الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أصل الداء دون لف أو دوران: »الساركوسيست« الهندي.. صناعة مصرية بامتياز

سعد هجرس

2010 / 8 / 17
مواضيع وابحاث سياسية


»الساركوسيست«.. كلمة ليس لها وجود بين مفردات »لسان العرب« وغيره من قواميس اللغة العربية الفصحي، وليس لها وجود ـ كذلك ـ في قاموس العامية المصرية.
ومع ذلك فإنها أصبحت علي كل لسان في مصر مؤخرا، خاصة وأنها مرتبطة بشيء عزيز علي قلوب المصريين من جميع الطبقات الاجتماعية، هو »اللحم الأحمر« الذي لا تخلو منه موائد الأغنياء، وتهفو إليه نفوس الفقراء ربما يضل طريقه إليهم في المواسم والأعياد والمناسبات الوطنية.
أما سبب الانتشار الكثيف لهذه الكلمة رغم أنها ثقيلة الظل وصعبة النطق فهو أن بعض الصحف نشرت تقارير إخبارية تؤكد أن اللحوم المستوردة من الهند مصابة بالطفيل الذي يحمل هذا الاسم.. »الساركوسيست«.
وبالطبع.. فإن الصحف التي نشرت هذه التقارير لم تخترع القصة من العدم، كما أنها ليست جهات علمية لديها مختبرات ومعامل قادرة علي بيان الحقيقة في مثل هذه الأمور.
وإنما استندت هذه التقاير الصحفية إلي تصريحات لجهات »رسمية« و»علمية« أكدت أصابة اللحوم المستوردة من الهند بهذا الطفيل.
صحيح أن جهات »رسمية« و»علمية« أخري تابعة لوزارات متعددة أصدرت تقارير تحمل نتائج مضادة بالكامل، وتبرئ اللحوم الهندية من هذه »التهمة«.. لكن هذا لا يضع نهاية للقضية ولا يغلق ملفاتها، وإن كان يجعل التضارب والتخبط هو سيد الموقف.
والضحية الرئيسية لهذا التضارب وذات التخبط هو المستهلك المصري الغلبان الذي لم يعد يعرف ماذا يصدق؟ ومن يصدق؟ وماذا يأكل؟ وماذا يشرب؟ في ظل غياب المعلومات الموثقة، وفي ظل غياب الثقة في التقارير الرسمية »إن وجدت«.
***
وفي محاولة البحث عن حقيقة هذا »العدو« الجديد الذي يدق أبواب المصريين، المسمي بـ»الساركوسيست« سافرت إلي الهند بصحبة عدد من الزملاء الصحفيين، عبدالله نصار »من الجمهورية«، وأحمد العطار »الأهرام« وعصام حشيش »الأخبار«، وناجي عبدالعزيز »المصري اليوم«، ومحمد حنفي »العالم اليوم«، فضلا عن سيد النشار مدير مكتب وكالة أنباء الشرق الأوسط في العاصمة الهندية.. دلهي.
بالإضافة إلي علاء رضوان رئيس شعبة مستوردي اللحوم باتحاد الغرف التجارية وأحد كبار »اللاعبين« البارزين في هذه الساحة.
وكانت زيارة هذا الوفد الصحفي إلي الهند أقرب إلي أن تكون »بعثة تقصي حقائق« إعلامية وأهلية، شملت ثلاث ولايات وزيارات مرهقة لعدد من المجازر والمزارع التي تأتينا منها هذه اللحوم.
ومن خلال هذه الزيارة الميدانية تكشفت لنا حقائق كثيرة ومهمة جدا فيما يخص موضوعنا.
لكني سأضع كل هذه الحقائق جانبا، وسأفترض أن ما رأيناه كان مرتبا بعناية، وأن الهنود جعلونا نري ما يريدون هم أن نراه.
وسأفترض كذلك أن لجان الإشراف والمتابعة المكونة من أطباء بيطريين مصريين مبعوثين من جانب الحكومة المصرية ومقيمين إقامة دائمة »بالتناوب« في الهند ولا يتم استلام كرتونة واحدة من اللحوم الهندية دون توقيع هؤلاء الأطباء المصريين علي سلامتها، سأفترض أن تقارير هؤلاء الأطباء المصريين ربما تنطوي إلي »مجاملة« سواء للمورد الهندي أو المستورد المصري »وهذا افتراض نظري وجدلي محض أرجو ألا يساء تأويله لأن هؤلاء خبراء مصريين علي مستوي عال من الكفاءة والمهنية ويبذلون مجهودا يوميا يفوق الوصف«.
وسأفترض كذلك أن هذا العدو الغامض المسمي »ساركوسيست« يسكن في اللحوم المستوردة من الهند.
.. وبعد كل هذه الافتراضات نحاول النظر إلي المشهد العام من زاوية أوسع.. فماذا نجد؟!
سنجد أمورا أخطر كثيرا من »الساركوسيست« حيث جذر المشكلة هو أن ثروتنا الحيوانية هزيلة جدا، ولا تكفي لتلبية الحد الأدني من الاحتياجات الأساسية للمصريين.
وأن هزال هذه الثروة الحيوانية المصرية ناتج بدوره عن هزال شبكة معقدة ومترابطة من السياسات الفاشلة والخائبة التي كانت نتيجتها تراجع الثروة الحيوانية.
والأخطر هو أن ما تبقي لنا من هذه الثروة الحيوانية الهزيلة أهدرنا معظمه بإدارتنا السيئة للأزمات التي مرت بنا، وبالذات أزمة أنفلونزا الطيور حيث أسفرت إدارتنا الخائبة لها لتدمير ثروتنا الداجنة تدميرا مروعا، وأزمة أنفلونزا الخنازير التي كانت إدارتنا لها أسوأ من إدارة الأزمة الأولي.
وبالنتيجة.. اتسعت »فجوة اللحوم«، وازداد اعتمادنا علي الخارج.
وسيظل هذا الاعتماد علي الخارج قائما طالما أننا مستمرون في انتهاج السياسات الهزيلة والكسيحة الحالية التي أفرزت لنا هذا الوضع التعيس.
وحتي عندما نظرنا إلي الخارج بحثا عن سد هذا العجز الغذائي المخيف عن طريق الاستيراد افتقرنا إلي الرؤية الاستراتيجية الواضحة، فضلا عن أن البيروقراطية المصرية العتيدة مارست هوايتها في تعطيل المراكب السايرة وتعقيد الأمور أكثر مما هي معقدة فتفتق ذهنها عن وضع مواصفات لا مثيل لها في العالم، ووضع لوائح »وفرمانات« عثمانية بكل ما في الكلمة من معن.
والغريب.. أنه رغم ما يبدو من تعقيد زائد في إجراءات الاستيراد، يصل إلي حد التزايد في أحيان كثيرة، فإن الشكاوي من الفساد تزيد ولا تقل!
خذ علي سبيل المثال مشكلة اللحوم الهندية الأخيرة، وستجد أن الهند تصدر لحومها إلي أكثر من ستين دولة، تنفرد مصر بينها جميعا باللائحة مواصفات بالغة التشدد، وتنفرد مصر دونها جميعا باشتراط وجود لجنة ثلاثية من أطباء بيطريين مصريين داخل كل مجزر يتم استيراد اللحوم الهندية منه.
ومع ذلك فإنها الدولة الوحيدة التي ظهرت فيها مشكلة »الساركوسيست«.
ومثلما ظهرت المشكلة.. اختفت ولم يظهر تقرير رسمي واحد من جهة رسمية معنية بسلامة الغذاء يتحدث عن هذا الساركوسيست الذي احتل صدارة الأنباء قبل ذلك بعدة أسابيع.. وكأن شيئا لم يكن!!
***
وإذا أغلقنا صفحة اللحوم المستوردة المجمدة وفتحنا صفحة استيراد القطعان الحية.. سنجد أوضاعا لا تقل إزعاجاً.
يكفي أن نشير إلي محنة المجازر الآلية المصرية. فهي مجرد »سلخانات« بدائية مقارنة بالمجازر الحديثة التي رأيناها في الهند وبلاد تركب الأفيال.
وقد بلغت رداءة »السلخانات« المصرية تلك الدرجة المهنية التي جعلت بلدا، مثل استراليا، يرفض تصدير قطعان من المواشي الحية إلي مصر. والسبب هو إساءة معاملتنا للحيوان أثناء نقله وأثناء ذبحه في تلك السلخانات المتخلفة.
***
والخلاصة.. أن »الساركوسيست« موجود بالفعل، لكنه لا يحمل شهادة منشأ هندية، وإنما شهادة منشأ مصرية بامتياز فهو طفيل »صناعة مصرية« في المقام الأول.
وبدلاً من أن نبحث عن شماعات أجنبية، هندية وغير هندية، لتعليق عيوبنا عليها.. يجب أن نصارح أنفسنا بالحقيقة.
والحقيقة تقتضي أن نعترف بأننا نحتاج إلي تحديث مصر، ونحتاج إلي مشروع مستقبلي لـ »نهضة مصر« في جميع المجالات.. حتي لا نفاجأ بـ »ساركوسيست« ينخر في »اللحم المصري الحي«.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. ما محاور الخلاف داخل مجلس الحرب الإسرائيلي؟


.. اشتعال النيران قرب جدار الفصل العنصري بمدينة قلقيلية بالضفة




.. بدء دخول المساعدات عبر الرصيف الأمريكي العائم قبالة سواحل غز


.. غانتس لنتنياهو: إما الموافقة على خطة الحرب أو الاستقالة




.. شركة أميركية تسحب منتجاتها من -رقائق البطاطا الحارة- بعد وفا