الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


فيروز أسمى من قرار المنع

رائد الدبس

2010 / 7 / 31
الادب والفن


حينما تفتقت عبقرية أحدهم بعد ثورة الضباط الأحرار في مصر عام 1952 بإصدار قرار بمنع السيدة أم كلثوم من الغناء، وتناهى الخبر إلى سمع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، قال ساخراً من القرار الساذج الذي برّره من اتخذه بحجة انتماء أغانيها للعهد الملكي البائد : "الأهرام أيضاً تنتمي للعهد البائد.. أزيلوها من مكانها إذاً" !! ثم ذهب برفقة اثنين من رفاقه في مجلس قيادة الثورة ليزور السيدة أم كلثوم في بيتها ويدعوها لمواصلة الغناء . ولقد ترك ذلك الموقف الذي اتخذه عبد الناصر أثراً لا يُمحى في نفس أم كلثوم، التي عبّرت عنه من خلال أغانيها ومواقفها اللاحقة طيلة حياتها.
قرار منع السيدة أم كلثوم من الغناء كان صادراً عن خلفية سياسية ساذجة لضابط عسكري "ثوري" ساذج اعتقد أنه يخدم الثورة بقراره آنذاك. ومن محاسن الصدف أن قراره لم يصمد لأيام أو لساعات . أما قرار منع السيدة فيروز من الغناء فمن مساوئ القدر وسخريته السوداء أن يصدر عن هيئة قضائية على أساس خلاف قانوني وقع بين ورثة الأخوين رحباني عاصي ومنصور، أدى بورثة منصور إلى رفع الدعوى ضد السيدة فيروز.!!
من سخريات القدر أن السيدة فيروز في هذه الواقعة القانونية لم يُنظَر إليها سوى كمواطنة مُشتكى عليها وتمّ تجاهل مكانتها في قلوب الملايين وحياتهم وأحلامهم وأفراحهم وأحزانهم. ليس هذا فحسب، بل تمّ تجاهل مكانتها الرمزية بالنسبة للأوطان التي غنت لها من لبنان وبيروت التي لا تموت ، وتراب الجنوب المشغول بقلوب الناس، إلى زهرة المدائن التي ترحل إليها عيونهم كل يوم . إلى مصر والشام وبغداد وعمّان وتونس وكل مدائن العرب وأوطانهم على امتداد نصف قرن من الزمن العربي المثقَل بالهزائم والانكسارات الجمعية والفردية.. ومن سخريات هذا القدر أيضاً أن بعض الحقوقيين سيقولون كلاماً وجيهاً من وجهة نظر القانون وقواعده العامة والمجردة، من قبيل تساوي المواطنين أمام القانون وغير ذلك من كلام. لكنه في الحقيقة وضمن الفضاء الاجتماعي الذي يعمل في نطاقه القانون في مثل هذه الحالة، لن يكون أكثر من كلام ساذج لأنه يتجاهل كل ما عدا نص القانون وحرفيته المجردة .!!
الحديث عن فيروز والأخوين عاصي ومنصور رحباني هو حديث عن نبع إبداعي خالد من بين أكثر ينابيع الحياة غزارة وصفاءً وعذوبة في تاريخنا العربي الحديث. نبع لا يروي حياة واحدة بل حيوات متعددة الأرواح والأمكنة والأزمنة. وكأنّ لسان حال هذا النبع يجسّد القول الشهير لفلوبير :كنتُ أريد أن أحيا كل الحيوات. . بهذا المعنى "الفلوبيري" كان غناء السيدة فيروز يقدم لمجتمعاتنا العربية وللإنسانية كلها ، فنّاً إنسانيّاً راقياً عابراً لحدود المكان والزمان، ومعبّراً عن كل التجارب الإنسانية الممكنة، بأقصى درجات الشفافية والجمال الإنساني الذي يعلو ويسود ويحكم قلوب الناس، بطريقة لا يمكن للقانون المجرد أن يدركها.
يمكن للمرء أن يتخيل من باب حسن الظن والتخمين، أن يد رجل القانون الذي أصدر الحكم قد ارتعشت، وأن ضغط دمه قد ارتفع وهو يوقع قراراً كهذا مضطراً لتطبيق أحكام القانون طالما أن هنالك دعوى قضائية-قانونية.!! لكن هذه الواقعة القانونية في حد ذاتها، تحيلنا إلى السؤال حول علاقة القانون بالثقافة والفن الحقيقي الراقي وقيمته في بلادنا من ناحية، وحول مدى اضطراب القانون عندما يتعلق الأمر بتطبيقه على أصحاب الجاه والنفوذ ومراكز القوى؟ وما مدى أهمية تطبيق القانون تطبيقاً واعياً وخلاقاً لا يمسّ بمبدأ استقرار المراكز القانونية في المجتمع، ولا يمس بمبدأ تساوي جميع المواطنين تحت سلطته وسيادته، لكن دون تجاهل روح الشرائع والقوانين . وفوق هذه الروح التي ينبغي أن تؤخذ بالحسبان، هنالك أرواح الناس اللذين وُضعت من أجلهم كل الشرائع والقوانين .
التجاهل لم يتوقف عند هذا الحد، فالصحف اللبنانية وبعض الصحف العربية تسجل استغرابها من صمت وتجاهل غالبية الفنانين والمطربين والمطربات اللبنانيات والعربيات لهذا القرار، وكأنه خلاف قانوني-عائلي عادي لا يستوجب التعبير عن أي موقف أو إبداء رأي. أما المتضامنون والناشطون المعترضون على القرار، فبعضهم من المثقفين والإعلاميين ، وغالبيتهم من الناس العاديين اللذين غنّت لهم فيروز على امتداد أكثر من نصف قرن من الزمان المرّ المثخن بالجراح وخيبات الأمل وانعدام الأمن والطمأنينة. حيث كان الأخوين رحباني وفيروز بمثابة هدية القدر في ليل العرب الطويل، وكان صوتها بمثابة ملاك الرحمة الذي يهبط من عليائه السماوية كل صباح ومساءٍ محملاً بهدايا الحب والفرح وبشائر الأمل والحرية، وبكل ما يداوي جراح أرواح الناس. وفي كل مرة غنّت من بين مئات الأغاني المحفورة في ذاكرة لا تشيخ ولا تصاب بداء الملل : "أنا صار لازم ودعكم" . كان الناس يرفضون وداعها لأنها سكنت أرواحهم . وهل تطيق الروح وداع ساكنيها ؟؟ يتساءل المرء : أما من حكيم أو لجنة حكماء عربية أو لبنانية تبادر لوساطة كريمة تنقذ رمزية فيروز ومكانتها من وحل نزاع كهذا؟؟ وماذا لو كانت السيدة فيروز صاحبة جاه ونفوذ سلطوي أو معبّرة عن "توازن طائفي"، هل كان سيصدر بحقها قرار كهذا؟
واقعة منع السيدة فيروز من الغناء، شديدة الدلالة والكثافة الرمزية : منعٌ وتجاهل ونسيان. وهبوط بكل ما هو سماوي إلى ما هو أرضي وزائل، وأنانية يمارسها ورثة مجدٍ لم يسهموا بصنعه. وأخطاء صعبة وثقيلة يجري ارتكابها على امتداد تاريخنا الطويل بصورة عادية تنمّ عن عدم اكتراث ولامبالاة قاتلة. وفي كل مرة تحدث فيها وقائع من هذا النوع، سنجد من يتحدثون عن سبب ظاهريّ الوجاهة والحق، لكنه يفتقر للركن الأخلاقي والمعنوي. هكذا جرت وتجري كل عمليات المنع والإقصاء والتجاهل على امتداد تاريخ حافل. أليس هذا هو المشتل التقليدي الذي تنبت فيه أصعب الأخطاء "الوجيهة" ؟؟ أليس هذا تعبيراً رمزياً عمّا يسميها المفكر أركون ب "سوسيولوجيا الفشل" ؟؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أقرب أصدقاء صلاح السعدني.. شجرة خوخ تطرح على قبر الفنان أبو


.. حورية فرغلي: اخترت تقديم -رابونزل بالمصري- عشان ما تعملتش قب




.. بل: برامج تعليم اللغة الإنكليزية موجودة بدول شمال أفريقيا


.. أغنية خاصة من ثلاثي البهجة الفنانة فاطمة محمد علي وبناتها لـ




.. اللعبة قلبت بسلطنة بين الأم وبناتها.. شوية طَرَب???? مع ثلاث