الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مرتضى فرج الله

سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)

2010 / 8 / 8
الادب والفن





لم يلقَ ما هو جدير به، ولم يتسع ذكره بما هو أهل له، ولعل عوامل من السياسة والمجتمع جارت عليه فنأت به عن أقلام الدارسين، ولعل زهداً قديماً كان يرجع به عن مواطن النشر، ولعل خيبة ما استقرت في أعماقه فأرخت من قواه شيئاً، كان أول ما قرأته له ما كان ينشر في مجلة (الرابطة) من قصائد كانت هادئة النغمات تخفي من أسرار فنها أكثر مما تعلن وتنتقي من اللقطات ما يبدو بعيداً عن الأعين العجلى وتدل على شاعر بارع أصيل.
ولد مرتضى فرج الله في مطلع القرن العشرين في النجف وثقف العربية في أدبها القديم وشهد شعر أواخر القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين واتخذ منه زاداً. وإذا كان من أترابه من اكتفى بهذا الزاد الثقافي القديم ووقف عنده فان فرج الله اشرع نوافده لروح العصر حتى تشربها فكراً وشعراً وصارت الحياة عنده في كل مناحيها قائمة على الحركة والتحول فليس لشأن من شؤونها ثبات ولا يختلف الشعر عن ذلك، بل هو في الصميم منه فلا بد للتقليد في موضوعات الشعر وصياغته من أن ينجلي وهو في ذلك يلتقي مع نفر من الشعراء بعضهم سبقه كالشرقي والجواهري وبعضهم من لداته كالوائلي والجعفري. ولقد كان مما هيأ له أن يتحرر من إسار التقليد فكر يريه مجرى الحياة واضح المعالم، وينير له اجزاءها ويهيئ له موقفاً منها ينسجم معه ويصدر عنه بحيث لم يجر لديه فكر على شعر، وإنما كان الفكر فيه نسغ حياة وعنصر إضاءة وداعية تماسك. كانت (المناسبة) تملي على أكثر الشعراء في مطالع القرن العشرين قصائدهم وتجعل الشاعر أسير الأحداث، كل طماحه أن يصفها ويغرق في تفصيلاتها غير أن مرتضى فرج الله بالذي له من موهبة وفكر كانت له تجربته العميقة في معاناة الأشياء والأحداث مبتعداً عما تمليه (المناسبة). زاول فرج الله الشعر بروح تؤمن بالحداثة المتجلية في كل مناشط الحياة والمنفتحة على المستقبل برحابة صادقة، وكان أن أصدر أول دواوينه (أشرعة الفجر) في سنة 1969م وهو عنوان لا يخلو من دلالة على ما هو فيه، وعلى الشعر الذي يريده ولا بد أن يكون الشعر لديه من الأشرعة التي تبحر صوب الفجر ولكنه إبحار الهادئ الواثق من صنيعه. ثم تلاه بديوانه الثاني (مرايا الأفق) في سنة 1970م مستشرفاً الأفق الذي يروده بمرايا مجلوة تسعى أن تمسك بالظلال الهاربة حتى إذا اقتنص ملامح الأشياء راح يستطلع ما وراءها فأصدر (وراء الملامح) في سنة 1976م راصداً رحلته في استكناه ما استقر في الأعماق، أعماق الإنسان في حركته، وأعماق الأشياء في تحولاتها.. وإذ توفي رحمه الله كان قد هيأ ديواناً من الشعر آخر عنوانه (مرفأ الظل). قال في مقدمة ديوانه (وراء الملامح): (الشعر تعبير موح بأسلوب جميل خاص) ولقد صدر عن هذا الفهم في جل شعره حتى عنوانات دواوينه صاغها صياغة موحية ذات ألوان وظلال. ولقد كان عنوان حداثته الكبير أن الشعر إيحاء وليس تقريراً وإذا كان هذا الأمر اليوم من بدائه الشعر فانه لم يكن كذلك إذ شرع مرتضى فرج الله ينظم، فلقد كان الشعر في علميه الكبيرين الزهاوي والرصافي تقرير حقائق ببيان واضح، وكان غيرهما قريباً منهما في هذا المنحى، ولكن الشرقي مثلاً اخذ في بعض شعره بالصياغة الهامسة الموحية فلعل فرج الله أفاد من هذا الهمس الموحي ومضى به بعيداً فاستحق من هذه الزاوية ان يكون رائداً لكنه ابتعد عن جلبة الرواد وضجيجهم وأوى إلى ظلاله الموحية يستريح بها جاعلاً من همومه تنسرب على هونها هادئة يلفها ضباب شفيف على أنه لم يفض به اتخاذ الإيحاء وسيلة إلى التعمية وغياب المعنى واضطرابه، فلقد كان له في شعره رسالة يريد أن يؤديها، ومن مكملات أدائها عنده إلا تكون عارية، بل تمامها أن تكون غزيرة المعنى ذات أبعاد ومناحي. ومن أراد أن يكون الشعر إيحاء جعل الصورة مبتغاه وسعى إليها بانياً شعره على أطرافها مبتعداً عن الصور المألوفة التي طال تكرارها في الشعر مقترباً من الصورة التي تتسع وتتشابك عناصرها على نحو فريد ينهض دليلاً على أصالة شاعرها. ويلتقي مبدأ الإيحاء بأداته الصورة ليعربا عن تجربة طويلة في الحياة وفي الشعر ظلت تعتمل في حنايا الشاعر وتصطرع عناصرها في ما يكتنفها من خير وشر وفي ما يغلب عليها من عنصر جماعي حيناً وعنصر فردي حيناً آخر، وهو على كل حال حسن الصبر عليها لا يعالجها بالتعبير حتى تكتمل وتأخذ مداها في الذي لها والذي عليها فإذا رضيها انسربت من خلال الصورة الموحية فلا غرو إن لم يكن فرج الله من المكثرين إذ القصيدة لديه تجربة لها أعماق وآفاق وليس سهلاً أن تنضج في كل يوم تجربة، ولو انّه أراد النظم وإعادة الكلام على غير تجربة أصيلة لفعل وأكثر ولكنه محكوم بمفهوم للشعر صحيح راق.
تهامس في راحتي العبير
فأمسكت بالروح زهرة
إذا هي جمرة
وشوك على أكم يستفيق
فأطفأت في جمراتي الرياح الحزينة
ولاح الندى في عيون المدينة
(وراء الملامح 10.9)
يخلق صورة سرعان ما تتسع وتتشابك عناصرها ويتولد بعضها من بعض، وتظل تتوهج بالإيحاء واستفاضة المعنى الممتد من العطر المتهامس في الراحتين إلى الندى في عيون المدينة، وللدارس أن يجد الخيط الخفي الرابط بين ما هو فردي وما هو جماعي على غير قسر وافتعال بل هما موصولان بطواعية وشفافية وتلك إحدى براعات مرتضى فرج الله ولولا أن ما هو فردي موصول بما هو جماعي في أعماق الشاعر حتى أنه لا يرى الأشياء على غير ذلك لما اتصلا في شعره على هذا النحو من السماح واليسر. وإذ تكتمل الصورة بعناصرها المتشابكة تبقى في نفسه بقية تشرئب إلى الإفصاح فيلوذ بالصياغة الهادئة الهامسة التي تقرر وكأنها لا تقرر لانسياب المعنى خفياً في نسيج الحروف.
كرهت الذبول
سئمت الخطى العابثة
هناك أيد تليح
وأخرى على عجل تستكف
فلا ينجلى غير خفق الرماد
ويبحث في الاكم الضائعون
أ خاتم السحر؟
أ جوهرة من بقايا العصور
تحت الظنون (نفسه 10)
فإذا أبان الشاعر عن كرهه الذبول وسأمه الخطى العابثة، وهذه خلاصة فكرة جاء بأمثولات على الذبول الذي يدب في الحياة، وعلى الخطى الضائعة العابثة. فكم شهد في حياته من حالات الذبول والخطى العابثة لكنه استقطرها واستصفاها في بضع امثولات فصيحة مبينة يلتمع الفكر في ثناياها. تغتذي القصيدة لديه بالصراع بين (الذبول) وما يتصل به ويتفرع عنه من (خطى عابثة) وضياع معنى الحياة، وبين الندى المرجو، والضحى اليقظ وما يلتقي معهما، وتنمو القصيدة على وقع هذا الصراع، وليس الشاعر ساذجاً فيختم القصيدة (بالضحى اليقظ) وليس هو بالمتشائم الخائر القوى حتى يرى غلبة الذبول وضياع المعنى ولكنه شاعر بصير يرى جوهر الحياة في هذا الاصطراع ويلتمسه سراً كامناً وراء الملامح ولكي يمسك بأطراف من هذا السر الخفي:
يــقــرأ أوراق الشـجـــر
ويــلمح الظـلال في الوجـوه
يعرف مـا يكمن في الطريــق
ومن رمى في بئرها الظامي حجر (نفسه 15)
وتفضي به (القراءة) إلى أن:
تزدحم الخضـرة في ربـاه
وتنتهـي الأوهـام في رؤاه
أرجــوحة مـن الـقمـر
تحمل بالهمس الرفيف للزهر
تنشئ للزغب بتحليق صـور (نفسه 15)
وللقارئ أن يلحظ ملمحاً رومانتيكياً في (الخضرة المزدحمة) و(أرجوحة من القمر) و(رفيف الزهر) وكأن الشاعر قصد إليها قصداً غير أن سياق الشعر يجعل لها معنى آخر يتصل بما ترمز إليه من حياة حرة راقية ومن أجل تلك الحياة فأن الشاعر:
ينسج من أيامه الجهيــده
شوامخ الذرى لبيته الكبيـر
فدوحة العمر تصارع الهجير
لتخفـق الأجنحـة الجديـدة (نفسه 16)
فالصور تتآزر ملتحمة يدعو بعضها بعضاً حتى تخفق (أجنحة جديدة) هي رمز الحياة المتجددة وسمة الغد الذي يسعى إليه الشاعر، وإذا (هوى طير فتبقى الملايين):
كيف غاب الرفيف عن قسماته
وترامى الوميض عن لمحاته
نفرت لهجة السنى عن شفاه
ذبلت فانطوت على خلجـاته
أيـن ينأى بوجهه كـل درب
كل عين تنزو على مــرآته (نفسه 95)
كأن وهنا دب في خطى الفارس، فغاب الرفيف، وترامى الوميض.. والشاعر صادق في تجربته، صادق في الابانة عنها لا يريد أن يخفي شيئاً، وليس من خلقه أو فنه المكابرة:
وقف الفارس العنيد كليــلاً
مات حتى الغبار في خطواته
ظـن أن المسيـر يوم ويوم
يتهـادى على صدى رحلاته (نفسه 96)
لكن الفارس إذ يقف أو يهن فان أجنحة أخرى ما تزال تحلق:
لا يهم الرفوف إن خر طير
فانحنى بائساً على وكناتـه (نفسه 98)
وذلك وعي بمجرى الحياة عزيز النظير في شعر معاصريه فإذا جاء على صياغة فنية عالية لا تشكو افتعالاً ولا تقع في شراك المباشرة والتقرير كان شعراً فذاً فريداً في شعرنا المعاصر كله، التقى فيه الفن والفكر وانسجما على خير ما يلتقي فن بفكر.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اطلاع على مقال
مصعب مكي عبد زبيبة ( 2011 / 1 / 13 - 09:28 )
سماحة الدكتور العلامة سعيد عدنان يسرني بل يشرفني ان اكتب تعليقا على مقالتكم الجميلة والمفيدة ويسرني ان اعلمكم ان انتهيت من بحث مرتضى فرج الله لمرحلة الماجستير وقد اطلعت على الموضوع من خلال صحيفة الفرات ـ ان والدي كان من اصدقائك وهو القاص مكي زبيبة ـ ان امنيتي أن انهل من علمك الجم وانني في كلية الاداب ـ جامعة الكوفة تصلني اخبار علميتك فيا ليتني انتفع من علمك والسلام...

اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس