الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


لقطات من الذاكرة ، مغادرة الوطن ، الحلقة الأولى

فائز الحيدر

2010 / 8 / 15
سيرة ذاتية



بعد الهجوم الواسع الذي قامت به السلطة الكتاتورية وأجهزتها القمعية عام 78 / 1979 لتصفية الحزب الشيوعي العراقي والذي تجسد بتنفيذ حكم الاعدام بكوكبة من أعضاء الحزب وأصدقائه في سجن أبو غريب في ليلة 8-9 من أيار 1977 بتهمة النشاط السياسي في صفوف القوات المسلحة . توترت العلاقة بين حزب البعث والحزب الشيوعي العراقي ، وإنفرط أثر ذلك عقد الجبهة ، وإزدادت حملة المطاردة والأغتيالات والتصفيات الجسدية مما أضطر المئات من الشيوعيين وأصدقائهم اللجوء ألى أماكن آمنة حفاضا" على حياتهم ومعتقداتهم الفكرية والسياسية ، فمنهم من غادر الى كردستان وألتحق بفصائل الأنصار وآخرين سمحت لهم الظروف بالسفر الى خارج العراق والأستقرار في أحدى الدول ، وكان من بين محطاتهم الأولى تركيا ، بلغاريا ، لبنان ، جمهورية اليمن الديمقراطية ، أما أبناء المحافظات الجنوبية فقد إضطروا التوجه إلى الكويت عبر المهربين وسيراً على الاقدام .

جاء قراري لمغادرة الوطن سريعا" ، هيأت نفسي لرحلة لا أعرف نتائجها وكم ستطول ، ومتى أعود ؟ وهل سأعيش لأرى الأهل والأحبة من جديد ؟ ودعت الأقارب وبالأخص الكبار والمرضى منهم لأحساسي بأن رحلتي ستطول ولن أراهم ثانية ، البعض طالبني بعدم السفر وترك الوالد المريض وما سوف تعانيه زوجتي بعد سفري ، البعض الآخر نصحني بالأسراع بالخروج والبحث عن حياة جديدة ، وهناك من طلب مني التعايش مع النظام الدكتاتوري والوضع السياسي كحال الآخرين ممن باعوا أنفسهم للسلطة لقاء مغريات تافهة ، والمؤلم إن معظم الذين طالبوني بعدم المغادرة قد توفوا بالغربة بعد أن غادروا الوطن بعد أشهر قليلة من مغادرتي له بسبب بدأ الحرب العراقية الأيرانية وتدهور الأوضاع المعاشية .

في أسفل الحقيبة الصغيرة التي أخترها لتكون رفيقتي في الرحلة وضعت كل ما تيسر لي من وثائق شخصية ودراسية وخبرة عملية ، ووضعت فوقها بعض الملابس الصيفية الخفيفة ثم تلا ذلك ما جمعته من الأسواق من كتيبات لميشيل عفلق ، ومنيف الرزاز ، أحمد حسن البكر ، شبلي العيسمي ، خطابات السيد النائب ، وجريدة الثورة بأعداد مختلفة ، وضعتها متعمدا" فوق الملابس لتقع أمام أنظار رجال الأمن أثناء التفتيش وأنا على يقين بإنها ستفيدني وستسهل مسألة خروجي عبر الحدود .

غادرت بغداد برا" مع أثنين من الأصدقاء في منتصف مايس / آيار / 1979 متوجهين ألى أسطنبول / تركيا ، غادرت مرغما" وحزينا" مدينتي الحبيبة بغداد وكل ما أملكه عنها من ذكريات ، تاركا" فيها والدي المريض والأم المتعبة الحنون وأخوتي وأخواتي وزوجتي الحبيبة التي شاركتني حياتي بكل صعوباتها ، ودعتهم وداعا" حارا" على أمل اللقاء في فترة قربية وبعد إنجلاء المحنة ، ولم يأتي بخلدي إن غربتي هذه ستطول لأكثر من ثلاثة عقود فقدت خلالها الوالدين وأربعة من الأخوة .
في محطة الباصات في منطقة الصالحية في بغداد وعند الساعة الثانية عشرة ليلا" ودعني بالأحضان والدموع تملئ مقلتينا أخي الشهيد نافع عبد الرزاق الحيدر الذي رفض مغادرة الوطن معي رغم ألحاحي وكان فعلا" الوداع الأخير ، حيث أعتقل في بداية عام 1980 وأنقطعت أخباره منذ ذلك الحين وحتى عام 1984 حين تسلم الأهل وبعد متابعة طويلة مع الجهات الأمنية شهادة الوفاة الصادرة عن مستشفى الرشيد العسكري التي تبين أعدامه شنقا" .

كانت الرحلة الى تركيا في الباصات عبر مدينتي الموصل زاخو ، رحلة متعبة إستغرقت ساعات الليل كله ، الباص الذي يقلنا قديم ويفتقد الى التبريد ، الطريق تملئه الحفر والمطبات التي تجعل الجلوس المريح والنوم مستحيلا" ، الأراضي على الجانبين قاحلة وما بقي من الأعشاب والشجيرات الجافة تزيد من متاعب السفر الطويل . هموم وذكريات عديدة تشغل البال طيلة الليل ، تذكرت الأهل والزوجة ، محلتي الشعبية ، ومدرستي الأبتدائية ، تذكرت شارع الرشيد ومحلاته والقهوة في مقهى البرازيلة ، والمتنبي ومكتباته ، والسعدون ومقاهيه وسينماته وأبو نؤاس وكورنيشه وسمكه المسكوف ، ، أستمر خليط هذه الذكريات وهي تدور في مخيلتي حتى وصولنا إلى محافظة الموصل ، ومنها دون توقف واصلنا سيرنا في طريق جبلي متعرج ووعر نحو نقطة الحدود في إبراهيم الخليل في زاخو .

وصلنا مدينة زاخو بعد الساعة السابعة صباحا" بقليل ، ولحسن الحظ كنا أول كم وصل الحدود ، وهنا علمنا إن علينا الأنتظار حتى الثامنة صباحا" حيث يبدأ الدوام الرسمي لنقطة الحدود وليبدأ رجال الأمن بواجبهم بتفتيش حقائب المسافرين وختم الجوازات ، جلسنا في أحدى المقاهي الشعبية القريبة والمصنوعة من سيقان وأوراق الأشجار بجوار أحد عيون الماء الصافية ليتناول كل منا صحن من اللبن وقدح من الشاي ورغيف من الخبز العراقي الحار بإنتظار الفرج ومواصلة السفر .
قاربت الساعة الثامنة صباحا" ، توجه إلينا أحد رجال الأمن وطلب من السائق إنزال الحقائب من الباص وعلى كل راكب الوقوف بجانب حقيبته ، وقف الجميع وفق تلك التعليمات وكل مسافر وضع حقيبته أمامه بإنتظار التفتيش وكإننا في محطات تسفير الجنود لجبهات الحرب ، كنت أول من جاء دورهم للتفتيش ، لم أقلق كثيرا" لأني أدرك غباء هؤلاء ، ولي معهم تجارب عديدة في ذلك من خلال سفراتي المتعددة لخارج الوطن وفي ظروف أكثر صعوبة . لقد تدرب هؤلاء وتمرسوا على القتل والتعذيب وإرهاب المواطنين دون غيرها من المهمات الأمنية ، إقترب أحدهم وطلب مني بلغة الأمر فتح الحقيبة لكنه تفاجئ عند مشاهدته للكراسات الحزبية التي وضعتها متعمدا" فوق الملابس خصيصا" لهذه الساعة وكما كنت أتوقع ، تصفح إحدى أعداد جريد الثورة ويبدو إنها قد أثارت إهتمامه ، عندها سأل ...

ـ ما الغرض من كل هذه الكتب والجرائد ؟

ـ إنها لمنظمتنا الحزبية في أسطنبول !!

ـ هل ممكن أن آخذ أحدى هذه الصحف لأني لم أقرأها منذ أسبوع ؟

ـ يمكنك أن تأخذ العدد القديم مع الممنونية .

قدم لي الشكر بإبتسامة عريضة تدل على الأرتياح ولم يكلف نفسه بمواصلة التفتيش لرؤية ما في الحقيبة من وثائق يمنع إخراجها ، أقفل الحقيبة بسرعة وتمنى لي سفرة موفقة ، عندها توجهت الى ضابط الجوازات القريب والذي شاهد ما حصل وختم الجواز دون أن يتصفحه ودون أن يستلم مني الأمر الأداري المزور الذي يبين منحي أجازة لثلاثين يوما" خارج العراق ، عند ذلك أبتعدت عن المبنى حاملا" حقيبتي وأنا أنظر عن بعد لزملائي الأخرين الذين تعرضوا لتفتيش دقيق وأسئلة كثيرة ومضايقات عديدة عن سبب خروجهم من العراق في هذا الشهر من السنة .

في الطرف الثاني من الجسر الواقع على ( نهر الخابور ) تقع نقطة الحدود التركية ، وفيها تم ختم جوازاتنا بعد إجراءات شكلية بسيطة وسمح لنا بالمرور بدون تفتيش لحقائب المسافرين ، ومنها بدأنا برحلة طويلة ومتعبة أستمرت عدة ساعات بأرض جرداء شبه صحراوية تتخللها هضاب وجبال واطئة وطرق ملتوية حتى وصولنا الى ( ناحية نصيبين ) ومنها الى ( قضاء ماردين ) حيث كانت محطة إستراحتنا الأولى ، غالبية سكان ماردين يجيدون اللغة العربية وهم خليط من الكرد أو العرب وغالبيتهم من أصول سورية ، في المقهى التي وقفنا بجوارها لشرب الشاي توجه نحونا العديد من الشباب وهم يتحدثون معنا بالعربية وهم يسألون فيما إذا كان لدينا ( شاي سيلاني ) للبيع فهم في أزمة للحصول على الشاي الجيد ، أغاني سعدون جابر وفاضل عواد نسمعها في المقهى ، دفع أحد الحضور قيمة الشاي الذي شربناه وهو يؤدي التحية عن بعد ، مرت ساعة من الأستراحة قبل أن نواصل رحلتنا بطريق شبه جبلي وأرض جرداء خالية من الأشجار والنباتات بإتجاه محافظة ( ديار بكر ) ومنها بدون توقف بإتجاه العاصمة التركية أنقرة والتي إستمرت عدة ساعات أخرى .

وكلما إبتعدنا عن ديار بكر وواصلنا رحلتنا بإتجاه العاصمة أنقرة تأخذ الطبيعة بالتحسن التدريجي وأخذت تظهر الأراضي الخضراء المزروعة والأشجار الكثيفة والشوارع العريضة المنظمة والجبال الشاهقة الجميلة المغطى بعضها بالثلوج تتخللها هنا وهناك عيون الماء المنتشرة في ثنايا الجبال . شلالات عديدة مختلفة الأرتفاع نشاهدها عن بعد ، عشرات المطاعم والكازينوات الجميلة على جانبي الطريق . السفرة ممتعة حقا" قد أنستنا التعب والكثير من الهموم ولو بشكل مؤقت ولكنها لم تكن تخلوا من بعض الإزعاجات ، أولها سرقة كامرة غالية الثمن من الحقيبة اليدوية لأحد زملائي كان قد وضعها على الرف بجانب مقعده في داخل الباص وعند نزولنا لغرض الأستراحة في إحدى الكازينوات ولم نستطع العثور عليها رغم الجهود التي بذلناها ، وثاني تلك الأزعاجات هو التوقف المستمر عند العشرات من نقاط التفتيش العسكرية كلما إقتربنا من إسطنبول وعند مداخل المدن وخارجها نتيجة حالة الطوارئ والأحكام العرفية المعلنة بحثا" عن المطلوبين للسلطة من مقاتلي حزب العمال الكردستاني واليساريين الأتراك .

وصلنا محطة الباصات في أسطنبول عصر يوم 17 / 5 / 1979 ، ومنها توجهنا إلى شارع تقسيم في منطقة الأستقلال القريبة ، وهو من الشوارع الرئيسية في أسطنبول ، يتواجد في الشارع محلات اكسسوارات وملابس وكماليات مختلفه ومطاعم وفنادق مختلفة الدرجات وبالقرب من هناك توجد ساحه الإستقلال الكبيرة حيث تقام المهرجانات والإحتفالات والتظاهرات الكبرى ، توجهنا إلى أحد الفنادق المتواضعة في هذا الشارع وحسب إمكانياتنا المادية وإستأجرنا غرفة واحدة بشكل مؤقت حتى تتوضح لنا الأمور . بعد هذه السفرة الطويلة المتعبة أصابنا الجوع ، أخذ كل منا حمام ساخن وقررنا الخروج للقيام بجولة قصيرة في المنطقة للتعرف عليها ومن ثم التوجه لأحد مطاعم الكباب المنتشرة في المنطقة لتناول طعام العشاء .
كان أول عمل أقوم به بعد ذلك هو إخراج تلك الكتيبات من الحقيبة ورميها بسلة النفايات على الرصيف المواجه للفندق بعد أن أتعبتني طيلة الطريق ، شاهدني عن قرب أحد المواطنين وقال بالعربية مستغربا" ...

ـ ليش يا خيو ترمي الكتب العربية بالزبالة ؟ ليش ما تعطينياها نستفاد منها ؟

ـ لقد قرأتها ولست بحاجة لها الأن ، هل أنت عراقي ؟

ـ لا أنا تركي بس من أصول سورية ، من مدينة أنطاكيا !!!

ـ خذهم إذا تحب تقراهم .

مد يده لأخراجها من سلة النفايات وعندما قرأ عناوينها أعادها الى السلة ثانية وهو يتحدث بصوت واطئ ليسمعنا .

ـ لا .. لا .. لا أحب أن أقرأ لهؤلاء الزعران ... الأن فهمت ليش رميتوها بالزبالة ....ألله معاكم .


يتبع في الحلقة القادمة
كندا /2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الرئيس الروسي يؤدي اليمين الدستورية ويتعهد بوضع مصالح روسيا


.. مشاهد توثق لحظة إصابة صاروخ لمبنى بمستوطنة المطلة جنوب لبنان




.. 7 شهداء و14 مصابا في قصف إسرائيلي استهدف شقة سكنية في حي الز


.. الأردن يحذر من تداعيات اقتحام إسرائيل لمدينة رفح




.. أمريكا تفتح تحقيقا مع شركة بوينغ بعد اتهامها بالتزوير