الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


باتجاه الجنوب.. باتجاه لوركا

عبدالكريم كاصد

2010 / 8 / 7
الادب والفن



هنا في الطريق المحاذية لمجرى النبع الكبير الذي سمّاه عرب البوعبدل نبع عين الدمار .. هنا حدثت الجريمة.
كانت بوّابة مقبرة لوركا مغلقة فقررنا الدخول من تحت الأسلاك المحيطة بها بعد أن خلعنا ما علينا من ملابس تعيق الدخول.
بمحاذاة السور الذي اجتزناه ثمّة نصب حجريّ مكتوب عليه اسم الشاعر الذي خُطّ أيضاً في أعلى البوّابة الكبيرة، وفي أسفل النصب قنينة مكسورة العنق ملئت بالماء ووضعت فيها ثلاث ورود حمر.. من وضعها؟! أمّا وسط المقبرة الدائريّ فإنه أحيط بشجرات الميلاد وأشجار العفص وأنواع أخرى من أشجار لا أعرفها... مشهد لوركاوي ينقصه القمر الغائب. تضيئه الشمس الحادّة وتصب فيه قطرات مجرىً من الحصى الأبيض المبلّط. على لوحة المرمر المنحوتة فوق حوض الماء، والتي نقشت عليها قصيدة ماتشادو الباكية.
من الحوض نصف الدائريّ تمتدّ سواقٍ أربع مبلطة تلتقي عند حوض صغير أيضاً ونافورة صغيرة وسط نجمةٍ هائلة تتوسطها تشكيلات جميلة أخرى من الحصى الأبيض والأسود المصفوف كسعف مضفور، وعند الجدار الكبير الذي يواجه البوّابة الرئيسيّة والذي تتوسطه قصيدة ماتشادو علقت مقاطع من قصائد لوركا الشهيرة منحوتة على ألواح من المرمر: مرثية مصارع الثيران، موت انطونيو كامبيريو، حكاية القمر يا قمر، قصيدة من ديوان (شاعر في نيويورك)، وأغنيته الشهيرة:

خضراء أحبك خضراء

وفي البعيد يمتدّ السفح الأجرد الذي شهد المأساة والذي تتخللهُ الأشجار المتناثرة البعيدة ويلوح فيه مبنى وحيد وأعمدة كهرباء.
عدنا من المقبرة وكأننا عدنا من تشييع جنازة صديق متجهين إلى فوانت فيكاروس حيث ولد لوركا .
في الطريق إلى فوانت فيكاروس تمتدّ السهول المزروعة بالذرة وأشجار التبغ مذكّرةً بمشاهد (عرس الدم) المفتوحة على سماء غرناطة حتّى انتهينا إلى نصب للوركا أقيم على حافة الطريق لنستدلّ من خلاله على المكان.
سلكنا طريقاً جانبيّةً ودليلنا حافلة تتقدّمنا. قال لنا أحد العابرين إنها ستوصلنا قريباً من بيت لوركا الذي سرعان مارأيناه مطليّاً بالبياض.. لامعاً بين صفّ من البيوت الشعبيّة النظيفة الممتدّة حتى بيوت الغجر المبنيّة بالصفيح، تقابله مدرسة للأطفال.
حين بلغناه كان جرس المدرسة يدقّ والطلاب الذين نراهم من سياج المدرسة الواطئ يهرعون إلى صفوفهم.
طلب منّا الدليل أن ندخل من الباب الخلفيّ: غرف صغيرة ذات سقوف خشبيّة، وتفاصيل أليفة: صورة العائلة،الموقد، الفانوس، وثبقة الأم التي كانت مدرّسة في القرية ذاتها، بيانو لوركا، شهادة تخرجه، مكتبة العائلة التي لم يبق منها سوى كتبٍ عن بعض الفنانين وتاريخ إسبانيا، لوحتان إحداهما طبيعة صامتة رسمها لوركا سنة 1928 وطرزتها ابنة عمّه، هاون يعود لزوجة الأب الأولى التي لم تنجب أطفالاً، صورة له عندما كان عمره سنة واحدة راكباً مهراً... وتفاصيل أخرى في الطابق الأعلى الذي كان مخزناً للمؤونة ومكاناً للطبخ والذي أصبح الآن متحفاً صغيراً: صور شعراء وممثلين وأصدقاء وأقارب تلمع بينهم صورة لوركا بحضورها المتواضع المشعّ الذي كان يضفي سحراً آسراً.. صور في بونس آيرس وهافانا ونيويورك، وكتابات عديدة لقصائد مخطوطة باليد، وملصقات وقصاصات صحف.
بيتٌ يبعث البهجة والمرارة معاً.. كأنّ سكّانه غادروه توّاً أو كأنهم سيعودون إليه بعد قليل.
لقد رأيت بيوت شعراء وفنانين عديدين بعثت في نفسي الكآبة فوددتُ لو خرجتُ منها مسرعاً، ولكن ما الذي جعلني راغباً أن أطيل المكوث وأحدّق في التفاصيل الكثيرة التي تخلّت عن زحمتها لتخلي المشهد لتفصيلين أو ثلاثة في غرفة لوركا المجاورة لغرفة الأب الحزينة كحزني آنذاك.
غرفة ليس فيها سوى مهد لوركا، وجرس صغير وحجلة، ولعبة مفقودة لم يبق منها سوى قاعدتها. ذكرتني الحجلة بطفولة لوركا وعرجه الخفيف.. ولكن ما خفّف حزني مشهد الشباك المفتوح على باحة البيت والذي كانت تأتيني منه أغنية شجيّة كلماتها للوركا عرفت أنها من قصيدة "حكاية القمر يا قمر" من خلال كلمة تردّدت في الأغنية " لونا .. لونا " أي " قمر .. قمر".
ما أجمل الباحة.. ما أجمل حصاها وشمسها اللامعة.. وتلك البئر التي تحفّ بها أشجار صغيرة يتسلّق بعضها الحائط، والبئر التي لم تجفّ ماؤها بعد، وتستند إليها مزهريتان ورودهما حمراء ويتدلّى إليهما حبل قديم ينتهي عند سطل كأنّه وُضع البارحة.
اجتزنا الباحة إلى الجهة الأخرى من البيت وصعدنا سلّماً يفضي إلى الطابق الثاني الذي تحوّل إلى صالةٍ لعرض الأفلام الوثائقية عن لوركا.
ودّعنا بيت طفولة لوركا، وبي حسرة أنّني لن أراه ثانيةً، ولربّما لن أختزن تفاصيله في ذاكرتي. كنت مسرعاً.. قلقاً الاّ أرى بيته الآخر في غرناطة الذي انتقلت إليه عائلته فيما بعد، فقد يكون مغلقاً عند الظهيرة.
كان البيت مغلقاً كما رأيناه البارحة تحوطه الأشجار كأنّه مزرعةٌ صغيرة وإلى جواره بضعة بيوت وورشة للحدادة وكلب مربوط إلى جذع شجرة استقبلنا وودّعنا بالنباح.
لم ننتظر كثيراً حتى أطلّ القائم على البيت ليفتحه لنا... بيت عاديّ يكاد يكون خالياً إلاّ من أثاث بسيط، ليس فيه ما يجلب الانتباه إلاّ غرفة لوركا التي تطلّ على نخلة ضخمة تتدلّى منها الأعذاق الصفراء اليابسة ( لقد طالعني منظر النخل في مدخل غرناطة أيضاً) وفيها مافي سواها من أثاث بسيط وأشياء بسيطة: سرير لوركا، ومرآة منضديّة، ورسم للشاعر رافائيل ألبرتي أهداه إلى لوركا، وصورة العذراء المعلّقة على السرير، وإعلان كبير لمسرح الباراكا بشعاره المعروف.. العجلة والقناع، يعلو منضدة خشبيّة لا تزال تستقرّ عليها قنينة فارغة وبضعة صور فوتوغرافية من بينها صورة للوركا مع شقيقة سلفادور دالي، وقد سبق أن رأيت له صوراً معها في بيت طفولته في فوانت فيكاروس.
كلّ شئ ينمّ عن بساطة وحميميّة.
قال لنا القائم على البيت إنهم بصدد تحويله إلى متحف في الأيام القادمة ثم قادنا إلى شرفةٍ تطلّ على المدينة مشيراً إلى العمارات الحديثة مردّداً: "أي منظر كريه!" مبدياً أسفه لأنها حجبت أفق غرناطة وبدا البيت وكأنّه بيت ريفيّ ضائع في طرف المدينة.
في مقالةٍ بعنوان ( الروح المبدع ) يقول لوركا : فالخاتمة في كلّ بلدٍ للموت ما إن يصل حتّى تسدل الستائر إلاّ في اسبانيا. في اسبانيا تُرفع الستائر."
هكذا أحسستُ عندما غادرتُ لوركا لأجده في كلّ حجرٍ في غرناطة حتّى في الحمراء، حيّاً يعيد دورة الحياة بهيّاً ليخترق الحواجز والموت، يثير الكآبة مثلما يثير الفرح.
هنا يصبح الموت أنشودة للحياة مثلما تصبح الحياة صورة الموت. خليطٌ من الأضداد، وكأنني لم أحضر المشهد الجنائزي ولم أسدل ستارة سوداء.
كلّ شئ يؤذن بالحضور والمشهد الرائع.
وفي الحمراء تخيلت ذلك الفارس الذي اجتاز القصر تاركاً شرر حوافره في ساحات غرناطة ليختفي أبداً عبر بوّابة البيرة .. إحدى بوّابات غرناطة الشهيرة التي خلّدها لوركا في إحدى قصائده الجميلة .. إنّه موسى بن أبي الغسّان قائد فرسان غرناطة الذي ولّى مغضباً لا يريد لمدينته السقوط.

أين بوابة البيرة !


1989








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أمسيات شعرية- الشاعر فتحي النصري


.. فيلم السرب يقترب من حصد 7 ملايين جنيه خلال 3 أيام عرض




.. تقنيات الرواية- العتبات


.. نون النضال | جنان شحادة ودانا الشاعر وسنين أبو زيد | 2024-05




.. علي بن تميم: لجنة جائزة -البوكر- مستقلة...وللذكاء الاصطناعي