الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مراسيم الدّفن الجميل / صفحة من كتاب أصدقائي

جمال علي الحلاق

2010 / 8 / 3
سيرة ذاتية



قال صاحبي ظافر يعقوب ونحن ندخل مقبرة تمتدّ طولاً وعرضاً في إخضرارٍ كأنّها ساحة للعبة الغولف : " هذا المشهد يُحَبِبُ الموت " . كانت المرّة الأولى له في حضور مراسيم دفن في سيدني ، أعجبني إنطباعه ، رغم أنّني كنت أتوقّع البشاعة القادمة ، فقد تكون المقبرة جميلة ، الا أنّ مراسيم الدّفن كفيلة بقتل هذا الإنطباع .
لم نتعوّد أن تكون مقابرنا جميلة ، على العكس تماما ، فهي عادة ما تكون موحشة ، قاحلة ، كأنّها صحارى ، والقبور أطلال ، تتراكض فيها وحولها الجرذان ، والداخل إليها - من الناس - والخارج منها إمتداد لرملها .
لم يحدث أن فكّرنا يوما في أن تكون المقبرة متنزّهاً على كثرة تردّد الأحياء لزيارة الموتى ، سيبدو كلامي هذا في غاية البلادة عندما نعلم أنّ المتنزّهات كثقافة وكممارسة إجتماعية إنمسخت مع بداية الثمانينيات لتنمحي مع بداية التسعينيات ، فولد جيل جديد ليس لكلمة تنزّه حضور في قاموسه اليومي .
ثمّ أنّ وظيفة المقبرة في ثقافتنا تكاد أن تكون وظيفة تذكيرية ، وأنّ جفافها وعقمها يشيران الى جفاف وعقم الحياة ، فالمقبرة تؤدي رسالتها المطلوبة منها كلّما تصحّرت وتقحّلت .
وبالتأكيد فأنّ عملية كسر هذه الصورة أو الخروج عليها لا يتمّ إلا بتحطيم الصورة العقيمة لوجود الفرد في العالم في ذهنية الثقافة السائدة . المطلوب إذن هو إحترام الإنسان بدءاً ، هكذا فقط يبدأ العشب بالنمو في مقابرنا ، ومع العشب تتغيّر وظيفة المقبرة من تذكيرية الى إحتفائية ، تتحوّل من صحراء الى صالة تحتفي بأفراد كانوا أحياء وساهموا بطريقة أو بأخرى في صنع الحياة .
ترتبط مراسيم الدفن لدينا - وقد رأيتها لمرّاتٍ عديدةٍ عن كثب - بشعائر تزيد من شحوب المقبرة ، وتكرّس بشاعة الإجراءات ، بل تساهم في جعل الحياة آيلة للسقوط ، تذكّرنا بإنهيار البنايات ، وبصعود التسونامي ليكتسح كلّ ما أمامه من بشر وحيوان ونبات ، بطريقة تكاد أن تصيح : لا معنى للأحياء ، ولا للموتى .
إبتداءً من إخراج جثمان الميّت من تابوته ، والتناوب الإنفعالي على حمله بالأيدي ، فينحني الجثمان هنا ، ويستقيم هناك ، تتدلّى الرجل أو يتدلّى الرأس ، الى أن يتمّ إنزاله الى القبر بعد أن يكون ثمّة من يستقبله فيه ، ليصار الى دسّه في الجانب الأيمن من قعر اللحد دفعاً وحشراً إن لم يتّسع المكان ، ومن ثمّ تغليف الفتحة الجانبية بطابوق أو بقطع من الكاشي ، عندها يتصاعد الإنفعال الجمعي مع بداية عملية جماعية في إهالة التراب ، بالمساحي والأيادي ، وبهوس يعلو مع الغبار المتعالي ، مع نزيف جماعي من بكاء ونحيب وصراخ ترافقها قراءات قرآنية تزيد من سوداوية النهاية ، إجراءات لا علاقة لها بالتحضّر ، ومشهد يُفرِغ الإنسان من إنسانيته ، يجعل الموت كابوساً هائلاً ، يضيع الحيّ والميّت فيه على السواء .
كنت أتوقّع ذلك أيضا عندما قال صاحبي بأنّ مشهد الإخضرار يُحبّب الموت ، علما أنّني سبق لي وأن حضرت عملية دفن عراقية في سيدني أيضا ، وكانت إمتداداً مماثلاً لبشاعة مراسيم الدفن العراقي المعروف .
إلا أنّ ما حدث في هذه المرّة كان شيئاً مختلفاً تماماً ، كان عدد المشيّعين يربو على المئة والخمسين فرداً ، بين عرب وأكراد وإيرانيين وأستراليين وأفارقة وصينين وأشخاص أخرين من بلدان أخرى ، كانت النسبة الكبيرة منهم تحمل باقات ورود إختلفت أنواعها وألوانها ، كاختلاف أنواع الناس واختلاف ألوانهم .
كنّا في مراسيم دفن الجميلة ليلى محمد ، كان النعش مغطّى بباقة كبيرة من الورد ، قادتنا السيّارة التي تحمل النعش بين حدائق المقبرة ، وكنّا رتلاً طويلاً يتّجه الى خاتمة .
توقّفنا عند مكان ما كان مُهيّأً للإقامة الأخيرة ، نزلتُ من السيّارة بصحبة صديقي ظافر يعقوب ، وقد دفعنا الفضول معا الى أن نقف عند فم الحفرة ، إستعدادا لمراقبة أدقّ التفاصيل ، سواء ما يحدث الآن أو غدا .
لم يكن هناك حفر جانبي في القاع ، كما تمّ تغليف الحواف المحيطة بكاربت أخضر تدلّى قسم منه الى داخل القبر كأنّه إمتداد للعشب ، كما لو أنّ الحياة تحاول أن تمتدّ على الموت ، وكان ثمّة جهاز ريكوردر على مسافة متر .
رأيت أيضا عتلة تمّ نصبها على فوّهة القبر ، عتلة بحزامين أخضرين أيضا ، تمّ تثبيت النعش عليهما ، كانت المفاجأة الأولى لي أنّ جثمان الجميلة ليلى محمد بقي في داخل النعش محافظاً على هيبته ، لم يُكشف عنه ، بل بقي مستقيماً متوّجاً بألوان الورد ، وبعد أن تمّ تثبيت النعش على عتلة الإنزال تساءل المسؤول عن مراسيم عملية الدفن ، الذي كان هو وكادره لا يقوم بحركة أو إجراء دون أن ينحني للنعش ، لا تخلو الإنحناءة من ميكانيكية ، لكنّها في نفس الوقت تمتلك شحنة هائلة من الإحترام سواء للميّت أو للحيّ المرافق ، قال : " هل لديكم ثمّة موسيقى خاصّة يمكن أن تُعزف لحظة إنزال النعش الى القبر ؟ "
وقبل أن تبدأ الموسيقى بالتحليق ، وفي لحظة صمت تشبه سرب حمام حطّ على المكان ، إندفعت الجميلة نادية محمود ترتجل خطاباً إنسانيّاً مؤثّراً ، تحدّثت فيه عن مآثر رفيقة دربها الطويل ، تحدّثت عن الإنسانة والفعل والغاية ، وعن خسارة الفقدان التي تدعو الى الانتصار على كلّ ما هو غير متحضّر ، وعلى كلّ ما هو غير إنساني .
ثمّ تمّ عزف النشيد الأممي ، كان النعش المغلّف بالورد ينزل ببطء كما لو أنّه يؤدي رقصته الأخيرة ، دراما عالية جدا ، كان ثمّة حياة تنبعث في عملية الدفن ، جعلت المشيّعين يراقبون المراسيم بعيدا عن البكاء والصراخ والنحيب ، كان أشبه بعرض مسرحي ، فيه جمالية تدعو الى إحترام الإنسان ، تضخّ فيه إنسانية أكثر شفافية ، وأكثر نبلا .
عندما وصل النعش الى قاع القبر مع نهاية النشيد الأممي ، تمّ جمع باقات ورود المشيّعين على طبقة خشب كبيرة ، أصبحتْ غطاءً لفتحة القبر ، لم يكن هناك إهالة حفنة تراب واحدة ، على العكس تماما ، تمّ تغليف النعش والقبر بالورد ، كنّا نودّع ليلى محمد باحتفاء ، قال صديقي محسن بني سعيد الذي كان حاضراً أيضا : " جمالية الدفن تليق بجمال ليلى " .
لم أخرج من المقبرة خائفاً أو حزيناً ، كان العرض المسرحي جميلاً وخليقاً بأن يجعلني أفكّر بأشياء أخرى ، أشياء كثيرة تخصّ قيمة الإنسان ، وقيمة الحفاظ على هيبة وجوده ، فالموت ليس نهاية الحوار ، ستظلّ ليلى محمد بيننا ، مراسيم الدفن الجميل منحتها حياة أخرى ، لقد غادرنا المقبرة وليلى مغلّفة بالورد ، ما حدث هناك أنّنا لم ندفنها ، بل توّجناها باحترام وحبّ كبيرين ، لأنّها تستحق ذلك حقّاً .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - المقابر
نور احمد محمد ( 2010 / 8 / 3 - 20:31 )
في بلد الموت اليومي ا يربط الاموات بالحبال فوق سقوف السيارات و لم يخطر ببال احدا من المشتغلين بالدين و الذين عملوا حتى في تجارة الدجاج و اللحوم (الحلال) من تغيير هذة الثقافة الى استخدام سيارات نقل الموتى التي تحافظ على هيبة الميت


2 - ستبقى الصورة حية في اذهان الحاضرين
نادية محمود ( 2010 / 8 / 4 - 06:10 )
العزيز جمال الحلاق: حين نقول ان الشيوعية العمالية تؤسس لثقافة جديدة في المجتمع، انسانية و راقية و متمدنة لا ياتي ذلك من باب الدعاية الحزبية، البشرية بحق تستحق احتراما و تقديرا من ذلك الذي تتلقاه حتى الان. نعم لقد اعلنت لينا ابنة ليلى محمد، بان يجب ان نتذكر ليلى محمد بمحبة و بفرح، لانها كانت سعيدة و مرحة و تنشر الفرح، رغم الحزن الدفيق في الاعماق على انه لم تعد هناك. الا ان الابنة، ابنة امها، دعت في يوم المراسيم الى ان يكون يوما للاحتفال بحياتها. كان على المراسيم ان تكون راقية، مراسيم دفن تليق ببشر، اتذكر يوما حين تسائلت مندهشة عن سبب وضع تلاوات القران لموت شخص شيوعي، رد علي احد الاصدقاء متسائلا و كيف تدفنون موتاكم اذن؟ قلت بالاغاني التي يحب، بشرب كاس من الواين نخب حياته الماضية التي قضاها معنا، على انشاد النشيد الاممي، نرتدي احتراما اجمل ما لدينا. العزيز جمال لم يجري تصوير مراسيم الدفن نزولا عند رغبة زوج الفقيدة ليلى الا انك بوصفك الدقيق و الجميل و المقارن، انما اعطت صورة حية لما حدث فعلا، شكرا لك ودمت طيبا .


3 - هذه الحقيقة!
سميح الحائر ( 2010 / 8 / 4 - 09:17 )
لا دار للمرء يعد الموت يسكنها *** الا الذي هو قبل المت بانيها
فان بناها يخير طاب مسكنها *** وان بناها بشر خاب بانيها
اموالنا لذوي الميراث نتركها *** ودورنا لخراب الهر نبنيها
الامام علي عليه السلام

اخر الافلام

.. إسرائيل تغلق -الجزيرة- والقناة القطرية تندد بـ-فعل إجرامي- •


.. حسابات حماس ونتنياهو.. عقبة في طريق المفاوضات | #ملف_اليوم




.. حرب غزة.. مفاوضاتُ التهدئة في القاهرة تتواصل


.. وزير الاتصالات الإسرائيلي: الحكومة قررت بالإجماع إغلاق بوق ا




.. تضرر المباني والشوارع في مستوطنة كريات شمونة جراء استهدافها