الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الموت في اسرائيل

شوقية عروق منصور

2010 / 8 / 4
الادب والفن


شعر بأن صدره لم يعد يتسع للزمن المرتخي والمتمدد فوقه ، توجه نحو الجندي الواقف ليستفسر عن موعد الوصول ، قبل ان يصل صوب الجندي بندقيته نحوه ، فتراجع الى الوراء ، فتش عن حجر ليجلس حتى يرتاح من الوقوف فقد تعب وشعر ان قدميه اصيبتا بالوهن والضعف عدا عن اليباس الذي بدأ يدب في شراينه ، لم يجد ، لمح حجراً بعيداً مدهوناً باللون الأسود ، قد يكون استعمل سابقاً كحد او كعلامة للجيش .

حمل الحجر المرمي بين الأشواك ، وضعه على الأرض وزفر بألم

ناوله الشاب الواقف الى جانبه سيجارة ، وضعها بين شفتيه ، لم يشعلها ، ترك لعابه يمرغ اطرافها ، احس انها ابتلت واصبحت تنزف بقايا دخان مطحون ، بصقها ، تعمد ان تكون بصقته بصوت عال ، ممزوجة بغضب يعصر وجعاً في اعماقه ، انه ضعيف ، لايستطيع ان يعمل أي شيء سوى الأنتظار .

نظر حوله ، هل يعتذر !! ان اعتذاره لن يكون سوى ثرثرة لملء الصمت الذي تبرز منه همهمات وسرقة نظرات الى الساعات التي تنبه انها تسير وليست متوقفة .

العيون تتجه نحو جهة الشمال ، من هذه الجهة ستأتي السيارة ، هكذا قالوا له ، نظر حوله ، راقب الوجوه ، وجوها متعبة ، تقاسيمها تدل على سئم الانتظار ، لقد جاءت بمهمة وها هي المهمة تحشر داخل الزمن الذي لا يعرف كم سيطول ؟

لم يعرف صاحب الصوت ، لكن قال له – اخوك وقع في جورة غميقة واخذوه للمستشفى ، احنا ما بنعرف كيف حالتوا ، اجا الاسعاف اخذوه ، لما اخذوه كان فاقد الوعي ، الله يشفيه _... واغلق الخط .

صاحب الصوت لم يترك له المجال للسؤال ؟؟.. كأنه كان يحمل عبئاً على ظهره ، حاول اعادة الاتصال على الرقم الذي ظهر على شاشة هاتفه النقال ، وجد ان المتصل قد تعمد اخفاء رقمه ، اتصل بشقيقه ... الهاتف النقال يرن .. لا احد يرد !! اتصل بصديق له يعمل شقيقه معه ،لا احد يرد ، انه لايعرف احد ، عدا هذا الصديق، شقيقه عامل باليوميه ، بدون عنوان ثابت ، أي عمل يعمل ، لاتستعصي عليه أي شغله ، كان الخوف دايماً من الجيش والسجن لأنه معوش تصريح لدخول اسرائيل ، لكن هذا الصوت اللي سمعوا اسا دب الخوف بقلبو .

وين بدو يروح يسأل ؟؟ معوش تصريح يفوت اسرائيل !! . لم يخبر والدته ، لكن والدته بأحساس الأمومة شعرت ان هناك شيئاً مزعجاً فأخذت تسأله :

مالك زي الحيه المقطوعه راسها .. رايح جاي .. رايح جاي ..

لم يخبرها ، خرج من البيت ، اخذ يعدد اسماء بعض ابناء قريته الذين يعملون في اسرائيل ، اكثرهم يعملون في مناطق بعيدة عن عمل اخيه ، لكن سيجرب .

وقف امام احد البيوت ، اطلت صاحبة البيت ، سألها عن رقم هاتف زوجها لأنه يريد ان يسأله عن اخيه ، نظرت اليه بتمعن وقالت : انت اخوك اللي وقع في الجورة ، هز برأسه ، رددت امامه رقم هاتف زوجها ، اتصل به ... رد ..

انا عرفات اخو محمود ... صمت الآخر ذلك الصمت المحزم يشريط من الدموع المكبوتة. . ثم انفجربقوة زلزال يدمركل شيء الله يرحموا ويخلي اولادوا ...

انعقد لسانه ، جف حلقه ، نبت شوك مدبب في صرخته التي عجزت عن الانطلاق فحفرت في داخله متاهة لزجة تنزلق عليها آهات خافتة .

دار حول نفسه ، القى بجسده على الارض ، وانطلقت صرخة مدوية ،عالية " يا خيا " وين رحت وتركتني .

تجمع سكان الحارة ، جاءت احدى النساء بابريق ماء وطلبت من احد الرجال ان يسقيه ، رفض ان يشرب ، استند على كتف احدهم ، قام ، تصاعدت الهمهمة - الواحد بروح يشتغل وروحوا على كفو – قالها احدهم لكي يخفف من الموقف الحزين ... حاول البعض عناقه ، لم يشعر بمشاعر الراحة لأن العناق كان كجزء من مسرحية تمثل بصورة دائمة ، وتذكر مشاعره حين كان يسمع عن استشهاد بعض الشباب ، يغضب ويركض لحمل النعش اثناء الجنازة ، كان خلال الحمل احياناً يفكر بعمله ويقوم بعمليات حسابية كم اخذ وكم تبقى له عند المقاول !! حتى انه في احدى الجنازات تذكر زوجته وهي بملابس النوم لكن سرعان ما خجل وغرق في الاحمرار خوفاً من اكتشاف تفكيره الجنسي فقام وصرخ بصوت عال – يا شهيد ارتاح ارتاح احنا بنكمل كفاح - .

مشى ومشى وراءه بعض الرجال والصبية ، عشرات النساء مررن من جانبه ، خطوات النساء اسرع من خطوات الرجال ، كان دائماً يتشاءم من رؤية مجموعة من النساء مهرولات بصمت وخطوات متعثرة لاهثة ، فقد كان يدرك ان وراء هذه الهرولة هناك وفاة .

ماذا سيقول لزوجة اخيه ؟؟ ماذا سيقول لأمه ؟؟ لم يتوقع يوماً ان يقف هذا الموقف ! يعرف امه جيداً .. عندما سترى هؤلاء الناس ستعرف ان احد اولادها قد مات . ارتاح لهذا التخيل ، لايهمه زوجة اخيه ، ستلطم وتمزق ثيابها وتصرخ ثم .. لا يعرف ؟ المصيبة الآن كيف سيأتون بأخيه من اسرائيل ..

ما ان وصل الى البيت حتى وجد اهالي الحارة والحارة المجارة في بيتهم ، صرخت امه بأعلى صوتها – عرفات وين اخوك محمود ؟- اقشعر بدنه ، ايقن ان اخيه مات ، صوت امه اكد ان شقيقه خلاص ، حقيقة لطمت وجهه ، كأنه افاق من غيبوبة عدم التصديق فبكى بصوت مجروح يسيل من اطرافه وجع الفراق .

في خيمة العزاء تركوه لأحزانه ودموعه التي تتسلل خفية ، الشباب يقومون بالواجب ، هكذا قالوا له ، لكن بعد مرور عدة ساعات جاء من يقول له ان الشرطة الاسرائيلية اخذت جثة اخيه للتشريح في –ابو كبير – وبكرا يوم السبت لا يفتح ابو كبير ، انشاء الله تكون الجنازة يوم الاحد .

لم يعرف النوم وايضاً افراد عائلته ، امه لخصت نار الأنتظار بأنها تشوي اعماقها ، امسكت بيده وطلبت منه ان يضعها على بطنها عند رحمها ، قالت له :

هون النار ، من هناك طالعة ياما بدي اشوف اخوك بلكي بطفي النار .

يوم الاحد صباحاً ، ابلغوه ان الجثمان سيصل الساعة العاشرة ، وهاهي الساعة تصل الى الواحدة والجثمان لم يصل بعد ، الجندية الواقفة امام بوابة الحاجز تطل من بين القضبان ، تضحك مع جندي يحاول مغازلتها ويمسك خصلة من شعرها ، يشدها فتتأوه وتقع بين احضانه ، تقوم من بين احضانه عندما تقف سيارة امام الحاجز، تدلي رأسها داخل نافذة السيارة ، تنظر داخلها بعيون يقظة ، تطلب بطاقات الهوية ، عندما تعرف انهم يهود من المستوطنات تبتسم ، تعتذر بسرعة ، تفتح لهم الحاجز للأنطلاق .

حاول التقدم لسؤال الجندي ، امسك الجندي بندقيته وصوبها نحوه، سأله من بعيد عن موعد وصول الجثمان ، لم يرد عليه ، ادار ظهره ومضى تجاه الجندية .

بعض الذين كانوا معه طلبوا ان يرجعوا للبلدة لأن عليهم كثير من الاشغال والأعمال وسيعدون عندما يصل الجثمان الى الحاجز ، فالهواتف والسيارات موجودة ، دقائق وسيكونون هنا .

الذين ينتظرون معه الآن يعدون على الأصابع اليد الواحدة .. لايهم المهم ان يحضر الجثمان ويتخلص من مصيبة الانتظار .

الساعة الخامسة ... قالت لهم الجندية بصوت خافت الجثمان بالطريق!! شعر بفرح يتسلل الى قلبه المشحون بالهم ، رغم ان الموقف يتطلب الآسى والحيرة في كيفية مواجهة موت اخ بعيداً عن بيته واسرته .

اخذ يعد مربعات بوابة الحاجز الحديدية ، كلما عدها اخطأ في العد لا يعرف هل عدد المربعات خمسون ام ستون ؟؟ اف .. لقد زهق وتعب من الانتظار القاسي .

وصل الجثمان ، سيارة الأسعاف وقفت امام الحاجز ، هرع الى السيارة مع الذين ينتظرون معه ، منعهم السائق من التقدم ، ترجل من السيارة واقفلها ، دخل الى مكتب صغير ، بعد لحظات خرج جندي آخر لم يره طوال الوقت وكان ممسكاً بورقة .

سأل بلغة عربية مكسرة عن احد اقارب الميت تقدموا جميعهم قال: - انا بدي واخد- تقدم شقيقه وهو يرتجف .

اليوم الجثمان راح يظل هون ممنوع يطلع من المكتب ، تعالوا بكره ، صرخ وحاول الاحتجاج لكن الجندي اسكته بنظراته ، تعال بكره بدنا نفتش الجثة كمان مرة !!!

يا خواجا واحد ميت وكان بالمشرحة شو راح تلاقوا معاه ، واحد محشور بكيس بلاستيك اسود شو راح تلاقوا معاه يا عالم ....



لم يهتم الجندي لأحتجاجه ، أدار ظهره للصراخ المغموس بالبكاء.

في اليوم التالي ذهب لوحده مع جاره ، لأن جميع الاقارب والأصدقاء ذهبوا لأعمالهم .

لم ير ذلك الجندي من قبل تقدم منه سأله عن الجثة وهل انتهوا من تفتيشها ، وابتسم ابتسامة ساخرة : انشاء الله ما وجدتوا قنابل واحزمة ناسفة !!

فأجابه الجندي باستغراب ، أي جثة ؟؟

البارحة اجت سيارة الاسعاف وفيها جثة اخوي !

لم يفهم الجندي سؤاله زم شفتيه باستخفاف وادار ظهره .

قرر ان يذهب الى المكتب لعل هناك من يجيب على تساؤلاته ، اقترب ... قرع الباب .. لااحد يجيب .. فتحه ..صدمته الرفوف المعلقة، ذهول ورعب وجنون يمر عبر جدران مثقلة بالجثث ، رفوف عليها جثث ، اخذ يصرخ اخوي .. اخوي .. جميع الجثث تشبه بعضها البعض .. ذات الملامح وتقاسيم الوجوه ، انه لايستطيع معرفة ملامح شقيقه ، وبينما هو يبحث بين الجثث المتشابهة الموضوعة على الرفوف ، دخل عليه الجندي المناوب واخذ يصرخ عليه بأعلى صوته :

اخوك مش عنا وبعدين مين اخوك ؟

اخوي اللي مات في اسرائيل ومبارح انا كنت هون وجابوا الجثة وقالولي تعال بكره حتى استلمها .

انا ما بعرف ... انتظر بره .... واغلق باب المكتب .

وقف لوحده ، لا احد معه ، بوابة حديدية نصفها مغلق ونصفها مفتوح وسيارات تقف وتفتش ثم تدخل وسيارات تفتش ثم تخرج .

جلس على الحجر واخذ يعد مربعات البوابة ...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس


.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في




.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب


.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_




.. هي دي ناس الصعيد ???? تحية كبيرة خاصة من منى الشاذلي لصناع ف