الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أن تعيش لتحكي .. و تحكي لتعيش

عبدالقادر حميدة

2004 / 8 / 26
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


( عشت لأروي ) لغابرييل غارسيا ماركيز :

حين مرض ماركيز و أدخل المستشفى ، انتابني شعور غامض و حزين ، لأني كنت قد صحبته سنوات و سنوات عبر كتبه فعز علي الشعور بأن عالمه السحري قد انتهى ، و بأن غابيتو لن يأتي بجديد بعد اليوم ، حينها هرعت للقلم و كتبت مقالة نشرتها في الخبر الأسبوعي بعنوان " الملعون لا أحد يراسله .." .. كنت أمني النفس بأن تشفيه الكتابة .. و لست أدري من أين جاءتني فكرة أن خلاص غابو لن تكون إلا بالكتابة .. و بالفعل كتب .. و بالفعل تماثل للشفاء و خرج من الحالة الأولى حتى و إن كان السرطان الليمفاوي لم يغادره بصورة نهائية ..
أسوق هذه القصة بمناسبة قراءتي لمذكراته ، التي جاءتني أولا بلغتها الأصل ، في الطبعة الأولى طبعة كولومبيا الصادرة عن دار موندادوري في أكتوبر 2002 ، و التي بيعت منها أكثر من مليون نسخة في ظرف أسابيع .. جاءتني ( vivir para contarla ) و لأن اسبانيتي ما تزال في بدايتها ، فقد ظللت أتعارك معها .. إلى أن كفاني المترجم صالح علماني شر القتال .. و إن كنت أتمنى لو كفانيه الدكتور عبد الله حمادي .. إذن لذاق القارئ الجزائري روعة ما أنا بصدد الحديث عنه .. دون أن أنسى شكره طبعا على ترجمته لرواية ماركيز ( خبر اختطاف ) ..
و هكذا .. صدرت ترجمتان بالعربية للكتاب الذي نمد له يد الذكر اليوم .. إحداهما كنانية على يد الأستاذ طلعت شاهين بعنوان ( أن تعيش لتحكي ) و هو أحب العنوانين إلي .. عن دار سنابل المصرية .. و الأخرى شامية على يد الأستاذ صالح علماني و هي أحب النصين إلي .. بعنوان ( عشت لأروي ) ..
فمالذي صنعه ماركيز ؟
واجه المرض بالكتابة ، و رفع الحكاية في وجه الموت .. حتى يستطيع أن يعيش .. فهو يدري أن الحكي يقتل الموت ، أنبأته بذلك شهرزاد أستاذة القصاصين .. و أبرع من وضعت الحكاية درعا على أجساد المقهورين .. فضمنت لهم عمرا إلى أعمارهم .. بل ضمنت لهم الخلود .. و سبق لماركيز أن تعلم من شهرزاد هذا الطلسم البارع و الترياق النافع .. يوم كان مراسلا مغمورا في ( بوقوتا ) .. و حين كتب ( أوراق ذاوية ) و رائعة ( مائة عام من العزلة ) التي بسببها نال نوبل عام 1982 .. و حين كتب ( الجنرال لا أحد يراسله ) و الرائعة التي قلما يجود الزمان بمثلها فهي ستظل نادرة مثل ( روميو و جولييت ) حسب النقاد و حسب هوليود أيضا ، وقد ظلت تتعقبه حتى افتكت منه موافقة تحويلها إلى فيلم ، سيتمتع به الملايين مشاهدة بعد أن تمتع بها الملايين قراءة ، إنها ( الحب في زمن الكوليرا ) .. و سبق له أن جرب هذا العلاج حين كتب قصة ( قيلولة يوم الثلاثاء ) و ( جنائزيات الأم الكبيرة ) و رواية ( في ساعة نحس ) و القصة الأخاذة ( القصة الغريبة و العجيبة لأيرنديرا الطيبة و جدتها العجوز ) ورواية ( الغريق ) التي كانت في بدايتها مراسلة عادية ثم عاد إليها بعد سنوات و حولها إلى رواية .. و ( خريف البطريرك ) .. كلها و غيرها محطات فرار من الموت أو محطات محاربة لهذا الموت و محاولة لقتله مثلما فعلت الجدة شهرزاد منذ قرون ..
ولد غابرييل غارسيا ماركيز في مارس 1927 بأراكاتاكا في كلومبيا .. و منذ البداية انغمس في جو الحكي .. فحكايات جدته لم تفارقه حتى و هو يافع و كهل و شيخ .. و ظلت تتحكم في أحاسيسه حتى و هو رجل فقد ظل لسنوات طويلة يقوم مفزوعا في الليل من تأثير بعض تلك الحكايات الغريبة منها و المفزعة خصوصا .. ثم انتقل إلى بوقوتا و فيها بدأ الكتابة بعد أن عاشر شلة أصدقاء غريبين و جد عندهم ضالته ، فأعلن تمرده ترك الجامعة و انضم لرفقاء الليل ، الأدباء المجانين ، العظماء فيما بعد .. و قرأ معهم مئات الروايات بعد أن كان افتتن بالشعر و الشعراء .. و حين قرأ لفوكنر و كافكا قال أن هذا الشيء يمكن عمله .. و هكذا أصابته اللوثة .. و هكذا دخل عالم الكتابة ..
و يروي في مذكراته هذه تفاصيل طفولته .. و دقائق حياته و قوة إرادته فهو يقول في مقالة سابقة للمذكرات : " .. أعتقد وبجدية شديدة، أن فعل الإنسان لما يريد دائما، وهذا فقط، هو الطريقة المثلى لحياة طويلة وسعيدة .. " و تبتدئ مذكراته هذه بداية ماركيزية بأتم معنى الكلمة .. إنها نفس البدايات الرائعة و الخارقة الموجودة في ( مائة عام من العزلة ) و في ( قصة ميتة معلنة ) .. حيث تبتدئ الحكاية بطلب والدته مرافقته إياها لبيع منزل جده في أراكاتاكا .. فتنهمر ذكريات ذلك المنزل الذي كان لجده الكولونيل أيام الحرب الأهلية ..و الذي تعج زواياه بالحكايات و المواقف .. إنه جده الذي أراه منظر الثلج لأول مرة كما في ( مائة عام من العزلة ) .. إنه المدخل الرائع الرائق الذي يحملك إلى عوالم أخرى . و يدغدغ فيك إنسانيتك ..و مشاعرك .. و ذكرياتك .. و ذات رؤيا المنزل القديم لجده ذكرتني ببيتي الشاعر القديم الأحوص الأنصاري :

يا بيت عاتكة الذي أتعزل حذر العدى و به الفؤاد موكل
أصبحت أمنحك الصدود و إنني قسما إليك مع الصدود لأميل

وهنا أضم صوتي لصوت الأستاذ غسان الحلبي في مقاله الجميل " القصة كلها أمامك فقط خذها .. " في أن ظهور هذه المذكرات .. كان حدثا أدبيا كبيرا في عواصم العالم الغربي على وجه الخصوص .. حيث أقيمت الندوات و المحاضرات و الملتقيات .. و قامت كبريات الصحف الأدبية المتخصصة بتحقيقات ، حيث أرسلت مراسليها إلى مدن ماركيز الأولى أين التقوا بأصدقائه السياسيين و غيرهم .. مثل الرئيس الكوبي فيدال كاسترو .. و أقرانه الأدباء مثل ميلان كونديرا .. و بجيرانه و أهله و أقربائه بغية الولوج إلى عوالمه من مداخلها .. في الوقت الذي مازلنا ننتظر ما قد تجود به قرائح مبدعينا ، مثقفينا ، و هيئاتنا الثقافية الرسمية و غير الرسمية من احتفاءات بمثل هذه المحطات التاريخية الهامة في عالم الأدب خصوصا ..
و ختاما أعود إلى مقالتي التي تحدثت عنها في مبتدإ هذه الكلمات .. لأقول بأنه في اللحظة التي هرعت فيها للقلم للكتابة عن ماركيز رغبة في بقائه حيا .. فعلا لا شعوريا راسخا فينا منذ الحكايات الأولى في تاريخ الإنسانية ..هرع ماركيز للقلم أيضا ليقاوم الموت ..و ليحكي ليعيش .. و يعيش ليحكي ..








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السياسة الفرنسية تدخل على خط الاحتجاجات الطلابية


.. روسيا تزيد تسليح قواتها ردا على الدعم الغربي لكييف | #غرفة_ا




.. طهران.. مفاوضات سرية لشراء 300 طن من اليورانيوم | #غرفة_الأخ


.. الرياض تسعى للفصل بين التطبيع والاتفاق مع واشنطن | #غرفة_الأ




.. قراءة عسكرية.. صور خاصة للجزيرة تظهر رصد حزب الله مواقع الجي