتاج هو أيضاً إلى ثقافة استبدادية تبرّره وتنتجه معرفياً. وكما الأول لا يكفيه ادعاء الناس الديمقراطية لتتحقق ثقافته، كذلك الاستبداد لا تنعدم ثقافته إن لم نجد من يجاهر به. فإن لم نجد بين النخب السورية من يدعو إلى الاستبداد بشكل سافر، لا يعني أن الخطاب الثقافي السياسي الرائج هو خطاب ديمقراطي، ولا الثقافة السائدة ليست ثقافة استبدادية. فأغلبنا يظن بكسله المعهود ما لم يعلن بصريح العبارة أنه مع الاستبداد، فهو بريء من تداول ثقافته، ويكفيه اعتراضه على مستبد بلده شفاعة تُنسبه إلى صف الديمقراطيين. فبعضنا اكتفى باعتراضه على مستبد بلده وأيّد الاستبداد في بلد آخر كالجزائر أو العراق بحجة أنها أنظمة وطنية، وعاش بكنف ثقافتهم.
ليس، حسب علمي، في الأدبيات السورية نص يؤيد الاستبداد صراحة. ولكن يمكن لقراءة متروية هادئة لهذه الأدبيات أن تجد فيها الكثير من تأييد الاستبداد والدعوة له. فعندما نعتبر أن سبب تخلفنا ليس غير طمع الغريب بنا وعدوانه علينا، فلن نجد سبيلاً إلى تقدمنا إلا بالتحرر الذي يتطلب بشكل ميكانيكي محرِّراً ينجز لنا المهمة التحريرية التي تمكننا من التفرغ تالياً للتنمية والتقدم والحداثة، ولا بد لإنجاز ذلك من إعداد العدّة القومية كقوة تقارع القوة الخارجية المعتدية. هذا كله جعلنا نؤيد المحرر الوطني أو القومي، فرداً أم جماعة، ليقوم بدور المخلّص الذي سينقلنا إلى شاطئ الحضارة بثمن زهيد نقدمه له: إباحة أموالنا وكراماتنا له، أفراداً وشعوباً، التي لم نعرف سابقاً ولا الآن أننا بدونها لا شيء، بل أكثر من ذلك أننا لم نعرف أنها لنا وليست لأوليائنا. لذلك تضمنت دعوة التحرر تلك وذاك الفهم قبول الاستبداد وعدم الاعتراض عليه طالما يدّعي تفانيه لخلاصنا من الغريب/العدو.
تطور هذا الفهم موضوعياً ليتطلب أن يكون المحرر عسكرياً مطلق الصلاحيات من دون أن تعطّله أية مرجعيات تضّيع وقته وتعيق معركته الأخرى: ترتيب البيت الداخلي وإنجاز الوحدة الوطنية، أي إلغاء كل القوى والفئات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاثنية التي تعرقل أو تشوش قدسية معركة التحرير. فأتيح له أن يستغل تلك الصلاحيات لأهداف حكمه، ومن لم يستطع ذلك، لسبب ما، انقلب عليه آخر أو آخرون ينجزون استقرار الحكم، وبقيت الانقلابات حتى استقر الحكم.
لم أعرض ذلك بهدف إيجاد قياس أو اتساق منطقي لنشوء وتجذر مقولة المستبد الوطني التي تهيمن على ثقافتنا، بل محاولة تبيان أن ما حدث في بلادنا ليس اغتصاب العسكر للسلطة، بل أعتقد أن ذلك كان نتيجة غلبة ثقافة استبدادية أنتجناها جميعاً وأدنّا نتائجها من دون نقدها، وكل ما فعله البعض تجاهها هو القفز فوقها لمجاراة الخطاب الديمقراطي العالمي، غير مهتم بالتعارض بين عنوان ما يطرحه ومضمونه الاستبدادي، وهذا ماثل بين أيدينا بموقف غالبية النخب السورية التي تعنون نفسها بالديمقراطية من المسألة العراقية منذ بدايتها الأخيرة وحتى الآن، حين لم ترَ في أميركا سوى غريبة غازية فقط، وليست استبداداً بديلاً لما اعتدناه، ووجدت صدام مستبداً اعتدناه تشفع له وطنية كاذبة بموقفه من القضية الفلسطينية. ورأت موقفه الأخير معرقلاً للهيمنة الأميركية المطلقة على العالم، وأن حربه معها عادلة من الجهة العراقية وذات طابع ديمقراطي موضوعي ضد الدكتاتورية العالمية. وما زال هؤلاء يؤيدون ويفرحون بكل مواجهة مسلحة تقوم الآن بوجه الأميركيين وهيئات عراقية غير صدّامية، من دون التأكد من نسبة تمثيل هؤلاء المسلحين للشعب العراقي. فحتى لو كان الغزو الأميركي جاء بفعل استبدادي من دون إرادة العراقيين، التي كانت غائبة وتستحيل معرفتها، إلا أنه الآن وبعد أن أُتيحت لهم سبل متعددة يعبّرون فيها عن إرادتهم، لا يحق لقلة، إلا ضمن الفهم الاستبدادي، ممارسة معارضتها بطرق غير سلمية بوجود تلك السبل السلمية. وإلا ستكون لأفعالهم تلك أضرار بحياة ومصالح الغالبية.
لا أتطرق إلى هذا من باب التدخل بالشأن العراقي، إذ لا أسمح لنفسي بذلك، بل لأقول ان من يؤيد من النخب السورية هذه القلة العنفية يَبعُد كثيراً عن الفهم الديمقراطي. فثقافة الاستبداد بالمطلق هي ثقافة عنفية، أو للدقة العكس هو القاعدة، فالعنف سلوك قهري وبذلك هو استبدادي ولو كان موجهاً ضد خطر خارجي أو داخلي.
يُختصر الكلام: إذا اعتبرنا أن الغريب هو سبب كل مشاكلنا، ولا خلاص لنا بوجوده، فنظام الاستبداد الوطني هو السبيل الأمثل ولن يقبل المزاوجة مع الطموح الديمقراطي إلا تزييناً له بدمجه بالاستبداد العادل. وهذه مغالطة، فالاستبداد لا يمكن أن يكون عادلاً أو وطنياً، إذ شرط العدل والوطنية هو المساواة، والعلاقة بين الاستبداد والمساواة علاقة تنافي. لكن إن شئنا ضرورة مواءمة وجود حرياتنا وحقوقنا الفردية مع حالة تحريرية راهنة ومحدودة، وحماية سيادتنا الوطنية، فهذا يتطلب، من دون أدنى شك، إعادة تنظير وفهم جديدين لكل هذه المقولات والمهام وغيرها على ضوء كل المتغيرات العالمية، خاصة بعد المستجد العراقي الذي أفرز فهماً جديداً للوطنية والوطن والاستقلال والسيادة، وبشكل أكثر عمقاً فهماً جديداً لمؤسسات المجتمع المدني بتنافيها مع البنيان الاستبدادي للدولة.
اختصار الفعل الوطني إلى مجرد الدفاع عن التراب من غازٍ قادم من خلف الحدود الطبيعية، وأحياناً الهجوم إلى داخل الحدود المنقّطة > لضم أراضيها بهدف الوحدة العروبية، هذا اختزال وتشويه لمعنى الوطن والوطنية.
ليس للفكر الاستبدادي شكل واحد في كل العالم ولا سبب واحد، وربما لجأت إليه الكثير من شعوب العالم ودوله، لكن هذا لا يعطيه تبريراً أو قبولا. فمقولة المستبد العادل أو الوطني قد يراها البعض تحمل خطىً ثورية لتمكُّنِها، حسب نظرهم، من إنجاز مهام مستعصية ولا تحتمل التطور التدريجي. لكن ضمن الثقافة الديمقراطية الجديدة المرتكزة على حقوق الإنسان الفرد، ليست كل الأشكال الثورية تحمل قيماً إيجابية، بل قد يكون العكس حسب هذا الفهم الجديد الذي أتبناه. وليس رسوخ الفهم الاستبدادي في الثقافة السورية عموماً إلا نتيجة لسهولة إنتاجه معرفياً، وقبوله من جمهور يعتمد الثقافة الشفوية المرتكزة على الفكر الديني الخلاصي وعلى التبعية للزعيم/الإمام، من دون الحاجة إلى إنجاز معرفة فردية ذاتية. وهذا الجانب كرسته النخب السورية عندما أعفت نفسها من المسؤولية بقبولها مقولة المستبد: إن أصاب عبدته، وإن أخفق كفّرته، وكفاهم ذلك شر التفكير.
وليست المواقف من الحالة العراقية هي فقط بقايا ثقافتنا الاستبدادية، بل كل ثقافتنا مشوبة بالفهم الاستبدادي الذي يطغى عليها لدرجة أنه يسمها باسمه. ففهمنا للوطن والوطنية والاستقلال والسيادة والهوية والتعددية السياسية والفكرية وتعددية التعليم والدولة والمرأة والنخبة والشعب والحل القهري والأسلوب العنفي وحق التمثيل وحق الأقليات السياسية...الخ، كل هذا يشكل فهماً استبدادياً جميعنا مسؤولون عنه، وعلى جميعنا التشكيك بكل أفكارنا ومواقفنا المعتادة والسائدة واتهامها بالاستبدادية حتى يثبت العقل والواقع المعقول براءتها.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. حادث مفاجئ جعله رئيساً مؤقتاً لإيران.. من هو محمد مخبر؟ | ال


.. مراسم تشييع الرئيس الإيراني في تبريز| الأخبار




.. نتانياهو -يرفض باشمئزاز- طلب مدعي الجنائية الدولية إصدار مذك


.. مقتل الرئيس الإيراني: هل تتغيّر علاقات طهران بدول الخليج وال




.. بايدن: ما يحدث في غزة ليس -إبادة جماعية- نحن نرفض ذلك