الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الأسطول التركي يخلط الأوراق السياسية في إسرائيل والمنطقة

يعقوب بن افرات

2010 / 8 / 4
مواضيع وابحاث سياسية


رد الفعل الدولي على قتل تسعة من النشيطين على متن سفينة مرمرة، أدخل إسرائيل إلى حالة من الصدمة والعزلة. عمليا كشف الحدث عن سأم العالم وعدم ثقته بحكومة نتانياهو اليمينية، وبسياسة القوة التي تنتهجها إسرائيل منذ سنوات تجاه القضية الفلسطينية. سنوات طويلة من المماطلة في المفاوضات مع الفلسطينيين، وسياسة القمع تجاههم، مشاريع تهويد القدس، تكثيف الاستيطان، الحد من حرية الحركة داخل الضفة الغربية، الجدار الفاصل، الحصار والحرب الاخيرة على غزة - كل ذلك وغيره من الاجراءات القمعية والتعسفية بحق الشعب الفلسطيني خلقت رأيا عاما عالميا ضد اسرائيل، ومطلبا واضحا بوقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال. إزاء هذا الواقع اضطرت اسرائيل لتشكيل لجنة للتحقيق في حادثة الأسطول، كما اتخذت اجراءات لتخفيف الحصار المضروب على غزة منذ خمس سنوات.

في مطلع العقد تمتعت اسرائيل بدعم كلي من الرئيس الامريكي جورج بوش، الذي ذهب بعيدا جدا في تفهّم رفض اسرائيل القيام بأية خطوة للتوصل الى حل للقضية الفلسطينية. في المناخ الذي ساد تلك الفترة، ضاع وقت ثمين في مفاوضات عقيمة استغلتها اسرائيل للدعاية الإعلامية، وللتغطية على إحكام سيطرتها على المناطق المحتلة وحصارها لحكومة حماس. أما سياسة بوش نفسها، فخلّفت حالة من الفوضى الإقليمية بدءا بافغانستان والعراق، وانتهاء بالعلاقة مع سورية ولبنان وفلسطين. صعود نجم ايران كان النتيجة التي أفرزتها سياسة بوش العمياء.

مع وصول اوباما سدة الحكم، تغير التوجه الامريكي تجاه اسرائيل. ولم يكن ذلك ناجما فقط عن فشل سياسة بوش في المنطقة والغضب الجماهيري المتزايد ضد امريكا في المنطقة، بل أيضا سببه الأزمة الاقتصادية العميقة التي ألمّت بالاقتصاد الامريكي وهددت بجر العالم كله نحو الفوضى الاقتصادية. أمريكا لا تستطيع معالجة مشكلتين في نفس الوقت. عليها الانسحاب من حروبها في العراق وأفغانستان، لكي تستطيع التفرغ لمعالجة الازمة الاقتصادية التي تمس بحياة الأغلبية الساحقة من مواطنيها. ولكن للخروج من العراق وافغانستان يحتاج اوباما للعرب، وهؤلاء يشترطون تعاونهم بلجم اسرائيل وحل القضية الفلسطينية.

هذا السبب الذي جعل إدارة اوباما تدخل في صدام مباشر مع نتانياهو الذي فضّل، لاعتبارات سياسية ضيقة، تشكيل ائتلاف حكومي يميني متطرف، دون حزب كديما. الى هذه الثغرة في العلاقات بين امريكا وإسرائيل، دخل اكثر من عنصر: فقد شددت اوروبا موقفها تجاه اسرائيل، ومن بعدها جاءت تركيا، حليف استراتيجي سابق لاسرائيل وعضو فعال في حلف شمال الاطلسي، وبدأت تغازل المعسكر الايراني وفتحت خطا مباشرا مع حماس في غزة، في محاولة للعب دور اكثر فاعلية في الشرق الاوسط. من هنا، يعتبر حدث الاسطول التركي تحولا استراتيجيا في المنطقة.

تزامنت الازمة مع تركيا مع قبول اسرائيل لمنظمة الدول الصناعية المتطورة "OECD"، الأمر الذي أبرز التناقض التي تواجهه اسرائيل. فمن جهة، نجا الاقتصاد الاسرائيلي من الازمة الاقتصادية العالمية، غير ان كل الانجازات الاقتصادية والارتفاع الملحوظ في مستوى معيشة الشرائح المتوسطة العليا، ليست مضمونة بل مهددة بسبب العزلة السياسية التي دخلتها اسرائيل.

وقد أوضحت الادارة الامريكية في أكثر من مناسبة انها لن تحتمل استمرار النزاع الاسرائيلي الفلسطيني، وانها لن تقدم دعما تلقائيا للاحتلال وممارساته تجاه الفلسطينيين. ان سياسة الشيك المفتوح والانحياز الكلي لإسرائيل بدأت تضر بموقع ومصالح أمريكا الاستراتيجية. ولكن من جهة اخرى، العلاقة مع اسرائيل والتي تضمن تفوّقها على العرب من خلال الأسلحة النووية، تبقى ركنا اساسيا في العلاقة بين البلدين، بغض النظر عن هوية الحزب الحاكم في امريكا - ديمقراطي كان او جمهوري. لكن على المستوى السياسي يبقى الخلاف ثابتا، ففي حين تعتقد الادارة الامريكية ان اقامة دولة فلسطينية ذات سيادة جزئية لا تضر بوجود اسرائيل، تخشى المؤسسة الحاكمة في اسرائيل الانسحاب من المناطق المحتلة ولا تريد المواجهة مع المستوطنين.

ما تريده الادرة الامريكية هو دفع نتانياهو لتغيير ائتلافه اليميني، من خلال إدخال حزب كاديما للحكومة. وقد لمح اوباما بكل الطرق الممكنة بعدم رضاه عن الحكومة الراهنة، ولكنه عبر في نفس الوقت عن التزامه بأمن اسرائيل. ورغم كل الاجراءات التي اتخذتها الولايات المتحدة، مثل دعم الوثيقة التي تدعو اسرائيل للتوقيع على معاهدة الحد من نشر الاسلحة النووية؛ النداء لفك الحصار عن غزة؛ المطالبة بتشكيل لجنة تحقيق في حادثة الاسطول التركي وإجبار نتانياهو على الاعلان عن تجميد الاستيطان حتى ايلول القادم – رغم كل ذلك يصر نتانياهو على عدم تغيير ائتلافه، حتى لو كان الثمن عزلة دولية وخلاف مستمر مع الامريكان.

مع هذا لا بد من الاشارة الى ان هذه السياسة اليمينية تؤثر على العلاقات داخل الحكومة نفسها، وخاصة داخل حزب العمل. فقد فقدَ زعيم حزب العمل، ايهود براك، تأييد الوزراء من حزبه وعلى رأسهم وزير الصناعة والرجل المؤثر في الحزب، بنيامين بن اليعزر. ان موقف اغلبية اعضاء حزب العمل هو انه لا مفر لاسرائيل من تغيير سياستها تجاه الفلسطينيين والدخول بمفاوضات مباشرة وجدية للوصول الى حل، وإذا اقتضى الامر إجراء تغيير حكومي والائتلاف مع حزب كاديما، فليكن.

على هذه الخلفية - العزلة الدولية وزعزعة الائتلاف الحاكم – تم في منتصف تموز اللقاء بين اوباما ونتانياهو لرأب الصدع بين الجانبين. واضح ان اوباما يريد سد الثغرة بينه وبين اسرائيل، خاصة بعد ان دخلت تركيا على الخط الايراني وصوتت ضد قرار مجلس الامن بفرض العقوبات على ايران، وقامت ايضا بإتمام اتفاق مع ايران بمشاركة البرازيل لنقل جزء من مشروع تخصيب اليورانيوم الى اراضيها لسد الطريق امام العقوبات الدولية. علاوة على ذلك، فرضت الانتخابات القريبة للكونغرس (نوفمبر المقبل) على اوباما الهدنة مع نتانياهو، ارضاء للنواب الديمقراطيين الذي يسعون لكسب "الصوت اليهودي". ولكن بعد نوفمبر ستنتهي الهدنة، وسيكون على نتانياهو ان يثبت ان الدعم الذي حظي به في زيارته الاخيرة لواشنطن لم يكن مجانيا، وسيقوم بخطوات ملموسة لتحريك المفاوضات مع الفلسطينيين من جديد.

الازمة التي تفجرت مؤخرا بين نتانياهو وليبرمان بسبب عدم الاستجابة لمتطلبات وزراء حزب "اسرائيل بيتنا" في الحكومة، ورفض نتانياهو تبني مشروع قانون ليبرمان بشأن "التحويل الى اليهودية"، من شأنها ان تدل ان هناك تفكيرا داخل الائتلاف القائم باستبدال محتمل لحزب ليبرمان بحزب كاديما. في نفس الاتجاه، كان اللقاء العلني بين ايهود براك وتسيبي ليفني الذي بحث في امكانية انضمام كاديما الى الحكومة تماشيا مع المطلب الامريكي.
الخلاف الفلسطيني يتعمق

في الجانب الفلسطيني ايضا عمّق حدث الاسطول التركي الانشقاق بين سلطة ابو مازن وبين حماس. فقد استطاعت حماس ان تجند لصفها دولة اقليمية مثل تركيا، التي كانت لها علاقات امنية وثيقة مع اسرائيل، ونجحت في كسب الرأي العام العالمي وادخال اسرائيل الى عزلة دبلوماسية، وحتى الى ازمة مع الادارة الامريكية نفسها. وأجبرت حماس اسرائيل على تخفيف الحصار، الامر الذي خلق ازمة كبيرة داخل اسرائيل مع انطلاق المسيرة الشعبية لعائلة جلعاد شليط والتي تطالب نتانياهو بالاستجابة لشروط حماس لتحرير الجندي الاسرائيلي.

موضوع الحصار على غزة تحول الى موضوع رئيسي في حملات الحزب الحاكم في تركيا، في دعايته ضد المعارضة العلمانية. كذلك وظّفت حماس حدث الاسطول لصالحها في معركتها ضد السلطة الفلسطينية. وقد بلغ الخلاف من العمق لدرجة ان كل مكسب لحماس صار يعتبر تلقائيا هزيمة مباشرة لفتح.

السلطة الفلسطينية من جانبها، بدت متواطئة للنهاية مع اسرائيل في قضية الحصار بالذات، ولم يثنها عن موقفها دعم الرأي العام العالمي لانهاء الحصار. فالسلطة الفلسطينية ومصر تصران على ان انهاء الحصار مشروط باتفاق المصالحة بين حماس وفتح برعاية مصرية، والذي يضمن سيطرة السلطة على معبر رفح.

كنا قد اكدنا بعد انتهاء الحرب الاخيرة على غزة ان "عهد المقاومة" انتهى، ويبدو ان حماس بدأت تدرك الواقع، و"اكتشفت" اسلوبا أكثر نجاعة من القسام لفك الحصار والاعتراف بها، وهو الاساطيل والضغط السياسي والمعنوي على اسرائيل. ما كان بديهيا بالنسبة لنا، وهو القناعة بان موازين القوى بين اسرائيل وحماس لا تسمح بالمقاومة المسلحة، اصبح بديهيا لكل الشعب الفلسطيني. ومع هذا لا تزال حماس واهمة بان الاساليب الدبلوماسية ستمنحها ما لم تكسبه من العمليات الانتحارية، وهي تخطئ في ذلك من جديد. ان الرأي العام العالمي المتعاطف مع سكان غزة المحاصرين، لا يقبل موقف حماس المتطرف الرافض لأي نوع من الحل مع اسرائيل والساعي لفرض عقيدته الدينية على الشعب الفلسطيني.

في هذه الظروف يسعى الوسيط الامريكي في المنطقة، جورج ميتشل، لاجبار السلطة الفلسطينية على الدخول في مفاوضات مباشرة مع اسرائيل، بعد فشل المفاوضات غير المباشرة في تحقيق أية نتيجة. غير ان الرأي العام ضد اسرائيل الذي تشكل بعد حادثة الاسطول، يصعّب على السلطة القبول بالمطلب الامريكي. وليس هذا فحسب ما يمنع التقدم في العملية السلمية، بل ايضا القناعة الفلسطينية بان الحكومة اليمينية في اسرائيل ترفض الالتزام بما طرحته الحكومات الاسرائيلية السابقة، وتصر على مطالب في مجال الامن والحدود يصعب على السلطة الفلسطينية الاستجابة لها.

ابو مازن يخشى ان يكون دخوله المفاوضات المباشرة مجرد خدمة مجانية يقدمها الى نتانياهو لمساعدته في الخروج من العزلة الدولية (التي ادخلته اليها حماس)، وإعانته على كسب الوقت دون إحداث تغيير في تركيبة ائتلافه وإقصاء اليمين المتطرف منها. اما هو، ابو مازن، فسيخاطر بفقدان ما تبقى له من مصداقية، دون أن يكون هناك اي ضمان بان تسفر المفاوضات المباشرة عن نتيجة مرضية للفلسطينيين.

الاحزاب العربية تعزل نفسها

كانت مشاركة عدد من ابرز القيادات العربية في الاسطول التركي، نقلة اضافية في العلاقة بين الاحزاب العربية وبين الدولة. فباستثناء ممثلي الجبهة شاركت بقية الاحزاب وفي المقدمة رئيس لجنة المتابعة، محمد زيدان، رئيس الجناح الشمالي للحركة الاسلامية، الشيخ رائد صلاح، وعضو الكنيست عن حزب التجمع، حنين زعبي. وإذا اخذنا بعين الاعتبار ان الحصار على غزة اصبح موضوعا سياسيا رئيسيا، ونقطة خلاف اساسية بين فتح وحماس وبين المعسكر الراديكالي المتطرف بقيادة ايران والمعسكر المتواطئ مع امريكا برئاسة مصر، فمن الواضح الى أي طرف انحازت القيادة العربية في اسرائيل.

الحقيقة ان الاجندة السياسية وراء الاسطول هي اجندة الحركة الاسلامية بجناحها المتطرف الذي يقوده الشيخ رائد صلاح. ان نهج "المقاومة" التي تبناه رائد صلاح والمربوط عضويا بحركة حماس في دمشق، فرض نفسه على ارض الواقع كأجندة الجماهير العربية في اسرائيل. الشيخ صلاح الذي يرفض من باب العقيدة الدينية السلفية المشاركة في الكنيست الاسرائيلي، او في أي برلمان آخر، حوّل شعارات مثل حق العودة، الاقصى في خطر، والحصار على غزة الى برنامج عملي يتحرك على اساسه حسب اعتبارات تكتيكية تخدم الاهداف السياسية لحركة حماس.

كل المواجهات التي يقودها الشيخ صلاح تحظى بتغطية إعلامية مكثفة في قناة الجزيرة، ويرافقها مؤتمر صحفي يتحدث فيه رئيس المكتب السياسي لحماس، خالد مشعل، يكيل فيه المديح للشيخ صلاح ولجماهير الثمانية وأربعين. في كل مرة تلتهب فيها النار في موضوع القدس او غزة، خدمة لحملة حماس الدعائية ضد السلطة، تندفع القيادات العربية في اسرائيل، بكل اطيافها سواء الجبهة والتجمع والحركة الاسلامية، وراء الاحداث لتبقى بشكل دائم في وسائل الاعلام، وتتمكن من التنافس فيما بينها لكسب تعاطف الجمهور. وليست المنافسة على من يخدم اكثر الجماهير التي انتخبته، بل من الاكثر تشددا في خطابه ضد اسرائيل، ومن الاكثر جرأة واستفزازا للجمهور الاسرائيلي.

النهج الذي تبنته الاحزاب العربية يقود بشكل تلقائي الى مبادرات عنصرية متنوعة من قبل اليمين الاسرائيلي المتطرف ضد الجماهير العربية واحزابها، ومن ذلك التهجم على اعضاء الكنيست العرب، قانون المواطنة، قانون لم الشمل، القانون ضد مخصصات التقاعد لعزمي بشارة، المس ببعض امتيازات النائبة حنين زعبي، دعوات للتحقيق مع النواب العرب ومحاكمتهم. هذه الاجراءات العنصرية وغيرها الكثير، تمنح اليمين فرصة ثمينة لكسب الرأي العام الاسرائيلي المتشدد، ولكنها بالمقابل تغذي خطاب الأحزاب العربية وتمنحها فرصة لكشف الوجه القبيح لدولة اسرائيل وزيادة التعاطف العربي معها.

على ارض الواقع تبقى الجماهير العربية سلبية بكل ما يتعلق بقضاياها اليومية. العنف اصبح وسيلة التعامل بين الناس، بينما يتحول قمع حريات النساء والعنف ضدهن الى روتين عادي، وضع التعليم يتراجع باستمرار، والفقر يزداد مع ارتفاع نسبة البطالة وانعدام التنظيم النقابي الذي يراعي حقوق العمال. الشعارات الرنانة لا يمكن ان تغطي على واقع ان الاجندة الحقيقية للجماهير العربية غائبة عن البرلمان، مثلما تغيب الاحزاب العربية عن الشارع. والحقيقة الأمرّ هي ان الارتفاع الاخير في منسوب العنصرية ضد العرب في اسرائيل لا ينبع من اسباب حقيقية، بقدر ما يتأتى عن الاستفزازات المتكررة من قبل القيادات العربية التي حولت الاستفزاز الى نهج.

حق العودة، القدس، الحصار على غزة - اصبحت العناوين الرئيسية وتم بالمقابل تغييب تام للمعركة من اجل الحقوق الميدانية، كالحق في السكن، التعليم، التطوير، العمل، الخدمات البلدية، الثقافة. المطالبة بفك الحصار عن غزة، او معارضة تهويد القدس هي قضايا اساسية لا يجب اهمالها في برامج الاحزاب العربية واليسارية داخل اسرئيل، ولكن المشكلة انها اليوم تأتي لتستبدل تماما النضال المطلبي وتغطي على غياب خطة عمل واقعية لدى هذه الاحزاب لمواجهة القضايا المحلية؛ اما المشكلة الثانية، وهي الاخطر، ان المطالب السياسية الكبرى لا تنضوي في الظرف السياسي الحالي على خطة كفاحية حقيقية يمكن ان تقود للحل، بل صارت خطة تخدم طرفا (حماس) على حساب طرف آخر (فتح)، ولهذا السبب بالذات فانها تضعف الشعب الفلسطيني، تعمق الانقسام ولا تحل المشكلة.

ان اكبر مساهمة في الكفاح ضد الاحتلال الاسرائيلي الغاشم للمناطق المحتلة، هي مكافحة الامراض الاجتماعية التي ألمّت بالمجتمع العربي وأضعفته. مجتمع ضعيف بلا قيادة واقعية وبلا برنامج واقعي لا يمكن ان يساهم بشكل فعال في المعركة ضد الاحتلال. ان النضال الحالي، سواء من خلال الاسطول او من خلال الخطابات الاستفزازية في الكنيست، يخدم اجندة غريبة ولا يساهم في تحقيق الحاجات الاساسية للشعب الفلسطيني سواء داخل اسرائيل او في المناطق المحتلة.

الاستقرار الاقتصادي على حساب العمال

ان ما يضمن لحكومة نتانياهو استقرارها هو قدرات الاقتصاد الاسرائيلي على تجنب الازمة الاقتصادية التي أصابت معظم الدول المتطورة في العالم. ففي حين تتآكل شعبية اوباما بسبب الركود الاقتصادي ونسبة البطالة العالية، وفي حين تضطر اليونان واسبانيا لاتخاذ اجراءات تقشفية صارمة ادت لاضرابات عمالية وفقدان شعبية الحكومات، يتمتع نتانياهو باغلبية ساحقة في الكنيست لدرجة مكّنته من إقرار الميزانية الحكومية للسنتين القادمين. فالاقتصاد الاسرائيلي ينمو بنسب مقبولة عالميا، العملة الاسرائيلية قوية، العقارات لم تشهد ازمة كما حدث في بقية الدول، والاستثمارات من الخارج تواصل التدفق.

الميزانية الجديدة التي تبنتها الحكومة الاسرائيلية، مستمرة بنهج "السوق الحرة" الذي فشل في كل العالم، وخاصة في الدول التي طبقته بحذافيره مثل امريكا وبريطانيا. المثير انه في حين تسعى امريكا نفسها لإقناع السوق الاوروبي بزيادة العجز في الميزانية لتشجيع الاستهلاك وخلق اماكن عمل لمكافحة البطالة، يواصل بنك اسرائيل بقيادة عميده ستانلي فيشر ووزارة المالية التمسك بالنظرية التي أثبتت فشلها. فالميزانية الاسرائيلية تبقى دون تغيير، ودون عجز، الأمر الذي يعني ميزانيات الرفاه دون زيادة، وموازنة امنية مضخمة، عدم الاستثمار في برنامج حقيقي لتشجيع التشغيل.

النتيجة واضحة المعالم: الاقتصاد يبقى بأيدي عدد قليل من العائلات التي تسيطر على الاحتكارات في مجال العقارات، المصارف، الطاقة، الإعلام والاتصالات، الأمر الذي يمنحها نفوذا كبيرا في السياسة وفي صنع القرار السياسي. ان الفضائح التي انكشفت مؤخرا في مجال التعيينات في مؤسسة ضريبة الدخل، قضية هوليلاند، العلاقات القريبة بين المؤسسة الحاكمة وأصحاب رؤوس الاموال، تدل على ان الاقتصاد الاسرائيلي يخدم شريحة ضيقة جدا من الاثرياء على حساب اغلبية العمال.

ان النجاح الاقتصادي لا يعتمد فقط على تقليص ميزانيات الرفاه والصحة والتعليم، بل ايضا على الرواتب المنخفضة للعاملين. الدوائر الحكومية نفسها تشغل عمالا بالمقاولة دون حقوق من اجل توفير النفقات. الصناعات الاسرائيلية تدفع الحد الادنى للأجور كحد أقصى، العمال الاجانب يتدفقون بإيعاز من الحكومة للعمل في فروع البناء، الفنادق والخدمات الصحية والزراعة. كل هذا يخلق طبقة عاملة فقيرة تشعر بان "النجاح" يأتي على حسابها ومن خلال استغلالها. ان النمو مبني على بطالة مزمنة تصيب سكان "الهوامش"، ومن بينهم اغلبية القرى والمدن العربية الى البطالة والفقر، وعلى نقص في الخدمات، والتعليم والبنى التحتية الاساسية.

لقد خلق الاقتصاد اسرائيلي بركانا اجتماعيا، وذلك لأن دولة اسرائيل ليست دولة عادية، بل موجودة في حرب مستمرة مع جيرانها، الامر الذي يتطلب تضحيات كبيرة من مواطنيها، سواء من خلال الخدمة في الجيش، او امتصاص الهجمات العسكرية. انها ليست دولة الشعب اليهودي بل دولة الاثرياء اليهود، الامر الذي يخلق فجوة اجتماعية تثير الشكوك في كل ادعاءاتها الصهيونية وحقها في مواصلة الاحتلال والمعاملة العنصرية تجاه العرب. ولكن البركان الاجتماعي نابع ايضا من شعور عميق لدى العمال بأنهم يخضعون للاستغلال، النهب، الاستهتار والإذلال دون ان يكون لهم من يمثلهم ليس على مستوى نقابي او سياسي.

التغيير في المجتمع الاسرائيلي مشروط بتوفر ظرفين مرتبطين: الادراك بان المجتمع الاسرائيلي لم يعد مجتمعا مؤسسا على التكافل الاجتماعي بين اليهود، بل اصبح مجتمعا رأسماليا متطرفا يخدم النخبة الاقتصادية والشريحة المتوسطة العليا، يجب ان يقنع اعدادا متزايدة من العمال والأجراء بأن عليهم الاهتمام بمصلحتهم الطبقية، والتنظم نقابيا وسياسيا لطرح اولويات اقتصادية واجتماعية تخدمهم. ولكن الشرط المسبق لنجاح خطوة كهذه هو الاعتراف بان النزاع الاسرائيلي الفلسطيني يعيق سعي المجتمع لتغيير سلم اولوياته. النزاع ينمي النزعات القومية والدينية، يعمق الكراهية والعنصرية، ويخلق بذلك انطباعا وهميا كاذبا بان هناك مصلحة مشتركة لكل اليهود، او لكل العرب، بينما في الواقع عاملة النسيج العربية واليهودية، وسائق الشاحنة العربي واليهودي، يعانون من نفس الاستغلال ومن حياة بلا امل.

تغيير الاجندة يتطلب من كلا المجتمعين العربي واليهودي ملاءمة وعيهم لواقعهم الاجتماعي. انها بلا شك طريق طويلة وتحتاج الى قيادة من نوع آخر. انها تتطلب من النشيطين الاجتماعيين والاحزاب اليسارية، تذويت هذا الفهم والنشاط بشكل ميداني يومي بين الشرائح الاجتماعية، العربية واليهودية، التي وقعت ضحية الواقع الاسرائيلي والنزاع السياسي المتواصل.

التغييرات السياسية السريعة التي نشهدها على مستوى دولي في اعقاب الازمة الاقتصادية، الرأي العام العالمي ضد اسرائيل وممارساتها الاجرامية في المناطق المحتلة، الطريق المسدود في المفاوضات مع الفلسطينيين، وحتى الصراع الفلسطيني الداخلي، يدل على وجود ازمة سياسية عميقة لا احد يمتلك المفاتيح والبرنامج لحلها. من جهة، الرفض المطلق والتطرف الديني ليس حلا، ومن جهة اخرى الهرولة وراء امريكا وقبول النظام العربي الفاسد في مصر والسعودية وغيرهما ليس حلا ايضا. علاوة على ذلك، سياسة "السوق الحرة" الاسرائيلية تخلق ازمة اجتماعية عميقة وعدم ثقة بالمؤسسة الحاكمة. كل هذه المعطيات يمكنها ان تفتح المجال لطرح اجندة سياسية جديدة، سواء في صفوف الاحزاب الاشتراكية في العالم وفي اوساط الباحثين عن تغيير في اسرائيل ايضا.

* المقال مأخوذ عن التقرير السياسي الذي قدمه يعقوب بن افرات، الامين العام لحزب دعم العمالي، في اجتماع اللجنة المركزية المنعقد في 25/7/2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - التمثيل والاخراج والعرض البحري للسفن
فيصل حرسان ( 2010 / 8 / 4 - 11:15 )
وجدت اسرائيل مخرجا جديدا لمفاهيم اللعبة السياسية وحسب تقبلات المفهوم العربي , تعتمد على منافق ودجال وصاحب سوابق...فما وجدوا افضل من الاتراك ....طالما الفلسطينيون
لايتفاهمون فيما بينهم,,,ومختلفون طوال الوقت .... ,سوريا تحصل على مكاسبها كالمعتاد كدعارة سياسية وتتجنب ركوب الخازيق ,....بقي السؤال الملح دائما.... والى متى سيفهمها الفلسطينيون

اخر الافلام

.. المحافظون في إيران ذاهبون إلى انتخابات الرئاسة بمرشح واحد


.. توتر الأجواء بين بايدن وترامب قبل المناظرة الرئاسية | #أميرك




.. هل العالم يقترب من المواجهة النووية؟


.. انتخابات فرنسا.. استطلاعات رأي تمنح أقصى اليمين حظوظا أكبر ف




.. فيديو أخير.. وفاة مؤثرة تونسية خلال تواجدها في صقلية الإيطال