الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في بغديدا الخطيئة الاولى ...بين الامكانيات المحدودة ..وعدم تحطيم

صباح هرمز الشاني

2010 / 8 / 10
الادب والفن



على الرغم من أن نص مسرحية (الشبيه = الحارس) المنشور في جريدة العراق نهاية عام 1987، ومجلة ثةيظين العدد -7- هذا العام، لمؤلفه القاص والمسرحي المعروف محي الدين زنطنة ، من النصوص المسرحية القصيرة أو الفودفيلات، كما كان يسمي تشيكوف هذا النمط، الاّ أن المتلقي ما أن ينتهي من تلاوته حتى تقفز الى ذهنه مجموعة من الأسئلة التي يصعب الأجابة عليها، ذلك للغموض الذي يلف دوافع أفعال الشخصيات الثلاث من جهة، والتعويل على ما وراء الكلمة لأعطاء المعنى من جهة ثانية، وإتباع منحى ترك محطات قصيرة للثيمة الجوهرية من جهة ثالثة، مانحاً هذه العناصر مقومات نجاح العرض، لما تتمتع بمزايا بناء العناصر الدرامية المعروفة، كالتوتر والتشويق والتأخير التي تشد انتباه المتلقي وتثير احاسيسه ومشاعره الى الحدث من البداية الى النهاية، بأعتبارها جزءاً من سر العمارة الدرامية، وتقنية فريدة في اسلوب كتابة النص المسرحي والثيمة المطروحة في الظاهر أي على سطح الأحداث شيء، وفي الخفاء، أي تحت سطح الاحداث، شيء آخر.
قد يبدو ظاهراً، أن الثيمة الجوهرية للنص هي عدم رغبة محمود لأَنْ يعمل مساعداً لدى مسعود، بذريعة خشيته من النزول الى حفر القبور، بينما في الحقيقة ان هذه الثيمة ثانوية، وان الاساسية أي المخفية وغير المعلنة، تتمثل في خلق أجواء ومناخات مشبعة بالسوداوية والقتامة، لأيجاد مسوغات تفضي الى موت الحارس ومسعود، وذلك عبر توظيف مجموعة من العناصر الدالة والموحية الى هذا المعنى، وتأتي في مقدمتها أختيار المكان، وهو المقبرة، وهو بحد ذاته أفضل أختيار للدلالة على الموت، ومن ثم المؤثرات الصوتية لهبوب الرياح والعواصف المثيرة للأتربة الموحية الى الكابة، بالأضافة الى اقتران كل شخصية من الشخصيات الثلاث بسمة تشير الى نفس المعنى، أو قريبا منه، كحدة طبع مسعود وسعاله الشديد وغير المنقطع، وعزلة الحارس عن العالم الخارجي، وإصابة محمود بمرض ما في رأسه.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا بألحاح:
-ترى لماذا يقود المؤلف شخصياته الثلاث الى الموت، بما فيهم محمود. أضيف محمود الى الشخصيتين الأخريين، الحارس ومسعود، ذلك بالرغم من أنه لم يمت في النص، فهو يعتبر ميتاً، لسبب بسيط وواضح جداً، وهو تقمصه لشخصية مسعود. وها هو: (ينزع ملابس مسعود ويرتديها. يسعل كما كان مسعود يفعل. يشرب ماء. يغسل وجهه يدخن سيجارة من علبة مسعود. ينهض مقوس الظهر. يحفر بهمة ونشاط. لا يكف عن السعال. بنبرات تشبه نبرات صوت مسعود يقول: الحظ لا يطرق الباب دائماً.
ومرد سوق شخصياته الى الموت، هو انطلاقا من تحول العراق في عهد صدام، سيما أبان الحرب العراقية-الايرانية، الى المقبرة، والشعب الى موتى. فحتى الحي فهو ميت، شأن محمود.
ان المؤلف لا يكشف عن أدواته الفنية، بشكل مباشر، وانما يقدمها وفق معايير فنية سليمة، ذلك أنه يثير موضوعا قابلاً للتأويل، وتتعدد فيه الأصوات، وينضوي تحت لواء النص المفتوح، هذا النص الذي يتناول هموم ومعاناة الشعب العراقي في ثمانينات القرن الماضي، ولتحقيق هذا الهدف وتطابق بنية النص مع خطابه، فأنه لا يسير في موضوعه قدما الى الامام، كما هو متبع في النصوص التقليدية، وانما يتركه في محطات ويرجع اليه بين فينة واخرى، وكلما رجع اليه ازدادت قوة معوله في حفر اكثر، وتبعا لذلك اتخذ من هذه المحطات مثلها مثل المفردات الموظفةفي أختيار المكان والمؤثرات الصوتية والسمات الممنوحة للشخصيات دلالات ورموز موحية للموت. ويحوم شبح الموت في النص من بدايته، عبر الجملتين اللتين يطلقها الحارس.
الجملة الاولى: (سبحان ان الذي لا يحمد على مكروه سواه ) ص 239)
الجملة الثانية: (ليتني أملك بضعة أشبار منها تأوي جسدي، اذ يسترد الله أمانته..ولا أظل ملقى في العراء..تفترسني الكلاب السائبة) ص239.
ويرد عليه (مسعود) بعد ان يرنو اليه: أنا أمنحك إياها.
وفي الحوار الدائر بين الاثنين وعقب صفحة واحدة على حوارهما السابق، يسأله مسعود: (ولكن قل لي هل تخشى القبور؟)
والملاحظ ان مسعود تنتابه نوبات من السعال اثناء محاوراته للحارس فيما يخص الموت والقضايا التي تكسب ذات المغزى مما يدل على انه هو الأخر، وهي التفانة ذكية من المؤلف، في طريقه الى الموت شأنه شأن الحارس.
وفي بداية الصفحة (242) تتضح صورة الموت اكثر، حيث يتأمل مسعود الحارس من الخلف ويشير الى طوله دونما يدعه يشعر، يعود مسرعا، يضع علامات على موضع جديد..يباشر الحفر: الحظ لا يطرق الباب دائما، ولكن حين يخطأ ويطرق، يجب ان يكون ثمة من يفتح له بسرعة ويرحب به، قبلما ينتبه ويصحح خطأه).
ان هذه الجملة، حتى ان لم يأتِ المؤلف على ذكرها، فمعنى اشارة مسعود الى طول الحارس، كافية الى المقصود منه، وهو حفر القبر بطوله.
وفي الصفحة (243) يتطلع محمود حواليه بحثاً عن ميت يدفنه: (د..د دفن الموتى. آ آ آ ، اين هم؟ (ثم) كما تشاء ، كما تشاء).
ان جملة (يتطلع حواليه) هي الاخرى اشارة الى البحث عن الحارس لدفنه، لعدم وجود شخص آخر في المقبرة غيره.
وفي الصفحة (245)، وانه كان الحوار يدور حول هادي، وهو صاحب مقبرة اخرى، الاّ ان المقصود منه هو الحارس، ذلك ان لا فرق بينهما من وجهة نظر مسعود، اذ كلاهما كلبين جشعين)
مسعود: بل هو ذلك الكلب الفاطس، لابد أن أدفنه بيدي، ذلك قبره لن اردمه الاّ بجثته الملعونة..وعن قريب..قريب جداً، بأذن الله..أنظر (يذهب) الى احد القبور، ينزع عنه غطاءه، تغلبه نوبة السعال..)
هـ.. هنا أدفنه..ان شاء الله (يسعل بحدة).
وبامتداد وتعميم الرموز والدلالات الموحية الى الشخصيات ، يكون زنكنة قد اكمل لعبته ،وكشف عن لغته المسرحية الرامية الى تطابق بنيته مع خطابه ، بالاشتغال على النص من خلال السيمائية (العلامات المسرحية). والبنية هي الدلالات والرموز الموظفة في العناصر الثلاثة للنص وهي :
المقبرة ، ومحطات الثيمة والشخصيات ، والخطاب هو الموت ، وذلك عن طريق استخدام اسلوب الغموض الذي يلف افعال هذه الشخصيات، فمحمود لا يرغب بالعمل في المقبرة ولكنه رغم ذلك ، فقد جاء اليها ولو متاخرا . اذن ما هو دافع وجوده فيها ؟
هل جاء ليخبر مسعودا بأنه يخشى النزول الى حفر القبور ، لذالك قرر البحث عن عمل اخر؟
هذا مايبدو عليه في الظاهر و لكن في الباطن ثمة دافع اخر جاء من اجله الى المقبرة وهذا الدافع يتضح اكثر بعد ان يتلقى العطف والحنان من مسعود مع انه كان موجودا في الاصل الا انه لم يكن بهذا الوضوح ، ووجد محمود في جلب الرزق الى مسعود ، بسبب شحة الموتى ، افضل وسيلة لتنفيذ هذا الدافع ، اي للغرض الذي جاء من اجله وهو قتل الحارس .
الحارس :لو .. ترسل لي الولد محمود .. حين ياتي
مسعود: لن ياتي (يسعل)ثم انه ليس ولدا ،محمود رجل (تاخذه نوبة سعاد )
الحارس :ما كنت اقصد..ان..
مسعود:انه في العشرين من عمره ، ولولا ما اصابه لكان الان مهندسا له شأن .
(ربما قد تكون هذه الجملة اشارة الى اصابته في الحرب العراقية الايرانية )
الحارس : صحيح اعانه الله وأعان والديه .. لقد هجمت عليهم الكوارث دفعة واحدة بلا رحمة ولاسيما هو المسكين (يشير الى راسه) .
مسعود : (بحدة) محمود ليس مجنونا (الحارس يسكت)ماذا تريد منه ؟
الحارس: (مترددا)لاشيء..لاشيء
مسعود:كنت اود ان يشتري لي علبة سجائر.
مسعود :محمود ليس خادما .
كما هو واضح في هذا الحوار ارتياب مسعود بسلوك الحارس تجاه محمود ، سعيا لاستغلاله جنسيا ،ولكن يترجم محمود هذا الشك الى اليقين عندما يسال مسعود عن سبب مجيئه الى المقبرة بعد منتصف النهار ، بتطلعه حواليه ، وقوله :دفن الموتى ..دفن الموتى ..ين..هم..(كما لو كان يبحث عن الحارس لقتله).
ويلف الغموض افعال شخصية مسعود ايضا ، وذلك من خلال العطف على محمود من جهة ، وطرده من المقبرة من جهة اخرى ، ونفي مجيئه وارساله الى الحارس ، شان افعال شخصية الحارس الذي يبلغ مسعودا في بداية النص بانه ، سيتدبر حاله في شراء السيجائر فاذا به يعود في النهاية ، طالبا من محمودتلبية دعوته هذه ، وبالربط بين عدم مجيئ محمود على حد قول مسعود، و مجيئه ، و بين عدم مبالاة الحارس بشراء محمود علبة السجائر له ، ومبالاته ، يلف الفعل الدرامي ويدور وسط هذه التناقضات ، لاماتة الشخصيات الثلاث ، ذلك ان الهدف من الفعل الاول هو ، صرف الحارس عن التفكير بمحمود ولكن رغم ذلك ، فان مسعودا هو الذي يبعث بمحمود الى الحارس، حيث يقوم بقتله ، والفعل الثاني المتمثل بمجئ الحارس في النهاية ، بالضد من تصريحه الاول ، كان دافعا لموته وموت مسعود اي ان دوافع افعالهما الغامضة هي التي التهما الى المصير المشترك وكان محمود ضحيتها.
ان الحوار الدرامي ليس محصورا في الكلمة التي تقال ، ومالايقال هو باهمية ما يقال نفسه ، بل كثيرا ما يكون اكثر اهمية ، وهذا ما حصل في موت محمود الذي لم يفهه المؤلف .
ملاحظة :
لم يذكر المؤلف الفترة التي تدور فيها احداث النص ، سيما فترة الحرب العراقية الايرانية التي دامت ثماني سنوات ، وتاويل الحدث الى هذه الفترة هو من قبل كاتب هذا المقال .

ص هـ
13/6/2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم السرب للسقا يقترب من حصد 28 مليون جنيه بعد أسبوعين عرض


.. الفنانة مشيرة إسماعيل: شكرا للشركة المتحدة على الحفاوة بعادل




.. كل يوم - رمز للثقافة المصرية ومؤثر في كل بيت عربي.. خالد أبو


.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : مفيش نجم في تاريخ مصر حقق هذا




.. كل يوم - الفنانة إلهام شاهين : أول مشهد في حياتي الفنية كان