الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أحمق يهزم عاقلا

إبراهيم منصوري

2010 / 8 / 17
الادب والفن


كان الناس يحسبون له ألف حساب قبل أن يورطهم أمام أهلهم وذويهم بكلماته الخادشة للحياء. إسمه الحقيقي "موحاو سعيد" ولكن أهل قريته اعتادوا أن ينادوه بلقب "قوع" الدائع الصيت. ازداد في ليلة من ليالي فصل الشتاء البارد لأسرة كانت تعيش حياة فقر مدقع وبؤس شديد. كان اسم أبيه "سعيد" تيمنا بولادته هو الآخر في فصل شتوي ممطر يبشر بعام فلاحي كله خير عميم رغم أن أسرته كانت لا تملك إلا حقلا صغيرا لا تكاد تتسع مساحته لثلة من أطفال القرية المهووسين بكرة القدم.

نبت الزرع ونضج فجمع الناس حصيدهم وكان وافرا عند أهل المساحات الكبرى في حين لم يلملم أبوه "سعيد" إلا ما يناهز صاعين من الشعير الرديء. بلغ "موحاو سعيد" عامه الأول في فصل شتوي كان أشد برودة وأعتى قساوة. أهدى الجيران للصبي ملابس وبطانيات قديمة ليحارب بها البرد القارس. ذات مساء، عاد أبوه من السوق الأسبوعي فوجد ابنه مريضا عليلا يسعل ويهذي. كان الطفل يعاني كثيرا إذ كانت حرارة جسمه مرتفعة. خاف عليه والداه من خطر البرد القارس فدثروه بركام من البطانيات فتفاقمت حرارة جسمه وزادت معاناته. بدأ جسمه يتشنج وراحت أطرافه تعرف اعوجاجا بينا.

في الصباح الباكر، أخذ الوالدان طفلهما المريض المنهك وهو ملفوف في أربع بطانيات، إلى المستوصف القروي الذي يبعد عن المنزل بكيلومترات. نظر الممرض إلى الطفل المدسوس في ركام البطانيات فصرخ في وجهي الوالدين وهو يخرج الصبي من جحيمه: "إني والله لأراكما مخبولين ! ألا تعرفان أن بركان البطانيات الذي يأوي هذا الطفل المسكين يشكل خطرا كبيرا على صحته ومستقبله؟ إنكما والله لا تعرفان من المسؤولية شيئا". عقب عليه الوالدان: "ولكن يا سيدي، نحن أميين وجاهلين ولا نعرف في الطب شيئا". أدخل الصبي عند الطبيب ففحصه وتبين له أن جهازه العصبي قد أصيب إصابة قد تجعل منه واحدا من المعاقين ذهنيا في بيئة لا ترحم حتى الأسوياء فما بالك بدوي الاحتياجات الخاصة. تجرع الطفل كمية معقولة من "الباراسيتامول" فتراجعت حرارة جسمه ثم شرب محلولا من المضادات الحيوية اللازمة لمكافحة الجراثيم المسؤولة عن الحمى المهولة التي كان يعاني منها.

حمل الوالدان الطفل المعاق إلى مأواه القروي وهو يدخل منذ ذلك اليوم في نادي المعاقين ذهنيا رغم أنه لم يختر أبدا وهو في بطن أمه أو بعد ولادته أن ينتمي إلى أي ناد من هذا النوع. دخل الجيران شراذم وجماعات يستفسرون عن حالة الصبي المنكوب. كان معظمهم يقول: "لا تثقوا في الطب الحديث فكله أخطاء وأكاذيب وافتراءات؛ لا يمكن للبطانيات الدافئة أن تؤثر في العقل البشري وقد تدثرنا بها منذ ولادتنا! أينما وجدت الدولة طبيبا معتوها بعثته إلينا ليفعل بنا ما يحلو له ويبعدنا عن عادات أجدادنا! لا تكترثوا بما يقول الطبيب المنحل واحملوا الطفل وزوروا به مقامات أولياء الله الصالحين وداووه بالتمائم والأعشاب الطبيعية فسيشفى بإذن الله!".

زار الصبي المنكوب قباب أولياء كثيرين وتجرع من صالح وطالح عصائر الأعشاب والنباتات ما لا يحصى وحمل من التمائم ما خف وزنه وما ثقل. زادت حالته الصحية تدهورا وكبر عالة على أهله وعشيرته. ترعرع الصبي في تلك البيئة القاسية وكان لا يحب المكوث في مأوى والديه ولو لفترة قصيرة. لم يكن يعرف المدرسة ولا أين توجد وكان يهوى المزاح مع أقرانه وإطلاق ألفاظ تخدش حياء الناس في بيئة محافظة جدا. كان بالخصوص يفضل إطلاق العنان لعباراته النابية كلما رأى جمعا مختلطا من النساء والرجال.

كانت عائلة كثيرة الأفراد تقطن بجوار مأواه. كانت تتكون من رجل وزوجته وأولادهما الثلاثة المتزوجين وأولادهم التسعة. بلغ لمسمع "موحاو سعيد" أن جيرانه بصدد الذهاب مجتمعين إلى قرية قريبة لحضور عرس. بدأ يتلصص أخبار رحلتهم كلما سمحت له الفرصة بذلك. كان يعرف أنهم سيغادرون منزلهم في ذلك اليوم الحار وكان يوم سوق. اتفق الأولاد الثلاثة المتزوجون الذين كانوا يتبضعون آنذاك في السوق القريب من مكان العرس المقرر إقامته أن يبعثوا بمشترياتهم إلى المنزل عن طريق أحد معارفهم على أن يلاقوا بعد ذلك بقية أفراد الأسرة في مقر العرس. اختبأ "موحاو سعيد" وراء شجرة زيتون ضخمة أمام منزل الجيران المدعوين للعرس وهو يسترق السمع لأحاديثهم ومداولاتهم. فهم أنهم منهمكون في الاستعداد للسفر فعرف أن الفرصة مواتية لإطلاق كلمات محرجة جدا لا سيما أن الجمع المختلط يشمل ثلاث عروسات وأم الأولاد المتزوجين وبعلها العجوز. فجأة خرج الجميع من المنزل فحصن "موحاو سعيد" مخبأه حتى لا يراه أحد. تبعهم بخطى ثقيلة إلا أن الرجل العجوز أحس بحركات دؤوبة خلفه فاستدار فلقي الفتى العجيب يتلقف آثار الراجلين أمامه. أحس رب الأسرة بورطة قد تخدش حياءه وحياء من معه فطارد "قوع" حتى يبعده. جرى وراءه حتى أوصله إلى ما وراء تل صغير. عاد إلى النسوان المرافقات له مزهوا بنفسه ومعلنا تفوقه على "قوع" المخبول: "لقد نجحت في اتقاء شر هذا الغبي خلافا لبعض الرجال ذوي التجربة الناقصة والذين بنى لهم قوع أفخاخا لا مثيل لها!". أمر الرجل النساء بمواصلة السير وإذا بالبطل "قوع" يناديه من أعلى التل: "يا خالي موح يا حبيبي الغالي!". استدار الجميع نحو مصدر الصوت فأطلق "قوع" قنبلته المدوية على مسمع من السيد "موح" المحترم والنساء المرافقات له: "عار عليك يا سيدي، أترافق جمعا من النساء وأنا لا أملك من الحريم شيئا؟ ألا تعطيني واحدة منهن لأباشرها؟". أحس الجميع بحياء حاد وحشمة شديدة فتفرقوا ولم يعد أحد يستطيع الحديث للآخر ولا حتى النظر في وجهه. أحس الرجل العجوز بمرارة الهزيمة أمام إنسان يعتبره الكل مخبولا غبيا. هزم الأحمق رجلا كان إلى وقت قريب يعتبر نفسه سيد العقلاء وكبير الحكماء. عاش "موحاو سعيد" سنوات طوالا فشغل الناس بنوادره ولكن لا أحد منهم تذكر يوما أن مصدر إعاقته جهل الإنسان وظلاميته...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - الى السيد ابراهيم منصوري
فؤاده ( 2011 / 9 / 14 - 12:30 )
مقال جميل بمضمونه فعلا نحن جميعنا وليس فقط موحاو نلنا من التخلف جانب من حيث التربيه التي تلقيناه ونعاني من تخلف مجتمع كامل
شكرا عزيزي على الفكره الجميله

اخر الافلام

.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا


.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط




.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية


.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس




.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل