الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حكمة الوقواق

صبحي حديدي

2004 / 8 / 24
الادب والفن


تكرّم أحد الأصدقاء فأرسل لي، من دولة الإمارات العربية المتحدة،، مقالة كانت قد نُشرت في ملحق "بيان الكتب" الذي تصدره صحيفة "البيان" الإماراتية. والمقالة التي وقّعها كريم السماوي جاءت في باب "روايات خالدة"، وتتحدّث عن "طيران فوق عشّ الوقواق" للروائي الأمريكي الراحل كين كيسي (1935 ـ 2001)، التي سبق لي أن نقلتها إلى العربية، وصدرت سنة 1981 عن مؤسسة الأبحاث العربية في بيروت، ضمن سلسلة متميّزة بعنوان "من ذاكرة الشعوب"، أشرف على تحريرها آنذاك الصديق الروائي والناقد اللبناني الياس خوري.
الصديق الذي أرسل المقالة أرفقها بقصاصة ساخطة، لأنّ السماوي تجاهل تماماً هذه الحقيقة بالذات: أنّ الرواية تُرجمت بالفعل إلى العربية، وكانت أخلاقيات الحدّ الأدنى تقتضي منه (أو من تحرير ملحق الكتب) الإشارة إلى هذه الحقيقة. وللوهلة الأولى اعتبرت الموضوع عادياً ومألوفاً ولا يستحقّ من الصديق كلّ ذلك السخط، إذْ ليس في وسعنا أن ننتظر من العباد أن يكونوا على إلمام بكلّ وأيّ كتاب تُرجم إلى العربية.
لكنّ قراءة المادّة برهنت لي، على نحو قاطع لا يحتمل الريبة، أنّ السماوي لم يكن على علم بالترجمة فحسب، بل هو قرأها أو وقعت عيناه على غلافها الأخير في أقلّ تقدير! إنه يكتب بوضوح أنّ الرواية "تُرجم نصّها للعربية بـ طيران فوق عشّ الوقواق"، الأمر الذي يدلّ على معرفته بوجود الترجمة. كما يكتب في مكان آخر ما يلي: "إنّ رواية طيران فوق عشّ الوقواق هي أكثر الروايات قدرة على التعبير في زمنها"، وهذا نصّ جاء بالحرف الواحد في كلمة الغلاف الأخير، المستلّة من المقدّمة التي كتبها الياس خوري للترجمة، ومن المحال أن تتسلل حرفياً إلى يراع السماوي عفو الخاطر أو من باب توارد الأفكار!
هنا لا يكون السخط هو الإحساس المناسب، أو الكافي، إزاء فعلة نكراء شنيعة. فما الذي كان سيضير السماوي لو أنه أشار إلى الترجمة كما ينبغي، وكما هو حقّ للرواية، وللروائي، وللمترجم، وللمحرّر، ولدار النشر؟ ألا يكفل القانون لهم جميعاً هذا الحقّ، إذا شاء السماوي الافتئات عليهم، وشاء تحرير "بيان الكتب" أن يتواطأ معه عامداً أو غافلاً؟ وما دام السماوي وصحيفته قد صنّفا الرواية في سجلّ الخلود، أليس ممّا يسرّ الخاطر أن يُشار إلى ترجمة هذا العمل الخالد إلى العربية؟
إنني، كما أشرت مراراً في مناسبات سابقة، شديد الإعتزاز بترجمة هذا العمل بالذات، بين ثمانية أعمال تشرّفت بنقلها إلى العربية. ومصدر اعتزازي ليس راجعاً إلى أنّ هذه الرواية خالدة فحسب، بل أنها شاقّة مركّبة منطوية على تحدّيات لغوية وأسلوبية ودلالية شتّى. ففي هذا العمل الفريد تظلّ اللغة ملتحمة بنسيج الشخصية، ولكن باتجاه البساطة المتناهية التي تتدرّج من سياقات الحوار العامي، بجلافته وخشونته ومرونته، وتحرّره من القاعدة، ومحدودية ألفاظه واشتقاقاته؛ إلى شاعرية اللغة العامية ذاتها، بدفئها وإيحائيتها العالية، وشحنة دلالاتها اللامحدودة، ومضامينها التي تمزج المأساة بالمهزلة والحزن بالغبطة المطلقة في مفردة مشتركة واحدة. إنها، أيضاً، اللغة التي تدخل في تركيب ثالث يصهر جلافة العامية بشاعريتها، فتُصاغ الجملة متناهية البساطة، متناهية العمق، متناهية الصعوبة، في آن معاً.
والرواية شاقّة ضمن اعتبار آخر يتّصل بتقنيات السرد التي اختارها كيسي. إنها رواية ينقلها الزعيم الهندي برومدن، الذي قرّر مواجهة اغتراب العالم عنه بادّعاء الصمم والبكم، فلم تعد المفردات عنده وسائط اتصال بمَن حوله، بل أوعية يصبّ فيها مشاعره وأحاسيسه ورؤاه. إنه لا يلتزم في سرده لما يجري في العالم بما يلتزم به البشر من قواعد عند استخدامهم اللغة وسيطاً للاتصال الاجتماعي: تسيل أفكاره متحررة من كلّ قيد؛ وتبدأ جملته في الزمن الماضي البسيط، لكنه يجبرها على العودة إلى الزمن الحاضر الذي يفضّله ويستخدمه بصرف النظر عن منحى وقوع الزمن؛ والضمائر لا تحدّها صيغتا المفرد والجمع، فهي محسوسة في ذهنه المتّقد الصامت، وهو يكتفي عند نقلها بحجم إحساسه بها...
ولقد زوّد السماوي تحرير "بيان الكتب" بصورة لغلاف الرواية الإنكليزي، الأمر الذي يوحي أنه (إذا لم يكن يسعي إلى ذرّ الرماد في العيون، ليس أكثر!) قد قرأ الأصل الإنكليزي على هذا النحو أو ذاك، وقدّر مشاقّ ترجمته إلى العربية. وما دام صاحبنا قد غضّ النظر عن هذه المشاقّ، فإنّ المرء لا يستطيع إلا أن يستذكر حكمة الرواية كما يعلنها العنوان: طيران الوقواق فوق أعشاش الآخرين! والحال أنّ السماوي يعرف هذه الحكمة، بل هو يصرف الثلث الأوّل من مقالته في شرح سلوكية طائر الوقواق، الذي، في سطور السماوي: "له سكيلوجية [كذا!] مدمرة حيث يقوم برمي بعض الطيور الأخرى من أعشاشها أو أكلها ويضع مكانها بيضه هو، ليتخلص بذلك من فترة الحضانة". وكذلك: "الأكثر غرابة أن فرخ طير الوقواق وبعد خروجه من البيضة بساعات يقوم بالتخلص من البيض المتبقي في العش بدفعه نحو الخارج على الرغم من ضعفه الظاهر بعملية فيها استبسال منقطع النظير"!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل