الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


جميلة غسان

وليد مبيض

2004 / 8 / 26
الادب والفن


ـ1ـ
لا يعرف أحد من أي الأماكن جاء، لكنهم يعرفون أنه جاءهم منذ سنوات بعيدة، ربما من خمسين قرناً.!
كان حينها شاباً مقبلاً على الحياة، بشوشاً ينضح بالحيوية، شاركهم أحزانهم وأفراحهم، ساعدهم في بناء بيوتهم، عاونهم في الحراثة والحصاد، أثناء مواسم زراعة الأرض، وتزوج امرأة جميلة من فتياتهم.
كان غسان يغادرهم لزيارة أهله أحياناً، لكنه كان يعود في كل مرة بعد بضعة أشهر من الغياب، مشتاقاً لـ "جميلة"، ولأهلها، محملاً بالهدايا، فرحاً بشوشاً.
ـ2ـ
سمع غسان أثناء إحدى زياراته لديار أهله، بأن مصيبة وقعت في ضيعة "جميلة"، لم يصدق الأمر، حتى جاء إلى حدود أراضي القرية، فلم ير بيوتها ولا ناسها، كانت الأرض خراباً، والبيوت مهجورة، هام على وجهه في كل القرى والمدن، وهو يسأل عن المصير:
ـ جاءتنا جائحة، أشد من الطوفان، وأقسى من الطاعون، فأخذت الكثيرين من أهل القرية، أما الذين نجوا، فقد هربوا إلى مناطق أكثر أمناً.
ـ جميلة، أين جميلة؟
ـ أخذتها الجائحة.
صرخ بآهة رددتها الوديان والجبال، واختفى لسنوات طويلة، حتى كاد أن يُنسى.
ـ3ـ
حين عاد مجدداً، ظهر في المنطقة التي لجأ إليه ما بقي من أهل قرية جميلة، لم يعرفوه بداية، فقد رأوا رجلاً كهلاً، توحي تجاعيد وجهه بأكبر من عمره، وكأنه بلغ أرذل العمر، ومن يوم عودته إليهم منذ بضعة أشهر لم ينطق بكلمة، قدموا له بعض الشباب والصبايا:
ـ هؤلاء أولاد جميلة، إنهم أولادك.
نظر إليهم قليلاً، ثم أشاح بوجهه، حين عاد ليتفحصهم ثانية، وجدهم قد أداروا ظهورهم له، ثم بدؤوا يغادرون المكان، وتراءى له سماع بعض التعليقات الجارحة:
ـ هل يمكن أن يكون هذا الأبله أبانا؟
ـ أين كان كل تلك السنوات؟
ـ لم نر منه سوى التلفظ بكلمات، والتأوه على والدتنا، وماذا عنا نحن؟
ـ بل قولوا ما الذي عمله من أجلنا؟
صرخ بصوت أجش... لكنه أعلى، وأكثر إبهاماً... من كل المرات السابقة:
ـ جميلة، أبنائي، أبناء جميلة...!
كانت هذه الطريقة الوحيدة، التي مارسها منذ ألف عام، في محاولة استعادتهم...!
ـ4ـ
عاد للسير، بطريقته "الفصعاء" في الممرات الضيقة، مرتدياً "جلابية" لا يمكن معرفة لونها، من الأوساخ ومن الرقع، كأن عمرها أكبر حتى من عمر غيبته، مباعداً بين ساقيه وكأنه يحاول تجنب المجاري المكشوفة، لكن الكثير ممن راقبه، قال أن طريقته في المشي لم تتغير حتى حين كان الطريق جافاً.
اشتهر في هذه الأيام بفمه المفتوح دوماً، والذي يطلق منه آهات محرقة، ويقال بأن البعض سمع منه الصرخات أيضاً.
البعض اعتبره مجنوناً، وآخرين اعتبروه مبروكاً، لكن حقيقة أمره ظلت غائبة عن الجميع.
لم يعد يعمل عملاً مفيداَ، ولا أحد يدري كيف يعتاش، قال البعض:
ـ إنه مستمر بالحياة بقدرة قادر، وأن الملائكة تساعده على البقاء.
وقال آخرون:
ـ ربما كان السبب في كسله وكآبته، التعاسة التي تهيمن على الجميع، لما يعانونه من ضيق.
ـ5ـ
بدت قرية "آل جميلة" أكثر سوءاً من القديمة، رغم ما قدمته السنون، من جديد في كافة أرجاء المعمورة، حتى أن الشيوخ يرفضون المقارنة بين الاثنتين، فقد اختلفت سبل معيشتهم، من حياة فلاحة وحدت بينهم وبين الطبيعة، إلى العمل كأجيرين عند من تسببوا، ولا يزالون، بكل آلامهم، نتيجة جائحة الطوفان، التي افتعلوها.!
وأصبحوا يفتقدون متعة الحياة الحرة تحت أشعة الشمس الحارقة، أو في ليالي البرد القارصة.
في هذا اليوم الخريفي، ظل سائراً، وفمه مفتوح، حتى وصل إلى مكان انفرجت الطرقات فيه إلى شوارع أوسع، لم يكد يصل إلى حدود القرية المسيجة، حتى دوى انفجار كبير جعله يترنح ثم يستند إلى الحائط، شاهد الناس أطفالاً وشباباً وشيوخاً يتراكضون جهة الصوت، اكتفى بعد أن استقام جسده، بأن نقل نظره بين الغادين والرائحين.!
كان يستدير برأسه مع كل حركة، دون أن يظهر أي انفعال، وهو مفتوح الفم.!
عادت فتيات من المكان، يختلط حديثهن بشهيق بكائهن:
ـ هل شاهدت ذلك الطفل؟
لم أصدق عيني، رأسه بعيد عن جسده.
ـ أنا لم أحاول النظر في المكان الذي وجد فيه، فلو رأيت ما تصفين لمتُّ إلى جانبه.
ـ وتلك المرأة أعتقد أنها أم الطفل، لم أر في حياتي لون كلون بشرتها، رمادي يا بنات، والله رمادي.!
عاد للسير دون بوصلة، قادته قدماه إلى موقع الانفجار، ظهر له أن ما تهدم كان بيتاً، تذكره، فكم مر من جانبه، وجلس في فيئة جدرانه، رغم أنه لم يكن له من هيئة البيت سوى جدران وسقف من التوتياء.


ـ6ـ
اعتلى الأنقاض وجلس فاتحاً فمه، وفجأة انبثقت من تحت الركام فتاة في ربيع العمر، لم يكحل أحد في الدنيا عينه، برؤية امرأة أجمل منها، تقدمت منه، لم يتكلما، مد يده ليلمسها، فتفاجأ باختفاء كل عضو يلمسه، وصل إلى رأسها، توقف لحظات عن اللمس، فقد كانت عظام الجمجمة شفافة، حتى أنه رأى تلافيف دماغها، أعجبه المنظر، فتأمله أكثر، وحين لمسه، اختفى أيضاً..!
ـ7ـ
قرر أن يعود أدراجه، رآه بعض الفتيان:
الأول ـ "وين مروّح" يا غسان؟
الثاني ـ اتركوه بحاله، "شقفة" مجنون.
الأول ـ لا تقول "هيك" عنه، "هادا" مبروك.
الثاني ـ "إجا" الحصان، غسان، "يللا" اركبه.
استجاب مباشرة للطلب، وبدأ بالعدو خبباً كالحصان، ماداً يديه أمامه، وكأنه يمسك اللجام بإحداها، ورافعاً خشبة بالثانية..!
الثاني ـ شوفوا سيارة جيب، "يللا" شباب عليهم.
توجهوا إلى ركام البيت وأخذوا من حجارته يقذفون بها السيارة، عادت الفتيات أدراجها، وساهمت بتكسير الحجارة وإيصالها للشباب، بينما ظل غسان يركض، دائراً في نفس المكان، مصدراً أصواتاً كصهيل الحصان:
ـ ابتعد يا غسان، أو شارك، فهم لا يفرقون بين عاقل ومجنون، ويصيبون أي هدف متحرك.
لم يسمع، أو لعله لم يفهم، واستمر بحركته الجنونية، لم يكن يأبه للمصابين الذين يحملونهم إلى داخل القرية، حين يمرون به، يجيل النظر في المصاب، دون التوقف عن العدو وهو مفتوح الفم.
فيما بعد قال البعض أنهم رأوه يذرف دمعة على كل مصاب.!
وفجأة سمعوا صرخة، ثم اكتشفوا أن غسان قد استشهد.
كانت يداه منقبضتين، وجدوا في الأولى حجر لم يسعفه الوقت لرميه، وبالأخرى قبضة من التراب.
كان التراب يثير رائحة زكية، لم يعهدوها من قبل، ولم يعرفوا، أنه يضم بقايا "جميلة غسان"..!








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كواليس العمل مع -يحيى الفخراني- لأول مرة.. الفنانة جمانة مرا


.. -لقطة من فيلمه-.. مهرجان كان السينمائي يكرم المخرج أكيرا كور




.. كواليس عملها مع يحيى الفخراني.. -صباح العربية- يلتقي بالفنان


.. -بين المسرح والسياسة- عنوان الحلقة الجديدة من #عشرين_30... ل




.. الرباط تستضيف مهرجان موسيقى الجاز بمشاركة فنانين عالميين