الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زائرة آخر الليل , قصة قصيرة

مديح الصادق

2010 / 8 / 6
الادب والفن


رعشة مثل ندى الفجر, في آخر ساعة من تشرين, كلقاء العاشقين في زوايا الظلمة أو في الطرقات الموحشة, كما تشتهي فراشة رحيق زهرة أماتها لهيب آب, مثل دمعة ناعور عتيق غيَّر النهر مجراه فبات يتيما, لا يصلح إلا عشا للغربان, أو موضوعا بائسا للشعراء, كما يفعل المغامرون من كلا الجنسين حين تكتمل لديهم مقومات البلوغ, فيقفزون كل الحواجز دون مبالاة لما ينتظرهم من تقريع أو عقاب قد يتعدى حدَّ حزِّ الوريد, تسللت من فراشها حافية القدمين, تلقت ضربة على خدها الأيسر من باب الغرفة الخشبي المفتوح, على مضض أخفت الوجع خشية أن تستيقظ أمها التي تشاطرها الغرفة؛ بهدوء اجتازت الممر على أطراف أصابعها, باليمنى تقبض على حقيبتها, وباليسرى حملت حذاء خفيفا أخفته تحت إبطها كي تتمكن من فتح باب الشقة دون ضجيج, إنه لشيء عظيم أن تستنسخ المفاتيح فيكون دوما بحوزتك منفذ للنجاة حين تطبق عليك الأبواب, آه , كم عظيمة هي المفاتيح


اهتز هاتفه تحت الوسادة, أخفى صوته تحاشيا لإزعاج مَنْ يرقدون مبكرا مستعدين ليوم دراسي طويل, وتحاشيا لتساؤلات مخابراتية قد تطول, وتتسع فتصل حد التهديد بالاتصال بالبوليس بتهمة الاعتداء الجنسي, وهنا, في تلك البلاد لا يشفع شاهد أو عقد زواج, إن كنت شاعرا تكتب للحب فكن مستعدا للتحقيق عن كل بيت أو مفردة في بعض الأحايين, وإن كنت مغنيا فإياك واصطحاب مَن تشعر بالغيرة عليك, أنت محاسب على كل نظرة تنقلها بين الجمهور, فالذين يبدعون هم حتما إلى حد العبادة يعشقون الجمال, في كل شيء, وهم مقابل ذلك يحصدون ما يقدر لهم من المنغصات, فمَن يعشق الجمال لا بد أن يجني حبا مقابلا من ذلك الجمال, ومن هنا تبدأ المأساة, فالحب مخلوق عجيب, إطلاقا لا يقبل الشركاء



بحذر شديد تناول الهاتف, أمعن في لوحتة, إنها هي, مستحيل ماذا تريد مني والساعة قد قاربت الفجر ؟ أيعقل أن نوبة الاختناق قد طالت والدتها ولم تتمكن بمفردها من فعل أي شيء ؟ أم أن خطرا ما قد داهمهما فنسيت أن تتصل بالبوليس قبل الآخرين ؟ البارحة أخلدت متأخرة للنوم, آخر رسالة أرسلتها له في الثانية والنصف بعد منتصف الليل, فيها ادَّعت أنها تحب خطيبها حدَّ العبادة, وبه لن تفرط مهما كانت المغريات, إنه خليط منعش من المشاعر التي تتراوح بين لذة الانتصار على الطوق القاتل المطبق عليك ممن هم حولك, مع روح المغامرة التي تجد نفسك - رغما عنك - بطلا لها في حين كنت ترسم تفاصيلها لأبطال ابتدعتهم من نسج خيالك الخصب, مع لذة الشعور بالزهو وأنت ترغم حسناء عشقتها وتعلم أنها تبادلكه؛ لكنها تكابر, فجاءتك زاحفة صاغرة تعترف أنها تكنُّ لك الحب الذي كنت تقرؤه في عينيها, في حركاتها, في حشرجة صوتها حين تواجهك, إنك واثق تمام الثقة من أن تلك الساعة قادمة لا محال, لا تُخفّ الموازين وكن صامدا بعض الشيء, ولا تبِعْ بالرخيص, دعها تتعذب قليلا كي تشعر ولو بالقليل مما عانيته من عذابات, ولا تكن فظا معها؛ فالفتاة التي أحبَّتك هذا الحب هي زهرة يوجعها ولو قليل من عطش, وتُذبلها قسوة اللمس, هي كأس رقيقة بكف شاعر يجري في عروقه الحب بديلا عن الدماء, رفقا بالقوارير, يا خبير العاشقين



تسلل من فراشه حذرا خارج غرفة النوم إلى الصالة, أغلق الباب بأقصى درجات الهدوء؛ بل الخوف, ثم انزلق إلى الشرفة المطلة على الشارع العام حتى لا يسمع أحد ممن في الدار ما يدور من حديث : انزل تحت العمارة فورا, لهجة شديدة آمرة, ومثل تلك اللهجة لا تصدر إلا من الأعلى إلى الأدنى كما عرفنا ذلك من حقول علوم البلاغة, أو ممن هو واثق بأن أمره مطاع لدى المأمور, إما لكونه أسيرا بحبه, أو لرابطة تسوغ له ذلك النوع من الأمر, لم يصدق أذنيه فقد كانت تلك اللحظة التي على أحر من جمر انتظر, إنها اعتراف صريح بالحب الذي اكتوى بناره منتظرا منها لحظة ضعف كهذه, والله إن الحب لسلطان؛ وأي سلطان يكسر القيود, يحطم السدود, بلا وجل يفجر البراكين, ويحرق الأسماء والكنى والألقاب, أيتها المجنونة, إنه الفجر, والناس نيام, وكيف ستخرجينَ وحدكِ في الطرقات ؟ الأزقة الآن لا يسكنها إلا السكارى والذين بلا مأوى, لا تخرجي من شقتكِ أرجوكِ, اهدئي قليلا والصباح قريب, وسوف ألتقيكِ حيثما ترغبين, هل أصِبتَ بالعمى ؟ يا قاسيَ القلب, إنني هنا أسفلَ شرفتكَ, انظرْ تحت فسوف تراني أمام عينيكَ, أمعقول ما أرى ؟ يا بنتَ الملعونة, ما الذي أتى بكِ في تلك الساعة من الليل ؟ ألا تخافين من وحشة الطرقات ؟ أم إنه الحب ؟ , إذن صدق الذين قالوا بأن الحب هو الجنون, وربِّ السموات لَمجنونة أنتِ



على أطراف أصابعه متلفتا, لم يصدق أنه وصل الطابق الأرضي, من يدها أدخلها الممر الخلفي, ما حلَّ بكِ ؟ انطقي, تكلمي, لم تنبس ببنت شفة, بكلتا يديها قبضتْ على يديه, عليهما ضغطتْ بعنف شديد, سحبته للأمام ثم أعادته للخلف, ارتمت على كتفه, وأجهشت بالبكاء بصوت مسموع خشي أن يسمعه السكان فيتخذون الإجراء المناسب في مثل تلك الحال, استشعر نارا تخرج من جوفها, وأن دموعها حمم على فؤاده تساقطت, على الرغم من أنه تمام العلم يعلم بما هي فيه, وما تريد؛ لكنه تصنع السؤال الساذج بعد مسحِهِ دموعها بمنديل جهَّزه في جيبه من قبل, مسَّد شعرها بلطف : ما بكِ يا ...؟

بعنفٍ دفعته للخلف, على صدره تضرب ويده, بهستريا لم يشهد لها مثيلا من قبل, مزّقت قميص نومه, أيها المجنون, هل تدعي الغباء ؟ ألا تعلم مابي, وما أريد, وأنت الشاعر الذي يصور الأحاسيس, والقاص الذي يسطر الأحداث, أم أنك تتلاعب بمشاعري كيفما تشاء, أحبُّكَ أنا, أنا أحبُّكَ, فهل صدقتَ ؟ لقد أخفيتُها عنك رغم أنها كانت واضحة, مقروءة في كل حركة مني, وأنتَ تفقهها بالتمام, وكابرتُ لأن هناك رابطا تقليديا مع مسكين اقتنعتُ أخيرا بأن لا مكان له في قلبي, فأعلمتُه الحقيقة, وسارعتُ كي أفشيكَ هذا السرَّ, نزعَتْ من إصبعها الأيمن - وهي ترتجف - حلقة ذهبية فرَمَتها على الأرض, إنه قمَّة الانتصار على الذات حين تكون شجاعا فتسارع لإعلان ما تشعر به من أحاسيس, وإن كان ذلك قبل الفجر, قبل أن تستيقظ العيون, ألا رحمة الأكوان على روحكَ يا { زوربا اليوناني } يوم أفشيتَ لي بسر عظيم " ستدخل الجنة حتما, دون حساب, لو أنكَ أرضيتَ امرأة كانت تشتهيكَ " وهذا سيغنيكَ عن صلاتك كل العمر, أو عن صوم, أو حج



اهتز الهاتف النقال في جيبه, بيده اليسرى أبقى رأسها على صدره يرتوي بأعذب الدموع, فتح الهاتف باليمنى, ألو, نعم, أنا بخير عزيزتي, لا تقلقي, كل شيء على ما يرام, إنه أنزلني, كالعادة تحت, ذلك الملعون شيطانُ الشِعر, فأبشرى, وقيِّدي قصيدة جديدة في ديوان شعري الجديد


آب 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - قيثاره
ستار جبار رحمن ( 2010 / 8 / 7 - 19:53 )
انا لا اقرأ وانما اسمع قيثاره تجعلني اشعر بتلك الكلمات كانها توقض كل ما هو انساني في وجداني، لقد حجرتني الفلسفة ومديح صادق يجعلني مخضرا
الف تحية لاديبنا الرائع


2 - الفلسفة ليست حجرا, أخي ستار
مديح الصادق ( 2010 / 8 / 7 - 21:13 )
شكرا لمروركم, أستاذ ستار رحمن المحترم, أراك تشكو من حجر الفلسفة وأنت تعلم جيدا بأنها هي الروح التي يبني عليها المبدع بنيانه, أدبا, فنَّا, علما, سياسة, فكل مما ذكرت إن كان بلا فلسفة فهو بمثابة جسد بلا روح, تحية لفلسفتك الحية الخضراء


3 - ومضة سريالية
طـلال بركات ( 2010 / 8 / 8 - 01:15 )
مرة أخرى يمتعنا مديح بمقطوعة سريالية قصيرة من الكلمات محلقا بنا وراء الحدود المألوفة لما اتفقنا ان نسميه الواقع وهو اسلوب اثارة القاريء بكثير من الاحاسيس والمشاعر المطوقة بالجمالية المستكنة في اغوار النفس ومن حيث انها مجرد عرض صور لا تربطها الا فكرة عامة ومن حيث عدم اشتمالها على ذروة وهو تفكير يوشك ان يشبه الهذيان ومع ذلك هو هذيان يملك علينا مشاعرنا ويثير فينا مواجع الرحمة وكأن مديح يعيد شيء من سريالية الكاتب الاميركي وليم ساروين الى الضوء
اعتزازي
طـلال بركات
سدني


4 - قيود القصة القصيرة, أخي طلال بركات
مديح الصادق ( 2010 / 8 / 8 - 03:36 )
شكرا جزيلا لمروركم أستاذ طلال بركات المحترم, الحقيقة أن اختلاف القصة القصيرة عن أنواع القصة الأطول الأخرى يكمن في نقطتين أساسيتين هما أن عنصري الأحداث والزمن يتحددان بأن السقف الزمني للقصة القصيرة لا يتعدى النصف ساعة لذا فإن الأحداث يجب صياغتها من قبل الكاتب بحيث تتناسب وهذا الزمن
لكن ذلك لا يعفيه من تناول أحداث مسبقة لا تدخل ضمن السقف الزمني مما يضفي جمالية ويغني الفكرة المحورية التي يهدف لها
إن ما يؤسف له أن بعض الأخوة الكتاب يتخطى السقف الزمني للقصة القصيرة ويوافقه بعض الأخوة القراء , وبذلك تنفتح أمامه الأبواب لسرد أشمل فتخرج بذلك عن إطارها المعروف وهنا نطلق عليها تسمية { قصة مختصرة } مجازا, أحيي حسك النقدي


5 - كنز أدبي كبير
خالد الحيدر ( 2010 / 8 / 8 - 06:45 )
شكرآ للأديب مديح الصادق على إمتاعنا بإبداعه الجديد بهذه الحبكة الدرامية الرائعة ، تذكرني بإسلوبك هذا بالعملاق نجيب محفوظ والأديب الفذ غائب طعمة فرمان
بثراءك الأدبي الجميل هذا وبلاغتك بالتعبير وقوة تأثيرك على القاريء بهذا الأسلوب القصصي الساحر إضافة لشعرك الراقي وتمكنك من اللغة العربية ، أُقسمْ جازمآ بأنك كنز وثروة كبيرة ليس أمامي إلا أن أقف لأحييك مثمنآ كل ما تكتبه من جمالية ذواقّة بروح إنسانية قيمّة وأدب رفيع عالي


6 - مقومات الرقي الإبداعي
مديح الصادق ( 2010 / 8 / 8 - 15:51 )
الأخ الدكتور خالد الحيدر المحترم, لا شك بأن من مقومات الرقي الإبداعي وجود متلقٍ منصف يجيد فهم النص الإبداعي, وهذا ينطبق على شريحة واسعة من مثقفينا, وبالتأكيد فإن جنابكم الموقر واحد من هذا الصنف, فشكرا لمروركم, وتعليقكم

اخر الافلام

.. أحمد حلمى من مهرجان روتردام للفيلم العربي: سعيد جدا بتكريمي


.. مقابلة فنية | الممثل والمخرج عصام بوخالد: غزة ستقلب العالم |




.. احمد حلمي على العجلة في شوارع روتردام بهولندا قبل تكريمه بمه


.. مراسل الجزيرة هاني الشاعر يرصد التطورات الميدانية في قطاع غز




.. -أنا مع تعدد الزوجات... والقصة مش قصة شرع-... هذا ما قاله ال