الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة الثقافية في تركمانستان: بين أزمة الهوية وبقايا القمع المنظم (1 3)

عماد الدين رائف

2010 / 8 / 12
الادب والفن


هل من ثقافة في تركمانستان؟ بطبيعة الحال الجواب هو نعم، لكن هذه الـ "نعم" لا يمكن قديمها بشكل لا لبس فيه. لا يمكننا أن نقول إن الدولة لا تهتم بتطوير الثقافة، بل على العكس من ذلك، فمع قدوم الرئيس بيردي محمدوف إلى السلطة في شباط 2007، بعد فوزه بأغلبية كبيرة في الانتخابات الرئاسية، بدأ ما أسماه بـ "النهضة الجديدة". ونلحظ أن عملية الانتعاش تبدو، بشكل عام، مقنعة للغاية. ويجري عمل الكثير لإنشاء بنية تحتية للثقافة الوطنية في البلاد. فشيدت مبان حديثة للمسارح العامة في المحافظات التركمانستانية الخمس. وحالياً، تعمل الحكومة على بناء المتاحف التاريخية - الإقليمي في بلكان اباد، تركمان اباد وداشوغوز. وفي مدينة ماري حددت السلطات المقر الجديد للمتحف. ويجري العمل على تقوية القاعدة المادية والتقنية للمكتبات الوطنية. ووفقا لتقارير إعلامية، فقد زاد عددها من 89 إلى 230، ولا يعتبر هذا الرقم حداً لها، فهي بازدياد مضطرد. وقد أمرت السلطات بتمويل هذه المكتبات في البلاد، من مكتبات المدارس والجامعات إلى مكتبات المدن الكبرى والوطنية. وكذلك تشاد "قصور الثقافة والفن"، في جميع أنحاء البلاد، ومدارس فنية للأطفال.
في شباط الماضي انتهت عملية إعادة إعمار السينما القديمة "وطن"، وافتتح مكانها صرح موسيقي حمل الاسم نفسه. وفي موقع "مسرح المشاهد الشاب" السابق، يشاد مبنى صالة السينما الأكبر في عهد الاستقلال. وافتتح المبنى الجديد المنتظر لـ "السيرك الوطني" في نيسان الماضي.
وبذلك يبدو أن القاعدة المادية التقنية المطلوبة كشرط أساسي لتنمية الثقافة باتت جاهزة. لكن البُنى التحتية وحدها لا يمكنها أن ترفع مستوى المحتوى الثقافي في البلاد، كون الثقافة الفنية الحقيقية، من موسيقى، مسرح، سينما، فنون زخرفية، أدب، نشر الكتب، بل وحتى الصحافة، ما تزال منذ ما يقرب من عشرين عاماً تقبع في صندوق مقفل. لم يحدث ذلك؟ لنعرف الجواب الواقعي على هذا التساؤل ومصداقيته، ربما علينا أن ندرس واقع كل فن من هذه الفنون على حدة.

"فنٌ بلا وجه"

سعى الرئيس التركماني الأول بعد الاستقلال، صابر مراد نيازوف، المعروف بلقب "تركمان باشي" أي "أبو التركمان"، بكل ما أوتي من قوة إلى محو أفضل الإنجازات الثقافية للحقبة السوفياتية من ذاكرة السكان، وخاصة تلك المتعلقة بالفنون. لكن تلك الإنجازات، أظهرت تمردها على عملية التدمير المنظمة تلك، وبدت عصية على النسيان. وكان نيازوف المعروف بحكمه المستبد، قد عين نفسه رئيساً مدى الحياة، وتوفي في 21 ديسمبر 2006. لكن محاولاته تلك أحدثت "فجوة ما" في تسلسل التطور الثقافي. وعلى سبيل المثال، فإن الموسيقى التركمانية الغنية بالتقاليد ارتكزت في تطورها على دراسات ميدانية غنية وضعها في عشرينات القرن الماضي باحثان بارزان هما ف. أوسبنسكي وف. بيلايف. وتوصلا إلى نتائج بحثية لا تقدر بثمن، وطبعت بحوثهما في مجلدين حملا عنوان "الموسيقى التركمانية"، ومما كتباه: "الموسيقى التركمانية فن يقف على مستوى عال من الكمال، بهذا تكمن قيمته الحقيقية. فن يمثل حقبة لم يتم تخزينه بشكله الحي، لا لدى الشعوب البدائية، ولا الأكثر تحضراً". وانطلاقاً من تلك الموسيقى الشعبية، ولد في الحقبة السوفياتية ما سمي بـ "الموسيقى الكلاسيكية الحديثة"، لتنتقل إلى الأوبرا، السيموفونيات، والأناشيد... وأبرز من أسهم في ذلك مؤلفون موسيقيون كفلي موخاتوف، دانغتار أوفيزوف، تشاري نوريموف وآخرون. هؤلاء أنشأوا "مسرح موخاتومكولي للأوبرا والباليه"، الذي أقفله الديكتاتور بشكل سمج عام 1999، معلناً أن فن الباليه غير مفهوم في تركمانستان! عاش هؤلاء الملحنون بين الناس، وبعد موت نوريموف وموخاتوف، كغيرهم من الملحنين المعروفين، دفنا في مدافن العاصمة كمواطنين عاديين. ومع ذلك لن يتمكن أحد أن يشطب أسماء أولئك الملحنين العظام من تاريخ البلاد. ويعتقد أهل تركمانستان أن الزمن سيفي كل شخص حقه. وجاء دليلاً على ذلك مثقفي خطاب بيردي محمدوف أمام مثقفي البلاد، الذي ألقاه مؤخراً، وأعاد فيه إحياء ذكر موخاتوف ونوريموف.
في المناسبة نفسها، قدم الرئيس للمغنية الرائعة مدينت شاهبيرديفا، الحائزة على لقب "فنان الشعب السوفياتي"، (رغم أن هذا اللقب لم يأت الرئيس على ذكره أثناء تقديمه لها)، وسام "ألتان أسير" من الدرجة الثالثة، رغم أن المزاج العام يرى بأنها تستحق أعلى درجات التكريم (أي وسام "بطل تركمانستان")، كون شاهبيرديفا، الفنانة الثمانينية، ما تزال تدرّس في "المعهد الوطني العالي للموسيقى"، وترعى دارسي الموسيقى الكلاسيكية الشباب. لكن كما يشاع، حتى بين لجنة توزيع الجوائز، أن عازفة الأوبرا المنفردة، والمنسق الحزبي السابق لـ "مسرح الأوبرا والباليه" مايا كولييفا، 90 عاماً، التي نالت الوسام الأعلى، يتم تحاشي مقارنتها بغيرها من حيث التكريم، نتيجة الرضى الرسمي عن أدائها. وبشهادة زملائها، "هي اليوم تؤدي مهامها المريبة السابقة ذاتها، كما كانت عندما رئست المنظمة الحزبية للمسرح!".
في اتجاه آخر، نرى انه عندما توفيت المطربة الكبيرة، الحائزة على لقب "فنانة الاتحاد السوفياتي"، آنا غول آناكولييفا، صيف 2009، تولت مايا كولييفا تلك مراسم الجنازة. سارعت في وقت مبكر من صباح يوم الدفن، يرافقها وزير الثقافة، إلى استلام الجثة للتوجه إلى دفنها في بلدتها غسانكولي في محافظة البلقان، ورأت كولييفا أن لا حاجة لتضمن المراسم إلقاء النظرة الأخيرة على المطربة المفضلة لدى الكثيرين! تلك "العجوز"، كما لا يتورع الموسيقيون عن تسمية كولييفا، استطاعت أن تسيطر على كل ما يتعلق بالأوبرا، وزارة الثقافة و"محطة ج. مرادوف للإذاعة والتلفزيون"، بدون أي تدخل يذكر من أحد، رغم أنها كما يبدو، ليست ضليعة بتلك الأمور.
أما مشاهير المغنين والمؤدين، الذين راكموا تجاربهم في الحقبة السوفياتية، في تركمانستان، فيحاولون قدر الإمكان عدم التعبير عن آرائهم. فعلى سبيل المثال، المطرب الشعبي التركمانستاني، والمايسترو الكبير غورت نزاروف، اضطر للعمل 14 عاماً في "مسرح ساراتوف" (مدينة في روسيا الاتحادية) بعد إغلاق المسرح القومي في عشق أباد، وهو يدرّس اليوم في الكونسرفتوار، ولا يدعى للمشاركة في الحفلات الموسيقية! وكاعتذار للمايسترو، اعترفت شاهبيردييفا بأنها منعت من السماح له بالظهور في حفلها اليوبيلي بناء على توجيهات وزارة الأمن الوطني!
وحرية عمل الموسيقيين التركمان، لا تختلف عن الحريات العامة للمواطنين، فهي محصورة فقط في الأحلام. وهكذا، طردت من الكونسرفتوار مغنية الأوبرا والمدرّسة غليارام بلتاييفا لمشاركتها في حفل موسيقي في سنغافورة، على هامش معرض رسومات الرسام الشعبي عزت كليتشيف، ويذكر أن ابنة هذا الفنان تعيش هناك.
ويبدو أن اتخاذ الموسيقى مهنة في تركمانستان ليس ممكناً، إن لم يكن لدى من يرغب بذلك واسطة قوية بالسلطة. فعلى سبيل المثال، تعمل إحدى فرق الأوركسترا بنجاح تحت إشراف روفشان نيبيسوف، وهو نجل مسؤول حكومي. أوركسترا أخرى، تعمل بإشراف المايسترو رسول كليتشيف، النجم الموسيقي الصاعد، الحاصل على ترخيص بفضل رئيس فرقة الكمان والمعشوق الشخصي لـ "أبي التركمان" هارولد نيمارك. وأي لحظة عدم ارتياح قد يحس بها "سيده" كانت لتحرمه بالضرورة من ذلك الترخيص العزيز.
فوضى تامة بين الفنانين اليوم، وتنال الشعبية عن طريق واحد وهو المعارف والواسطة. وحتى المسابقات السنوية الفنية الضخمة، التي تنظم وسط ضجة كبيرة لاختيار أجمل الأصوات، تبقى صورية، فيعرف الفائزون أن مشوارهم المهني ينتهي بانتهاء هذه المسابقات. فلا يجدون من يتابع تنمية قدراتهم المهنية، رغم أن الغاية الأساسية من هذه المسابقات تكمن في اكتشاف الفنانين الموهوبين ومتابعتهم. ويكسب هؤلاء الفنانون عيشهم من خلال الغناء في حفلات الأعراس والسهرات الخاصة. ويقومون بتسجيل ألبوماتهم، ويستأجرون الستديوهات لتسجيل الأغاني ويصورون الـ "فيديو كليب" على نفقتهم الخاصة، إن سمح لهم بعرضه على هيئة التلفزة. وإن عرض على شاشة التلفاز يحجب اسم الفنان، ولا تجرى أي مقابلة تلفزيونية معه. هو "فن بلا وجه" السمة الرئيسية لتركمانستان العصر الحديث.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فيلم شقو يضيف مليون جنيه لإيراداته ويصل 57 مليونًا


.. أدونيس: الابداع يوحد البشر والقدماء كانوا أكثر حداثة • فرانس




.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى