الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحلام رهن الاعتقال : هكذا رأيت الإله

رويدة سالم

2010 / 7 / 31
الادب والفن


سمعت صدىً كانسياب الخرير، رفعتُ وجهي لأرى زائري. كان عجوزاً يختصر عمرُهُ تاريخ البشر. شعره الأبيض و لحيته الطويلة زاداهُ مع السنين وقاراً و حكمةً. بعينيه حزنٌ دفين و على شفتيهِ ابتسامة تسامُح و عطْف و رحمة. ثوبه الحريري الأبيض ( المرتوق برقعٍ حمراءَ قانية ) يُعانق جسده النحيل بعشق . تقدَّم نحوي طافياً بين سُحُبْ قُطنية ناصعة البياض تحفُّ به ملائكته النورانية ذات الألف جناح...
تعرَّفتُ إليه يوم انتزعوني من حضن والدتي في المستشفى . يومها صرختُ أن يتركوني ارحل معها فلم يهتم أحد لصراخي . بعد ذلك تعلقت بأذيال والدي الذي لم يلحظ وجودي في صراعه مع الساعات المعلقة في كل جُدران أيّامه. كان العالم من حولي كبيراٌ مُخيفاً يُرعِبُني النظر في وجهه فجاء العجوز الوقور ليحميني ..
يُرافقني كل يوم إلى المدرسة و يُحدثني قُبَيْل النوم عن الجنة الخضراء التي توجد فيها أمي.
زارني كما تعوَّد أن يفعل كلما انتابني الحزن و الخوف ، كان صوتٌه عذبُ الهمسِ رقيق الكلمات داعبَ فيَّ روح الطفلة التائهة في كونٍ لا تستبينُ معالمه كالإنسان العاجز أمام المستحيل ..
أَلَفْـتُ معهُ أغاني السعادة و الخلود و قاسمته خبزي و آمالي و أحلامي . استأنست به و اطمأن له قلبي ، مسحَ دمعةً كانت لا تزال على خدي فشعرتُ بدفءٍ يسري في قلبي و يملؤني طمأنينة سرعان ما تبددت حين قال
أنها المرة الأخيرة التي يزورني فيها لأني كبرت و كما لا تنموا الأحلام إلا في عالم الأطفال يودع الإله البشر يوم يتركوا عالم الحكايا و الخرافات ليسبحوا ضد التيار. جلس قبالتي ليودعُني فأشحتُ بوجهي عاتبةً. رَبَتَ على راسي مبتسماً ، و دون أن ينبس بحرف كانت كلماته تنساب إلى عقلي سلسة حلوة متناغمة فـتُسعِـدُ نفسي و تُدغدغني و أرنوا إليه فأرى الهالة النورانية التي تحيط به تكبر و تكبر، حتى استحال عجوزي إلى نورٍ أضاء قاعة الدرس التي كنت محتجزة فيها ثم أضاء المدرسة بل المدينة كلها. ركعت ملائكته خاشعة
دخلت المعلمة و لم تنتبه للعجوز و لا لمن حوله. ابتعدوا ليفسحوا لها المكان و انتحوا ركناً قصياً من القاعة .....
تضائل نور العجوز و بهت و تقلّصَتْ أجنحة مُرافقيه . ثم بدأ حجمه يتقلص شيئا فشيئا. مددت له يدي لأتشبّث به. لكنه ضَلَّ يتضاءل فلم أعد أستبين إلاّ ابتسامةً حزينة على مُحيّاه. ثم اختفى إلى الأبد في حين تردد بالمكان صدىً مخيف:
- لا تشوهوا صورتي كما فعل البشر قبلكم. يكفي ثوبي رتقاً. مللت لعبتهم الدامية و إدعاءاتهم الكاذبة. قَتَلَ أنبيائهم وأوليائهم الحياة باسمي لأنهم أكثر مخلوقاتي بشاعة و وحشية.
التفت إلى المعلمة أرجوها أن تعيده لي فاعتذرت قائلة :
- صغيرتي ، أُصدِّق كل حكاياتك. طفلة أنت بحثتِ عن تفسيرات و بنيت عالمك الخاص بمعالم توهمت وضوحها ..
حدثـتها عن كل ما علّمني إياه العجوز و عن أغانينا الحلوة التي ( ربما ) زادها خيالي بهاء وسحراً فابتسمَتْ واستطردَتْ قائلةً :
- إنه موجود بخيالك فقط ، صنعه الخوف الإنساني والوحدة فيك وأعطياه جسداً و روحاً و لساناً يُردِّد ما نُريد نحن البشر سماعه ..
كان كلامها أشدُّ إيلاما من وداع عجوزي الحنون . عَـزَّ عليا فقد عالمي السحريّ و فراق الأحلام ، فقد كان أنيسي في رحلتي لاكتشاف العالم وكان وجوده يعطي لحياتي معنىً ، إنَّـهُ إلهي المسالم المحب فهل يُعقّلُ أن يكون الإله وهماً !!!؟.
أيقظتني معلمتي من شرودي فرفعت إليها عيوني المبتـلّة بدموع الخيبة . كان وجهها هادئاً ملائكياً واثقاً ، آتاني صوتها الرزين من الهوة العميقة التي تفصل إنساناً متحضراً عن طفلٍ غرير ساذج بسيط :
- إنك تكبرين يا بُنَيّة ، و ستنجحين في مواجهة نفسك و العالم ، ثقي أن الوهم سيسقط فأستعدّي لمواجهة الحقائق القاسية.
كم تمنيت أن يدوم حلمي مع عجوزي الذي رأيتُ فيه إلهاً يستحق كُلَّ حُبّي و احترامي فهو لم يكن دموياً و لم يلتفت لجنسي و انتمائي ، و لم يتوعدني يوماً بنارٍ أبديه. لم أعهد منهُ سوى الحبَّ و التسامح و العطف.
هكذا تمنيتُ أيضاً أن يكون إلهكم... كعجوزي الطيب الرحيم...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - انا اعرفه ايضا
مرثا فرنسيس ( 2010 / 7 / 31 - 14:26 )
انا اعرف هذا الإله عزيزتي رويدا :الذي رأيتُ فيه إلهاً يستحق كُلَّ حُبّي و احترامي فهو لم يكن دموياً و لم يلتفت لجنسي و انتمائي ، و لم يتوعدني يوماً بنارٍ أبديه. لم أعهد منهُ سوى الحبَّ و التسامح و العطف. إنَّـهُ إلهي المسالم المحب
ولكنه ليس عجوزا رغم انه قديم الأيام، ولكنها صورة رسمها له الإنسان وليست حقيقية
خواطرك تنطبق تماما على الهي
تقديري واحترامي


2 - السيدة رويدا سالم المحترمة
ليندا كبرييل ( 2010 / 8 / 2 - 07:23 )
أرجو أن تتفضلي بقبول تعليقي , لقد صورت حكايتك مع الإله بطريقة أدبية فنية تناثرت بين الجمل صور جميلة حقاً , أوحت لي حكايتك بالكثير وأنا أقرؤها , وأحب أن أقول لك أني ما زلت أستجرّ حلمي الذي هو حلمك , لقد كبرت على الأوهام لكني لم أكبر ولا أريد أن يفلت الحلم الجميل من يدي , فكل ما علمني إياه العجوز قبل أن يرحل ويغادر عالمي أنسنته بطريقتي الخاصة , ولا أسمح لأحد أن يلعب بالصورة التي اعتبرها مفخرتي الوحيدة أني أنجزتها .الوداع سنة في الحياة وعلينا تقبلها ومتابعة الطريق مع آخر دون أن أفقد المعنى الجميل الذي عشته , أرطب أيامي بالمحبة التي علمني إياها وإن كنت أعاني في عالم أناني فقدَ الرحمة والتسامح . مهما كان العجوز قبيحاً أيعقل أنه لم يملك ولو ذرة من الخير ؟ أجيبيني أختي رويدة , ليس هناك شر دائم ولا خير دائم هكذا تقول البوذية, في بطن الخير يتواجد الشر وفي بطن الشر يتواجد الخير وما عليك إلا الاعتماد على عقلك لتتناول الحياة بالطريقة التي أنت تحبكها لنفسك من خيوط الخير والشر التي أمامك , فأيها تختار ؟ تفضلي بقبول إعجابي وشكري


3 - العجوز كما اراه
رويدة سالم ( 2010 / 8 / 2 - 22:12 )
مرثا و ليندا شكرا لمروركما و تشجيعكما. انها شيء من الصور التي صنعناها بانفسنا لملاك او إلاه او رمز للخير لما كنا نرى الدنيا وردية باسمة قبل ان يشوهها التعصب و الطائفية و الصراع المادي و السياسيى الذي انخرطنا فيه دون أختيار. عجوزي احبه لانه محبة و عطف و رحمة لكني لا احب الادعياء و الاولياء الذين استغلوا اسمه ليشوهوا التاريخ و الحياة و يسبغوها بلون الدم القاني و المعاناة و الالم بالنسبة للبودية اراها
أجمل الديانات رغم اني لا اعتنق ايا منها وأعتقد أن هذا هوسر أنتشارها فبوذا روحاني اكثر منه جسداً وملذات لم يتوعد أتباعه شراً
لكما ودي و أحترامي و الف قبلة


4 - مرحبا بك.. ايتها النورانية..
النوراني ( 2011 / 8 / 8 - 09:19 )
لك بهجة حب لا تفنى ولا تبلى.. ودمت نورا..
حسن ميّ النوراني مؤسس دعوة النورانية

اخر الافلام

.. صباح العربية | بمشاركة نجوم عالميين.. زرقاء اليمامة: أول أوب


.. -صباح العربية- يلتقي فنانة الأوبرا السعودية سوسن البهيتي




.. الممثل الأميركي مارك هامل يروي موقفا طريفا أثناء زيارته لمكت


.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري




.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض