الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الثقافتان

سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)

2010 / 8 / 17
الادب والفن


ويراد بهما في هذا المقام: الثقافة العلمية، والثقافة الأدبية. وتقوم الثقافة العلمية على الملاحظة، والتجربة، وإعادة الملاحظة، والتجربة حتى يستبين أمر، ويتضح قانون يُحكم مجلى من مجالي هذا الوجود، وقد بدأت الملاحظة والتجربة منذ أن وعى الإنسان نفسه، وما حوله، وأراد أن يقيم صلة بينه، وبين الأشياء ليفهمها على نحو ما، ولينتفع منها في وجه من وجوه الانتفاع التي يضطر إليها، وكانتا (الملاحظة والتجربة) على حالة من الأولية، ثم ارتقتا قليلاً قليلاً حتى استقامتا في العصر الحديث على منهج واسع مترامي النواحي يتناول الكون كله من أصغره إلى أكبره بالدراسة.
وتقوم الثقافة الأدبية على الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والفن، وكلّها يتجه إلى استبطان الإنسان في ما ينتابه من حالات التفكّر، والتأمّل، ويرصد وقع الأشياء عليه، ولعلّ الإنسان بدأ أول ما بدأ متأملاً في ما حوله، مندهشاً به، مأخوذاً بما يجد له من أثر في نفسه. ثم ارتقى المنحى الأدبي وسلك اتجاهات عريضة، منها الفلسفة، والأدب، والتاريخ، والفن، وكلّها يمدّ الإنسان بزاد لا غنى له عنه.
كانت الثقافتان (العلمية والأدبية) ملتحمتين في نسيج واحد، ليس بينهما فصل قاطع. وقد يكون الفيلسوف عالماً، وقد كان أرسطو يكتب في الميتافيزيقا، والعلة الأولى، ويكتب في المنطق ويضع أسسه، وكان إلى ذلك يكتب في ((الحيوان)) و((النبات)) متبعاً مبدأ الملاحظة، والتجربة، وكان في كلا الميدانين معلماً، رائداً، مؤسساً، وكان يتبع في كلّ ميدان المنهج الملائم له، فكان يتأمل، ويستبطن في موضع التأمل، والاستبطان، وكان يلاحظ ويجري التجارب في مقام الملاحظة، والتجربة، وعنده أن الإنسان واحد، وكلا الميدانين له، ولا يصح أن يجتزئ بأيٍّ منهما عن الآخر.
وكان ابن سينا- من التراث العربي الإسلامي- فيلسوفاً طبيباً، يلتقي عنده المنحيان متآزرين يعضد أحدهما الآخر، ويهيئ له آفاقاً جديدةً، ومثله أبو بكر الرازي، والأمثلة كثيرة على تآزر المنحى العلمي، والمنحى الأدبي، وكأنّهما في مسيرة الحضارة عنصر واحد، وهما كذلك، فأتاح ائتلافهما رؤية متكاملة للإنسان، لا يجور فيها جانب على آخر.
وتجد في عصر النهضة الأوربية من التقى فيه عنصرا الثقافتين العلمية، والأدبية أتمّ التقاء كـ((ليوناردو دافنشي)) الذي كان فناناً: رساما،ً ونحاتا،ً وموسيقياً، وكان إلى ذالك متبحراً في ((علم الميكانيكا)) يرى أن ((العلم)) ابن التجربة، وأن ما لا تسنده التجربة من نظريات يُعدّ باطلاُ، وليست التجربة عنده الإدراك الحسي وحده، بل هي البحث عن العلاقات الضرورية بين الأشياء، ووضع هذه العلاقات في صيغ رياضية تمنح نتائج التجربة يقيناً علمياً. لقد جمع العلم إلى الفن، وإلى الفكر المجرد، ولم يجد مسوغاً لقطيعة بينهما، بل رأى التكامل بين العلم، والفن، والفكر من أجل رؤية إنسانية واضحة صحيحة تضع كلَّ شيء في موضعه الصحيح في سبيل الحق، والخير، والجمال.
وقد نفذتْ ثمراتُ العلم في الحضارات السابقة إلى أذهان الناس، وعملتْ على تكوين ما يرون به الحياة، والمجتمع، والوجود، كما نفذتْ إلى أذهان الفلاسفة، والأدباء، والفنانين، وكانتْ في المستقِر مما كوّن رؤيتهم، فليس من قطيعةٍ بين ميادين المعرفة، وكلٌّ يفضي إلى الآخر، وكلٌّ يستظل بظّل من نظيره.
ولعل حقلاً من حقول المعرفة لا يقدر أن يرتقي إذا ما انفصل عما سواه انفصالاً تاماً، بل إن التكامل يقتضي اتصالاً.
ولم يقع الفصل بين المنحى العلمي، والمنحي الأدبي إلاّ في حضارة هذا العصر التي رعت التخصص، وقامت عليه، ولا ريب في أن التخصص الدقيق قد زاد من عمق المعرفة زيادة كبيرة، ولكنّه أيضاً كان مُهيِّئاً لنشوء إنسان ذي بعد واحد، يرى بإحدى عينيه، ويسمع بإحدى أذنيه، ويميل إذا مشى إلى أحد جانبيه، وقد تباعد في هذا العصر ما بين الثقافتين، وقلَّ من امتد وعيه إلى كلتيهما، وصار أنصار كلِّ ثقافة يتعصبون لها، ويرونها وقعتْ على الحقّ كلّهِ، وأن مآل الإنسان منوط بها. وقد لحق من هذه القطيعة حيف بكلتا الثقافتين!!
إن مما يستفاد من الثقافة العلمية- فضلاً عن زيادة المعرفة في حقلها- أنها تصل وصلاً وثيقاً بين الوعي، والوقائع، وتجعله ينظر إليها، ويتمرّس بها، ويُقيّد حركته بمقتضاها، فلا يقع في الوهم، والشطط.
وقد ابتلي الوعي الإنساني بأوهام كثيرة التصقتْ به على مدى تاريخه، ولا يُصحّح تلك الأوهام إلاّ الرجوع إلى المنهج التجريبي الذي يرصد الظواهر، ويستنبط القوانين التي تحكمها، ولا يتم التصحيح إلاّ إذا شاعت المعرفة العلمية بين الناس، ولم تبقَ حبيسة نطاقها الضيق، واقتنع الناس بالاحتكام إليها، وإلى منهجها التجريبي.
غير أن ما يؤسف له أن هذه المعرفة العلمية، ومنهجها بقيت في مدارها العلمي الضيق في قاعة الدرس، وفي مختبر التجارب، ولما تصبح ثقافة شائعة، وانكفأت على نفسها لا تريد أن تغادر موقعها إلى ما هو فاعل في الكيان الثقافي، بل إن القائمين عليها غير قادرين على الانتقال بها من الحقل الخاص إلى الحقل العام حتى تؤثر في مجرى الثقافة العامة، فتصحح الأوهام، وتنفي الأباطيل التي درجت عليها السنون. وهذا أمر على خلاف ما كانت عليه قنوات الثقافة في الحضارات السابقة إذ كانت هذه القنوات متصلة يفضي بعضها إلى بعض، ويختلط ماؤها ويعود يجري من جديد بصبغة جديدة.
إن ابتعاد الثقافة العلمية عن مجرى الثقافة العام أدّى إلى زيادة الأوهام، وضعف الحقائق، واختفاء روح النقد، وشيوع روح التسليم، والانقياد لما هو سائد من وهم، وخرافة.
ولعل من سبب ذلك أن القائمين على الثقافة العلمية لا يمتلكون الأداة التي يُخرجون بها الثقافة العلمية إلى الحيّز الواسع، وأعني بذلك أنهم لا يملكون الثقافة الأدبية التي هي حاملة القيم وصانعة الاتجاهات.
لقد نشأ بون شاسع بين الثقافتين بحيث صارت كلُّ منهما تُزري بالأخرى، وتنعى عليها نهجها، فأضرّ ذلك بكلتيهما.
إنّ الثقافة الأدبية منبثق القيم الإنسانية، وهي مجلى الروح في التعبير عن الحق، والخير والجمال، وهي القادرة على رسم معالم الطريق ومن دونها تفقد الحركة اتجاهها، وهي على ذلك لا غنى للثقافة العلمية عنها كما لا غنى لها عن الثقافة العلمية.
وقلّ في هذا العصر من التقت عنده الثقافتان، ولعل أبرز هذا القليل هو الدكتور أحمد زكي ذو التخصص العلمي في حقل الكيمياء، فقد نال تخصصه في هذا الحقل وبرّز فيه باحثاً، ومؤلفاً، ومترجماً، وكان رصيده من الثقافة الأدبية وافراً بدءاً من اللغة الصافية الصقيلة، والفكر الفلسفي العميق، والتزود من ثمرات الأدب الراقي حتى انسجم لديه ما هو علمي مع ما هو أدبي انسجاماً رائعاً، واتضح ذلك في ترجمة كتاب ((بواتق وأنابيق)) الذي روى قصة الكيمياء على نحو جمع الحقائق العلمية، والأداء اللغوي الرفيع، كما أتضح في مقالاته ((في سبيل موسوعة علمية))، وغيرها مما ألّف، أو ترجم، ثم إنّه لما كُلّف برئاسة تحرير مجلة ((العربي))- وهو أول رئيس تحرير لها- جعلها بصبغة علمية أدبية يلتقي على صفحاتها العلم، والأدب، وقد بقيت بصبغتها هذه لا تفارقها، وكأن من رسالتها أن تجمع الثقافتين.
وممن التقت الثقافتان عنده الشاعر عبد العزيز محيي الدين خوجة، وهو أستاذ دكتور في الكيمياء أيضاً، مرموق فيها، يقول: ((درستُ الكيمياء، وتخصصتُ فيها، ووجدت نفسي في نهاية المطاف أتعامل معها كما أتعامل مع الشعر، فكأنّ معادلاتها تشبه الأوزان أو البحور الشعرية... حينما يدرس المرء الكيمياء، ويلمس ما فيها من دقة ونظام، وكيف أن من الممكن عندما يتفاعل أو يتحد مركب أو عنصر مع آخر، أن ينتج عن ذلك آلاف النتائج، يجد نفسه يتعامل مع نوتة موسيقية، أو مع أوزان شعرية)). ومما يدل عليه هذا القول أن الفصل القاطع بين الثقافتين أمر غير حقيقي، وهو خلاف طبيعة الأشياء التي هي متصلة من حيث الأعماق، فليس من الحكمة أن يتهاون أحد بإحدى الثقافتين.
وإذا كان لهذه الكلمة أن تخلص إلى شيء، فإنها تدعو القائمين على شأن التربية، والتعليم أن يمدّوا جسوراً بين الثقافتين، وأن يصلوا بين ميدانيهما لكي تنشأ أجيال تمتلك رؤية صحيحة متكاملة للوجود، وللحياة، ولمكانة الإنسان فيهما.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. مليون و600 ألف جنيه يحققها فيلم السرب فى اول يوم عرض


.. أفقد السقا السمع 3 أيام.. أخطر مشهد فى فيلم السرب




.. في ذكرى رحيله.. أهم أعمال الفنان الراحل وائل نور رحمة الله ع


.. كل الزوايا - الفنان يحيى الفخراني يقترح تدريس القانون كمادة




.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟