الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أوسيتيا الجنوبية: عامان على حرب الأيام الخمسة

عماد الدين رائف

2010 / 8 / 6
السياسة والعلاقات الدولية


عامان على "حرب الأيام الخمسة" في أوسيتيا الجنوبية:
روسيا ترسي قاعدة جديدة في الدفاع عن مصالحها الإستراتيجية

خمسة أيام في شهر آب 2008، كانت كفيلة بحصول جمهوريتين قوقازيتين على استقلالهما، وهما أوسيتيا الجنوبية وأبخازيا. وكذلك كانت كافية لتظهر روسياً موقفها الواضح فيما يتعلق بمصالحها الإستراتيجية في المنطقة. لكن اعتبار "أن الأحداث المأساوية التي شهدتها أوسيتيا الجنوبية قبل عامين كانت مفاجئة لقيادتها"، يبدو بعيداً عن الواقعية. ويتضح ذلك من خلال ملامح نزاع بدأت في كانون الأول 1990، أي بعد إعلان الرئيس الجورجي الأسبق غامساخورديا القضاء نهائياً على الحكم الذاتي لأوسيتيا الجنوبية. ومع مرور ثمانية عشر عاماً من حكم إدوارد شيفرنادزه، محاولا فرض الطاعة على الشعب الأوسيتي، وحثهم على التخلي عن فكرة الاستقلال التام نهائياً، لم يخضع القمع والمجازر الشعب الأوسيتي، وتحت نيران المدفعية في 29 أيار 1992 قام بتحرك نحو إعلان الاستقلال. وبات، جلياً جداً منذ تلك الفترة، أن حياة أوسيتيا الجنوبية داخل جورجياً متعذرة.
وكانت تبليسي قد شنت ما سمي بحرب إبادة ضد الشعب الأوسيتي، محاولة طرد السكان المعارضين بقوة السلاح من أرضهم الأم، ومع حلول 14 تموز 1992، دخلت إلى البلاد "قوات حفظ السلام المشتركة"، وهي قوات حماية متعددة الجنسيات، لمنع المذابح. وحينها لم تكن أوسيتيا الجنوبية لتعتبر أن قوات الحماية الروسية تشكل "درع حماية مأمون" للسكان، لكن تلك الكتيبة الصغيرة من القوات المسلحة الروسية ردعت شيفرنادزه، فتوقفت الحرب ضد أوسيتيا. كما أنه خسر حربه ضد أبخازيا، وعلى هدى سلفه غامساخورديا، غادر مكللاً بالعار "رأس الدولة الجورجية".
ثم أوصلت "الثورة الوردية" في جورجيا ساكاشفيلي إلى سدّة الحكم عام 2005، معززاً ادعاءات تبليسي ضد أوسيتيا الجنوبية. ولم يخف الرئيس الجديد طموحاته، واضعاً على رأس سلم أولوياته استعادة "الأرض المفقودة". وبات ساكاشفيلي الحليف الرئيسي لسياسات "حلف شمال الأطلسي – الناتو"، فكافح للضغط باتجاه إدخال جورجيا في الحلف. وبحلول آب 2008، ومع سخاء واضح من الولايات المتحدة الأمريكية تمثل بملياري دولار، بات لدى جورجيا قدرة عسكرية قوية، تمثلت بلواءين مدرعين وأربعة ألوية مجهزة بالتقنيات، وكتائب مدفعية ميدانية منفصلة عديدة، وقاذفات الصواريخ، ووحدات أخرى. تلك المعدات العسكرية لم تكن من صناعة الولايات المتحدة وحدها، بل ابتاعت جورجيا أسلحة ومعدات وتقنيات حربية من إسرائيل، أوكرانيا، دول البلطيق، بولندا، تشيكيا، بلغاريا، سلوفاكيا، ألمانيا، تركيا ودول أخرى. ولفترة طويلة، استعانت القوات المسلحة الجورجية باستشارات وتدريبات خبراء عسكريين من الولايات المتحدة، إسرائيل، تركيا، لاتفيا وبولندا.
وكانت جورجيا تنتظر تغطية سياسية واسعة لعمليتها العسكرية المسماة "الحقل النظيف" من الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين. وناقشت القيادة الجورجية هذه القضايا قبل شهر من الغزو في العاشر من تموز 2008، في اجتماع في تبليسي مع حلفائها، ليحددوا يوم الغزو في اليوم الأول للدورة التاسعة والعشرين للألعاب الأولمبية المنعقدة في بيكين. ذلك بغض النظر عن حقيقة أن العالم يحترم قاعدة غير مكتوبة، تتمثل بإنهاء جميع الصراعات والحروب في فترة تنظيم هذا الحدث الرياضي الكبير.
وكانت تبليسي على ثقة بأن موسكو لن تذهب إلى مواجهة مفتوحة، وأن ردة فعلها ستنحصر بمطالبة الأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى... وعبّرت جورجيا على لسان رئيسها عن ذلك بصراحة، حين أعلن عن عزمه "استعادة النظام الدستوري ووقف النزعة الانفصالية في أوسيتيا الجنوبية". وربما، اعتبرت جورجيا أن وصول الرئيس الروسي المنتخب حديثا، حينذاك، ديمتري مدفيديف واستلامه لمهامه في السابع من أيار 2008، وفي ظل المنصب الجديد، سيصعب عليه تعقيد علاقاته بالغرب. أضف إلى ذلك أن رئيس الوزراء فلاديمير بوتين سيكون في بيكين في احتفالية افتتاح الألعاب الأولمبية.
ووفقاً لفهم ساكاشفيلي، كان من المقرر أن تأخذ العملية العسكرية طابع الضربة الخاطفة، فلعب عنصر المفاجأة دوراً كبيراً في صياغة الإستراتيجية الجورجية. وفي هذا السياق، كان حساب ساكاشفيلي صحيحاً بعض الشيء، فطلبُ روسيا عقد اجتماع طارئ لمجلس الأمن في التاسع من آب لم يكن له أي تأثير، إذ إن المجلس الأوروبي و"منظمة الأمن والتعاون" تجاهلا إلحاح موسكو لبحث الأوضاع في المنطقة. لكن مدفيديف، وخلافاً لتوقعات جورجيا أصدر بياناً شديد اللهجة ليلة الثامن من آب حول عمل جورجيا العسكري، محذراً قادتها رسمياً من العواقب المحتملة في حال استمراره، مشيراً بشكل مباشر إلى حق روسيا في حماية أرواح المدنيين وقوات حفظ السلام التابعة لها. ولاقى موقف الكرملين هذا تأييداً كبيراً داخل روسيا الفدرالية. فحتى المعارضة اليمينية المتطرفة، لم تملك الجرأة للاعتراض على قرار الرئيس والحكومة من اعتماد حملة عسكرية مضادة لجورجيا، والتدخل عسكريا في الصراع إلى جانب أوسيتيا الجنوبية، لتدور رحى الحرب في تلك الجمهورية لخمسة أيام فقط.

في النتائج العسكرية والسياسية

بعد عامين على الحرب، يقف المراقبون على نتائجها العسكرية والسياسية. وحظيت الأيام القليلة الماضية بتحليل واسع لها، ولعل الزميل يوري فيسيلوف، من صحيفة "روسيسكي ميروتفورتس"، وقف على معظمها. ومنها، أن إخفاء الخسائر البشرية في صفوف القوات المسلحة الجورجية بعناية. ففي آب 2008، سربت معلومات إلى الصحافة المكتوبة حول خسارة الجيش ما بين ثلاثة وخمسة آلاف جندي وضابط، مع تسجيل فرار معظم المحاربين من الجبهة إلى بيوتهم.
وفي المحصلة دمرت فرق المدرعات، فرق الهندسة، والبحرية، وسلاح الجو الجورجي. وخرجت من الخدمة المطارات العسكرية والمنشآت الأخرى. وفقد الجيش بشكل شبه كامل ترسانته الحربية، وكافة الذخائر المخزنة في المستودعات. واضطرت الولايات المتحدة وحلف شمال الأطلسي إلى إعادة بناء قدرات الجيش الجورجي القتالية من الصفر، مع توجيه متخصصيهم وخبرائهم إلى تدريب الضباط الجورجيين على عمليات الدفاع، لا الهجوم هذه المرة.
أما الأضرار السياسية التي لحقت بنظام ساكاشفيلي فقد فاقت العسكرية بكثير، فقد فقدت جورجيا إلى أجل غير مسمّى قدرتها على استعادة علاقاتها الطبيعية بروسيا الفدرالية، التي يعيش على أراضيها اثنية جورجية يصل عدد أفرادها إلى أكثر من خمسة ملايين شخص. وقطعت العلاقات الدبلوماسية المباشرة بين الدولتين، وتوقفت خدمات النقل بينهما بشكل كامل وتفككت العلاقات التجارية والاقتصادية، ما أرخى بظلال ثقيلة على الاقتصاد الجورجي، الذي كان يعتمد بدرجة كبيرة على عائدات العلاقات التجارية بروسيا المجاورة. وباتت جورجيا تعيش على قاعدة استقبال المساعدات الاقتصادية والمالية من الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية.
وبناء على توجيه ميخائيل ساكاشفيلي، توقفت الخدمات الإعلامية بين الدولتين من جانب واحد، وهذا الحال مستمر إلى اليوم. فلا يستطيع سكان جورجيا استقبال بث محطات التلفزة الروسية، المطبوعات ووسائل الإعلام الأخرى. وأغلقت وسائل الإعلام المعارضة للنظام، وما تزال حرب المعلومات مستمرة ضد روسيا.
وتؤكد القيادة الروسية بشكل مستمر أن تغيير موقفها بشأن تبليسي، وأي تعقيد في ذلك، من شأنه أن ينعكس سلباً على الناس في المقام الأول، وأن موسكو على استعداد كامل لإعادة تطبيع العلاقات، لكن بشرط وحيد، وهو ألا يكون ساكاشفيلي على سدة الحكم، بل رئيس آخر يتبع سياسات أكثر ملاءمة.
وقد أثرت الحرب أيضا على علاقة جورجيا بالولايات المتحدة، فالتغيير الذي طرأ على البيت الأبيض، أضفى سمات جديدة على الخطاب الأمريكي، خاصة في ما يتعلق بمن كان على حق، ومن المسؤول عن أحداث آب 2008. وقد استعرض الرئيس الأميركي باراك أوباما علاقات واشنطن بتبليسي بتمعن، واضعاً الزعيم الجورجي في الدرجة الثانية من حيث الأهمية. فعلى الرغم من أن الإدارة الجديدة أعلنت أنها ستدعم وحدة جورجيا، إلا انها وجدت نفسها ملزمة بإعلام تبليسي، وبحزم، بعدم جواز القيام بأي استفزاز جديد في منطقة القوقاز الكبرى، على غرار ما حدث في آب 2008. وذكرت تبليسي بوضوح بحصرية استخدام خيار الوسائل السلمية لتحقيق أهدافها، وعدم تأجيج مشاعر الكراهية تجاه روسيا، بل على العكس من ذلك، عليها استغلال كل فرصة ممكنة لاستعادة العلاقات المقطوعة معها. وسحبت أوروبا كذلك من جدول أعمالها مسألة العلاقات الروسية الجورجية، ما قد يعتبر ميلا لدعم موقف موسكو من النزاع.
من جهة أخرى، لعب موقف أوكرانيا الداعم لجورجيا في التحضير للحرب ضد أوسيتيا الجنوبية، دوراً حاسماً في تحديد مصير الرئيس الأوكراني السابق. وتناول التحقيقات البرلمانية في كييف عمليات توريد الأسلحة والمعدات العسكرية الأوكرانية لجورجيا، ما وجه ضربة خطيرة لهالته السياسية، وأسهم إلى حد كبير في عبور يانوكوفيتش، الأكثر براغماتية إلى السلطة. وحرمت جورجيا بذلك شريكاً سياسياً وعسكرياً داعماً كأوكرانيا. وعلاوة على ذلك، يبدو أن كييف تتحرك لاستعادة الشراكة الكاملة مع موسكو، ولن تتراجع عن ذلك في المدى المنظور لصالح تبليسي، التي ألحقت أضراراً كبيرة في العلاقات الروسية الأوكرانية.
وعلى الرغم من الاستياء الحاد في واشنطن والعواصم الأوروبية، فقد اعترفت روسيا باستقلال أوسيتيا الجنوبية، ولم تثبت بذلك التزامها تجاه الشعب الأوسيتي فحسب، بل ثقتها بقدراتها كذلك. وأثبتت القيادة الروسية، وللمرة الأولى منذ أربعة عقود، لشركائها الأجانب سياستها الجديدة الهادفة إلى الدفاع بشراسة عن مصالحها الإستراتيجية. مبررة بذلك استخدام القوة في أحداث آب 2008، التي أنتجت زيادة في هيبة روسيا ونفوذها الدوليين، واضطر الإدارة الأميركية وحلف شمال الأطلسي إلى الاعتراف بمصلحة روسيا المشروعة في الحفاظ على الاستقرار في منطقة القوقاز.

إعادة الإعمار وبناء الجمهورية

خسرت اوسيتيا الجنوبية في حرب آب 2008، 1960 شخصاً. ودمر نحو 70 في المئة من المباني السكنية والإدارية، وتعطلت إمدادات المياه والكهرباء، ودمرت البنى التحتية بشكل شبه كامل. أما على مدى 18 عاما من الصراع فبلغ عدد اللاجئين الأوسيتيين مئة ألف، وقتل حوالي ثمانية آلاف، وأحرق ما مجموعه 117 قرية أوسيتية.
وفي اللقاء الذي جمع رئيس الوزراء الروسي فلاديمير بوتين برئيس جمهورية أوسيتيا الجنوبية إدوارد كوكويتي، أواخر أيار الماضي، عرضت بعض نتائج عملية نهوض هذه الجمهورية. فمباشرة بعيد الحرب ارسلت موسكو بـ مليار ونصف المليار من الروبلات (50 مليون دولار أميركي تقريباً) كمساعدة عاجلة، وفي 2009، حولت سبعة مليارات (230 مليون د. أ. تقريباً) إلى حكومة أوسيتيا الجنوبية لإعمار مساكن ومرافق اجتماعية واقتصادية جديدة. وهذا العام وصل المبلغ إلى 5.7 مليار (171 مليون د.ا. تقريبا).
وبناء على خطة نهوض شاملة لأوسيتيا الجنوبية وضعت لفترة 2008 – 2010، تم إعادة بناء 385 منشأة، منها 20 مؤسسة تعليمية، ومنشأتان ثقافيتان، و14 منشأة صحية، و12 منشأة لضخ الغاز، و48 للبنى التحتية للطرق، و32 للاتصالات العامة، والأبنية الحكومية والبلديات، بالإضافة إلى 110 تجمعات سكنية.
أما الخطة التالية فتتمثل بإعادة إعمار مهابط الطائرات المروحية في مدينتي جافا ولينينغوري، والطرق الرئيسية بين العاصمة تسخينفالي ولينينغوري، ومد خط أنابيب المياه من العاصمة، وخطوط التوتر العالي "سيفرني بورتال"، بالإضافة إلى شبكات توزيع المياه في تسخينفالي.
ويكاد ينتهي العمل على أنابيب المياه والغاز بين دزاوريكو وتسخينفالي، بهبة قدرت بعشرة مليارات روبل (330 مليون د.ا. تقريباً) من الشركة الروسية العملاقة "غازبروم". وخصصت بلدية موسكو ملياري روبل (66 مليون د.ا. تقريباً) لبناء الحي "الموسكوفي" النموذجي في العاصمة.
ويتم الاعتراف دولياً ببطء بجمهورية أوسيتيا الجنوبية، فقد لحقت نيكاراغوا بروسيا في ذلك، وتبعتهما فنزويلا. وجال كوكويتي على هذه البلدان، في تموز الماضي، ووقع معها اتفاقات لإقامة علاقات دبلوماسية وتبادل السفارات، واتفاقات تعاون تجاري واقتصادي.
وفيما تضمد أوسيتيا الجنوبية جراحها، يعود اللاجئون تدريجياً إلى أرض الوطن، ليشاركوا في عملية إعادة إعمار المباني والمساكن والطرق والمرافق الاجتماعية. ويذكر الأطباء المحليون، بفرحة كبيرة، أن معدل الولادات قد ارتفع هذه السنة، ما يعتبر مؤشراً على أن السكان يؤمنون بالسلام الحالي. ويستعدون لبناء دولتهم الحديثة.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بهجمات متبادلة.. تضرر مصفاة نفط روسية ومنشآت طاقة أوكرانية|


.. الأردن يجدد رفضه محاولات الزج به في الصراع بين إسرائيل وإيرا




.. كيف يعيش ربع سكان -الشرق الأوسط- تحت سيطرة المليشيات المسلحة


.. “قتل في بث مباشر-.. جريمة صادمة لطفل تُثير الجدل والخوف في م




.. تأجيل زيارة أردوغان إلى واشنطن.. ما الأسباب الفعلية لهذه الخ