الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما يضيء القنديل

محمد نوري قادر

2010 / 8 / 12
الادب والفن


في غرفة على سطح منزله , هو مرسمه الصغير وعالمه حيث ينتمي, يقضي مع الالوان كل أوقاته فيها , لوحاته انتشرت هنا وهناك وفي كل ركن من جدرانها بعناية فائقة ,جميعها تعلن ما يجول في رأسه من أفكار ورؤى, أو ما يراه على مقربة منه تفاعل معه بمرور الزمن في صراع طويل مع ذاته المحترقة حبا لعالم أصطدم به فتوهج نورا بعث الدفء في نفس ضامئة أيقضتها الالوان كأنها في سبات عميق , ولم تكن هي كذلك , كينبوع تدفق ماؤه فجأة بغزارة يبحث عن ساقية يصب فيها ماؤه ليسقي بها ظمأ حقول امتد سنين طويلة , لاشيء يعيقه بعد الآن ,فقد تحرر ,كما هو الينبوع من الصخور الجاثمة على صدره ,من افكار بالية عصف بها الزمن لا تعني شيئا الان سوى ان تكون كما هو الحمار الذي يجر العربة .. ما أجمل تلك اللحظة , وكم تمنى ان يراها قبل أن يفوت الآوان, فقد كان يعرف منذ البداية انه قد ولِد كي يكون كما هو , كما يحب ان يكون , كما يحب ان يرى ما تعشقه العيون , لن يطيق من يريد ان يطعمه ما لا يستساغ طعمه وإن كان حلو المذاق .
لقد حطم كل القيود التي وضعت عنوة في معصميه وأنتصب واقفا بشموخ كالنخلة,مزهوا بنفسه كالطاووس , لم يعد بحاجة من يعلـّمه ما لا يطيقه , ما لا يريد ان يتعلمه , فقد عرف ما يجب معرفته , ما يجب ان يسموا به , فلا يوجد اسمى من من الطيور في فضاء واسع ٍ رحب بألوانها الزاهية . لم يكن بحاجة لتلك المقاييس الطارئة التي وضعت يوما كي يقاس بها من توضع له بصفاتها المتعددة حتى وإن وضعت في أطار لوحة أكتملت معالمها وأكتسبت صفاتها , فلا جدوى من بقائها ان لم تكن تعني شيئا ,
وهج النور كامن في النفس , موجود فيها , في جوفها منذ الازل يتبلور مع اللون, مع ما يحيط حوله وفي كل اتجاه , يتلئلىء كحبات لؤلؤ مشرقة اذا ما تساقط عليها الضوء المنبعث من السنابل المتوهجة حبا وبهجة .
كان يعيش في عزلة مع نفسه أحيانا , يحدثني ,حين أزوره في أوقات متفاوتة كثيرا , عن عالمه الخاص وشجونه وأحساسه المرهف تجاه الاشياء التي تحيط حوله حتى أصبح يبدو لمن لا يعرفه انه كالمجنون , لكنه يجد متعة في الحديث عما يدور في خلده والبوح به ,كأنه عبء يريد التخلص منه ,يرميه بعيدا الى غير رجعة.. كان كثيرا ما يردد جملته الشهيرة حين نلتقي بصوت كأنه نغم ينساب من شفتيه وبرّقة متناهية , مبتسما كعادته : عش كما انت , كما يحلو لك , لاتدع احدا يمسك معصميك , ليس لأحد حق عليك , ولن يوجد من له حق عليك
هل حقا أقول ؟
ربما
لقد اسعدته حقا صحوته كثيرا , وإن جاءت متأخرة جدا , فقد جعلته يخلع عن جسده تلك الثياب التي طالما ارتداها بزهو ٍ وعناية فائقة , لانه يريد ان يكون كما هو وكما يريد أن يعرفه الجميع فما زال للعمر بقية , وما زال بمقدوره أن يترك تلك الحماقات جانبا التي اتعبته كثيرا , والتي لم يكن لوجودها ما يبرره , سوى ذلك ألانطباع الجميل الذي يعشقه الانسان في كل زمان ومكان والاثر الذي تخلفه ورائها , فهي من صنع أيدينا كما يقول وأفكارنا التي لم ترقى الى ما هو مطلوبا منها , فلم نجني منها شيئا سوى السباحة في تلك المياه الضحلة , ملطخين اجسادنا بقذاراتها , ولن تروي أبدا من أصابه الظمأ إلا لحظات معدودات ليبدأ ضمأ آخر يتجدد . وذلك الصراع الصاخب من أجل ان يكون له موطىء قدم في صحراء قاحلة تكسوها رمال متحركة بأستمرار , وحارقة اذا سُلطت علها الشمس , تملئها ذئاب تعشق الدم البشري ,وأفاعي متعددة ألالوان وألاشكال , تعيش فيها , يمتلكه هاجس الخوف أن تفترسه تلك الذئاب , أو يموت بلا لحظة وداع في زنزانة ضيقة او كهف معتم او مسجى عاريا على رابية فوق الرمال .
في تلك اللحظة توالت على ذهنه أفكار وتساؤلات عديدة وهو يمسك فرشاته في مرسمه الصغير , ينظر في لوحة أوشكت على نهايتها , يضع لمساته ألاخيرة عليها , وهي حقل ازهرت سنابله حلـّقت في سمائه غمامة من الطيور. تراجع بعد حين الى الوراء قليلا وترك فرشاته في علبة صغيرة على منضدة قريبة منه وهو يتأمل لوحته , يتحدت مع الطيور المحلقة فيها :
كلوا منها ما شئتم , انتم جزء منها حتى لو لم يرضى صاحب الحقل . وصار يضحك بأعلى صوته حتى سقط على الارض من فرط الجهد .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع إينما كنت وقلت
حسنين قيراط ( 2010 / 8 / 12 - 13:40 )
أخي وصديقي / محمد نوري قادر
قبل كلامي بابعت حبي
بابعت كل سلامي وودي
صديقي/محمد
حقا لقد أجهدتني ، وأنا الهث خلف أفكارك وما ترمي إليه من معاني ودلالات
وللعلم فانني كثيرا ما أصاب بفترات من الزهايمر ، فرجائي أن ترفق بنا وتعذرنا في عدم قدرتنا علي المداومة في السباحة في محيط افكارك فإنها أعمق مما نتخيل ، بالإضافة إلي بوادر الشيخوخة التي تهاجمنا من حين لآخر
ولكن الحق يقال فأنت رائع إينما كنت وكيفما كنت وقلت
لك إحترامي وودي


2 - رائع بحضورك
محمد نوري قادر ( 2010 / 8 / 12 - 15:14 )
لأخي حسنين قيراط
كل الود والتقدير
مليئة حد الدهشة تلك المفردات التي نعيشها كل يوم
انه احد اصدقائي الذين سقطوا صرعى برصاصة طائشة وهو يحمل رسالة الماجستر في الفنون التشكيلية
كانت قبل ايام ذكرى وفاته
يسعدني جدا جدا حضورك ....كلماتك الجميلة لها اثر في نفسي
كنت افتقدتك اياما...اتمنى ان ارى جديدك


3 - الوفاء الجميل
علي فهد ( 2010 / 8 / 12 - 18:42 )
جميل كان جمال كامل المبدع والانسان وجميل انت بوفائك ياابو رسل

اخر الافلام

.. مهرجان كان السينمائي - عن الفيلم -ألماس خام- للمخرجة الفرنسي


.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية




.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي


.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب




.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?