الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أماكن للعابرين

صفوت فوزى

2010 / 7 / 29
الادب والفن


سكنت الحركة . الحارة ترقد هادئة مستكينة كطفل شقى مشاغب هده التعب فاستسلم للنوم . الهواء مشبع برطوبة ثقيلة لزجة . الليل راسخ صامت . صمت تعمقه قطرات الماء المتساقطة من صنبور الحمام , ويخدشه نباح كلب من بعيد , وشخير الجار المزعج .
فى نافذة مقابلة , الجارة بقميصها الشفاف الباهت الحمرة ونهديها المدورين تتأمل بافتتان جسدها الناعم – الذى يغمره ضوء المصباح الآن – فى مرآة . تتلمس بيديها خاصرتها وفخذيها وبطنها ,تجوس عبر المنحنيات المرنة . تصعد اناملها ببطء عبر ملاسة الجسد المشرع , تضغط نهديها برفق , تحيط استدارتهما بكفيها . ينتفض الجسد المشدود ويرتعش . تنسرب من بين شفتيها . بعنف وحنين , تمتمات مبهمة , وأنا – مسمر فى الشرفة – أترقب عودته . أحدق فى مربعات العتمة وشرائح النور .أتلهى بمتابعة نجوم تبرق فى صفحة سماء معتمة . أمارس لعبتى الليلية , أعد النجوم فأخطئ الحساب . أعاود العد مرة ومرة ومرات فى دورة لا تنتهى .
يشتد بريق أحدها ويهوى فجأة مخلفا وميضا خاطفا . انقبض القلب وغاص الى القدم . أسقط فى دوامة حزن شفيف , ينتصب أمامى وجه جدتى متحدثة عن النجوم فى سماء الله العالية : هى أرواح البشر , تحيا ماداموا يحيون , ولما يرحل أحدهم , يهوى نجمه وينطقئ .
ملتاعا أحدق فى القبة الزرقاء المثقوبة بالنجوم تتنازعنى الأسئلة .
من قعر بئر عميق ينتشلنى صوت دمدمة محرك السيارة , يضوى ضوؤها عند منعطف الحارة . درجات السلم أقطعها قفزا . تتلقفنى ذراعاه المفتوحتان وحضنه الوسيع . أتلمس تفاصيل الوجه المجهد المنقوع فى الزيت والعرق . أتملص منه مندفعا الى مقعدها الأمامى .أتحسس مقودها , أحس دفئها , أضغط آلة التنبيه , يفزع كلب متناوم يقعى دافسا بوزه بين قائمتيه الآماميتين . ينهرنى أبى هامسا : الناس نايمة .
تصفو الآن تقاطيع الوجه المتعب . يحتوى العربة بعينيه , يمسح جسدها المعدنى الدافئ بفوطته الصفراء , يربت عليها بحنان .يضوى الجسد تحت انعكاسات ضوء القمر . يلبسها ثوبها المطرز بورود حمراء وخضراء وصفراء . تبدو كعروس بهية . امرأة فى كامل زينتها . يحنو عليها , يتأملها فى وله , يهمس لها بصوت مترع بالعشق : تصبحين على خير .

* * *
فى ليالى الصيف المقمرة – حين يعود مبكرا – كان يحلو له أن يصعد فوق سطح المنزل . يعتنى بشجيرات صغيرة , يتمدد فوق حصير مفروش , يفتح صندوق التذكارات , يحكى لى ألف ألف حكاية : السيارة امرأة معطاءة , اخلص لها تعطيك أكثر مما تأخذ , معها عرفت الدنيا وخبرت الناس . الشوارع اللامعة النظيفة , والدروب والحوارى الغارقة فى الاهمال وغبار السنين , الواجهات البراقة تضوى بالضوء والظلال , والبيوت الجهمة الواطئة , لصوص وقوادون , وقاعات تزينها المرايا , سكارى . وأولاد بلد . وبنات أصول , وصعاليك , وعاطلون عن العمل , ومتسولون , وعاهرات رخيصات .
تصبح الدنيا صبية جميلة بشرائط ملونة , ويغدو العالو ملئ بعربات من كل شكل ولون , أطير بها فى سماء صافية , أجوب مدنا وشوارع نظيفة لامعة , أعانق طيور السماء , وأمسك بيدى السحاب المسافر .
ينسحب الضوء رويدا رويدا . يكبر شئ فى داخلى ويكتسح روحى . أشعر بكائنات خفية تتحرك فى الظلمات . قطعان زواحف ضخمة , وأفاع مكدسة فى الطين . وطاويط هائلة وحيوانات مجنحة , أسمع الآن خفق أجنحتها الصامت , تلامس برفق , وعلى نحو مثير للاشمئزاز , جسمى , وتصل حتى وجهى .

* * *
بليل عادت العربة ولم يعد أبى . لم يقل لى أحد شيئا . كان كل ما سمعته هو ذلك السكون الذى يكاد يلمس من فرط كثافته , وهؤلاء الرجال الغامضون , يرفلون فى عباءات طويلة , يدخنون سجائرهم , ويهمسون بكلمات غامضة , ويمضون .

* * *
تقودنى قدماى الى السطح . الحصير مازال مفروشا . ذبلت الشجيرات الصغيرة . اتطلع الى النجوم التى خبا ضوؤها الآن , أنقل البصر بحثا عن مكان النجم الذى هوى . صدح طائر فى الملكوت . . الملك لك لك لك . انحسرت شرائح النور وزادت مساحات العتمة . كنت أظل جالسا حتى الصباح , أراقب شيئا غامضا عصيا مراوغا . وحين يتسلل الضوء الغسقى واهنا حذرا , كان الضباب يروح فى التبخر وتزيد مساحة الرؤية , كنت أراه يأتى , يهبط من مكان ما , يرفل فى عباءة طويلة , يبتسم ملوحا ويمضى .
محلولة الشعر , تملأ الأصباغ وجهها , عادت ترتكن على افريز النافذة . تضع ذقنها فى باطن كفها المضموم الأصابع , وبعينين ذابلتين , ترنو للأفق البعيد . كل القطارات مضت وكنست وراءها المحطات . انقضت كل المواسم , وهى –فى مكانها – تحدق فى الفراغ .
أهبط الى الشارع . العربة مكومة محاطة بظلام خفيف , ونسمة منفلتة من قبضة الصيف تداعب غطاءها الذى علاه التراب وكثير من بقع . كان جسدها باردا , تبدو وحيدة مهملة , ترهل ثوبها الذى كان ناصعا وسكت صوتها .
اقتصرت على النظر اليها بامعان , كمن يتأمل بصمت , مناظر قديمة تعود لأيام مضت , أشاهد بحنو وكآبة , ما فعلت الأيام بها .
* * *
اجتمع الرجال وقرروا بيعها . لا فائدة من التشبث بها بعد أن اعتراها الوهن وزحف الصدأ الى اعماقها . عبثا حاولت التمسك بها واقناعهم . قضى الأمر , وصار لزاما على أن أرضخ . أ، أفرط فيها وأدعها تمضى .
هائما أمضى كالمضروب على رأسه , دموعى تسح , مثقوب القلب وحزين , حزين ووحيد .
يومها , ويومها فقط , أدركت على نحو مفجع أن أبى مات .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. جريمة صادمة في مصر.. أب وأم يدفنان ابنهما بعد تعذيبه بالضرب


.. عاجل.. الفنان محمد عبده يعلن إصابته بمرض السرطان في رسالة صو




.. انتظرونا غداً..في كلمة أخيرة والفنانة ياسمين علي والفنان صدق


.. جولة في عاصمة الثقافة الأوروبية لعام 2024 | يوروماكس




.. المخرج كريم السبكي- جمعتني كمياء بالمو?لف وسام صبري في فيلم