الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حرب أحادية الجانب تماما

أوري أفنيري

2004 / 8 / 25
القضية الفلسطينية


"من جهتي، فليضربوا عن الطعام حتى الموت!" هذا ما قاله تساحي هنغبي كرد فعل على إضراب السجناء الفلسطينيين عن الطعام، ليضيف وزير الأمن الداخلي بذلك مقولة مأثورة أخرى للثروة اللغوية الخاصة بالنزاع الإسرائيلي-الفلسطيني.

لقد اشتهر تساحي هنغبي لأول مرة، إذ كان ناشطا يمينيا متطرفا في أوساط الطلاب الجامعيين. وقد تم توثيقه ذات مرة وهو يلاحق طلابا جامعيين عرب، ويلوّح، هو وزملاؤه، بالسلاسل الحديدية. لقد نشرت صورة له آنذاك وهو يقوم بذلك، ولم تكن هذه الصورة لتخجل طلابا جامعيين ألمان أو بولونيين في الثلاثينيات. غير أنه في ذلك الوقت كان اليهود هم الملاحَقون، أما في هذه المرة فهم الملاحِقون.

في هذه الأثناء حدث لنغبي ما يحدث للكثير من الشباب الراديكاليين فقد تحول إلى وصولي مطلق العنان. لقد عين وزيرا وبدأ يلبس البدل الأنيقة في الأيام الحارة أيضا، واتخذ لنفسه مشية ذات أهمية تميز الوزراء. إنه يؤيد أيضا ترّهات الانفصال الصادرة عن أريئيل شارون، وذلك رغم غضب أمه غؤولا كوهن، وهي امرأة يمينية متشددة لم تبدل جلدها.

غير أن تساحي هنغبي يظل تساحي هنغبي رغم البدلة والصورة الرسمية، وتشهد على ذلك أقواله اللا إنسانية فيما يتعلق بإضراب السجناء عن الطعام، وهو المسئول عن سلامتهم. لا يقتصر نصيبه على الكلمات فقط: فقد أشعل هذه النار المفوّض الجديد لمصلحة السجون الذي عينه هنغبي، إذ بدأ فور توليه منصبه بالإساءة إلى ظروف سجن الفلسطينيين.

ليس حري بنا أن نولي أهمية خاصة لشخصية السيد الوزير. من الأهم أن نتطرق إلى الإضراب نفسه.

مصدر هذا الإضراب هو وضع من اختراع إسرائيلي: الحرب أحادية الجانب.

يعلن جنرالات الجيش الإسرائيلي مرارا وتكرارا أننا في حالة حرب. وحالة الحرب هي التي تمنحهم التخويل بتنفيذ عمليات مثل "التصفيات الموجهة"، التي لا تعتبر في أية حال أخرى سوى أعمال قتل. يتم القتل في الحرب دون محاكمة. وبوجه عام تبرر المس بالمواطنين وهدم البيوت واقتلاع الأشجار وسائر ممارسات الاحتلال التي تحولت إلى عمليات يومية، تبررها كلها حالة الحرب هذه. وكما يقال "الحرب هي الحرب".

إلا أن هذه الحرب هي حرب مميزة، لأنها تمنح حق المقاتلين لطرف واحد فقط. لا توجد لدى الطرف الآخر حربا ولا مقاتلين لديهم، ولا حقوق للمقاتلين. فلا يوجد لدى الطرف الآخر سوى مجرمين وإرهابيين وقتلة، باختصار "مخربين".

لماذا يا ترى؟

لقد كان التمييز ذات مرة بسيطا للغاية: من كان يلبس الزي العسكري كان مقاتلا ومن لم يكن يلبسه كان مجرما. يسمح لجنود الجيش المحتل بإعدام المواطنين المحليين الذين أطلقوا النار عليهم فورا. غير أنه في أواسط القرن العشرين تغير هذا الوضع، فقد أجمع العالم على أن أفراد التنظيمات السرية الفرنسية والعصابات الروسية واليوغوسلافية وأشباهها هم مقاتلون كأي مقاتلين آخرين، ولذلك يجب منحهم الحماية الدولية التي يحظى بها المقاتلون. وفقا لذلك تم تعديل قوانين الحرب والمعاهدات الدولية.

إذا ما هو الفرق بين الجنود والإرهابيين؟ آهه، يقول المحتلون، الفرق شاسع. الجنود يقاتلون الجنود أما الإرهابيون فيلحقون الأذى بالمواطنين الأبرياء.

أصحيح هذا؟ ألم يكن ذلك الطيار الذي ألقى بالقنبلة الذرية على هيروشيما وقتل عشرات آلاف الأبرياء، جنديا أو أنه كان مجرد مجرم إرهابي؟ وكيف ننظر إلى الطيارين الذين دمروا مدنا كاملة مثل هامبورغ وديرزدن في وقت انعدم فيه وجود أي حاجة عسكرية لذلك؟ لقد كان الهدف المعلن هو كسر الروح المعنوية لمواطني ألمانيا وحثهم على الاستسلام. هل كان قادة أسلحة الجو التابعة لبريطانيا والولايات المتحدة إرهابيين (كما ادعى النازيون في ذلك الحين وهم الذين وضعوا مصطلح "طياري الإرهاب")؟

ما الفرق بين الطيار الأمريكي الذي يلقي قنبلة على سوق في بغداد وبين الإرهابي العراقي الذي يدس عبوة ناسفة في السوق ذاته؟ هل هو حقيقة كون الطيار يلبس زيا عسكريا؟ أو أنه يلقي بالقنبلة عن بعد ولا يرى الأولاد الذين يقتلهم؟

لا أقول ذلك بالطبع لتبرير قتل المواطنين. إنني أعارض ذلك بشدة، بغض النظر عن المنفذين، أكانوا جنودا أو أفراد تنظيم سري، طيارين من الجو أو إرهابيين على الأرض. فالنظرة إليهم واحدة.

يعتبر الجنود الذين يقعوا في أسر العدو أسرى حرب، يتمتعون بحقوق ينص عليها القانون الدولي، وهناك منظمة دولية خاصة – الصليب الأحمر – تراقب ذلك. لا يحتجز الأسرى بهدف معاقبتهم بل لكي يمنع عنهم الاستمرار في القتال، ويتم إطلاق سراحهم مع حلول السلام.

في العديد من الأماكن تتم محاكمة أفراد التنظيمات السرية الذين يقعون في الأسر وكأنهم مجرمين. فهم لا يتمتعون بحقوق أسرى الحرب فحسب، بل إن ظروف سجنهم في إسرائيل أسوأ بكثير من الظروف اللا إنسانية التي يعاني منها السجناء على خلفية جنائية من مواطني الدولة. لقد تعلم الأمريكيون منا ذلك وقد أنشأ الرئيس جورج بوش معسكرا للمحاربين الأفغان في غاونطانامو، حيث تنتزع منهم هناك كل الحقوق الإنسانية عامة، بما فيها حقوق أسرى الحرب وحقوق السجناء على خلفية جنائية.

في ذلك الوقت، حين تصدى أفراد الحركة السرية العبرية للسطة البريطانية في إسرائيل، طالبنا بمنح أسرانا حقوق أسرى الحرب. البريطانيون لم يلبوا هذا الطلب ولكنهم تصرفوا تجاههم عادة وكأنهم أسرى. وكان يمكن لأسرى الحركة السرية حتى التعلم في الجامعات بالمراسلة، وقد أنهى كثيرون منهم دراستهم في مجال القانون والمهن الأخرى خلال فترة أسرهم.

إحدى هؤلاء الأسرى في تلك الفترة كانت غؤولا كوهن، والدة تساحي هنغبي. من المشوق أن نعلم ماذا كانت ستقول هي وزملاؤها في منظمة ليحي، لو أعلن قائد الشرطة البريطانية أنه لا يأبه لموتهم في السجن. كانوا سوف يغتالونه بالتأكيد. ولكن لحسن حظها تصرف البريطانيون بشكل آخر. لقد أحضروها لتلقي العلاج الطبي في المستشفى (وقد هربت من هناك بمساعدة عرب من قرية أبو غوش).

لقد تصرف البريطانيون تجاه أفراد الحركة السرية الأيرلندية بشكل مختلف. حين أعلن هؤلاء عن إضراب عن الطعام، تركتهم مارغريت تاتشر عرضة للموت. كل العالم رأى ذلك واقشعر له. لقد زادت هذه الفضيحة من النظرة إلى تاتشر كامرأة غير إنسانية، إضافة إلى تعاملها مع العمال والمحتاجين.

يمكن للتعامل الإنساني مع السجناء "الأمنيين" أن يجدي نفعا من ناحية أخرى أيضا. مثل هؤلاء السجناء سابقا، يتقلدون الآن مناصب هامة في الضفة والقطاع. أشخاص مكثوا في السجن الإسرائيلي 10، 15 وحتى 20 سنة تحولوا إلى زعماء سياسيين ووزراء ورؤساء بلديات في السلطة الفلسطينية. إنهم يتكلمون العبرية بطلاقة ويعرفون إسرائيل جيدا. معظمهم تابع للمعسكر الفلسطيني المعتدل الذي يتطلع إلى التعايش في دولتين جارتين. إنهم في طليعة من يطالبون بالديمقراطية والإصلاحات في السلطة الفلسطينية. لقد أسهم التعامل العادل معهم في فترة سجنهم في ذلك.

إلا أنني أعتقد أن الأهم هو ألا تظهر إسرائيل في صورة تساحي هنغبي وزمرته. يهمني جدا ألا يموت السجناء – الفلسطينيون أو الإسرائيليون – جوعا في السجن الإسرائيلي. يهمني جدا أن يمكث السجناء – الإسرائيليون والفلسطينيون على حد سواء – في السجن الإسرائيلي بظروف إنسانية.

لو كان تساحي هنغبي في السجن، لكنت سأطالب بذلك من أجله أيضا.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. بدء التوغل البري الإسرائيلي في رفح


.. طفل فلسطيني ولد في الحرب بغزة واستشهد فيها




.. متظاهرون يقطعون طريق -أيالون- في تل أبيب للمطالبة الحكومة بإ


.. الطيران الإسرائيلي يقصف محيط معبر رفح الحدودي




.. دول عربية تدرس فكرة إنشاء قوة حفظ سلام في غزة والضفة الغربية