الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


عندما أكلني الذئب

عبد الفتاح المطلبي

2010 / 8 / 18
الادب والفن


لا أحد ، نعم لا أحد يستطيع أن يعرف قيمة الساعات الأخيرة من آخر يوم في إجازة العسكري الدورية إلا إذا كان هو ذلك العسكري في زمن الحرب ، في تلك الظروف التي تطلق عليها الحكومة ( الطواريء ) و التي يميزها قانون الحرب الذي يزيح كل ما كتب من قوانين ليتفرد وحده في البلاد يجيز سجن الجندي المتغيب ومن ثم إعدامه إذا تغيب لمدة عشرة أيام بدون أعذار قانونية ، هذا اليوم هوالأخير من إجازتي الدورية التي مرت كالحلم ،اليوم الأخير من الإجازة يبدأ بالتهام ساعاته و دقائفه و ثوانيه بوحشية كبيرة غير مبال بقلبي المعصورو كأنني قد فارقت عزيزا إلى الأبد ، لذلك لا تفريط بساعة واحدة من اليوم الأخير،وحدتي العسكرية في جبهة القتال تبعد كثيرا عن المدينة التي أقطنها و علي أن أجري حسابي بحيث أصل لوحدتي قبل التعداد الصباحي الذي من بعده أُعد من الغائبين و عند ذلك علي أن آتي بالخبر اليقين لعريف الفصيل كما فعل الهدهد حين تفقد النبي سليمان وجوده ( مالي لا أرى الهدهد ) أم إنه من الغائبين و أنا شخصيا لست أملك قدرات ذاك الهدهد لذلك علي أن أدبر أمري ، و لكي أفعل ذلك لا بد لي أن أستغل الليل للإلتحاق بوحدتي العسكرية و يحتم علي ذلك اجتياز ذلك الطريق الموحش عند انتصاف الليل وبعد ذلك لا يبقى إلا خمسة عشر كيلومترا تقلني تلك السيارات الواقفة ليلا ونهارا من أجل نقل الجنودإلى مواقعهم و كان الوقت شتاء باردا تتخلله رياح باردة متقلبة ليس لها وجهة معينة ، وها أنا أخطو بحذر فوق هذا الدرب الموحش المقفر ليختصر لي الطريق إلى المفرق حيث تتواجد سيارات نقل الجنود، لم أكد أسير بضع أمتار حتى خيل لي أنني أسمع هسهسة من حولي فتوقفت محدّقا في ظلام كثيف ،قطعت أنفاسي و حركتي و رحت أنصت و ديجور الليل يلفني و همسات الريح الباردة تتخطف أذني ، وقفت في مكاني لا أقدم رجلا ولا أؤخر أخرى ، لا ألتفت يمينا ولا شمالا ، أتوجس خوفا حيث لا أستطيع رؤية أصابعي ، رحت أواسي نفسي ، قلت الأمر طبيعي فالمرء يخاف مما يجهل ،ها أنا أجهل كل ما حولي لا ضوء يبدد هذه الظلمة ، رحت أبحث في جيوبي عن أي شيء يساعدني على مواجهة هذا الظلام ، آه ، وجدت علبة ثقاب،أشعلت عودا منها لكنه لم يكد يطلق أنفاسه حتى خنقته كف الريح،و كأنها تترصده ريح لا وجهة لها تحيط بي كما تفعل الظلمة ذلك ، أخرجت عود ثقاب آخر و غيرت اتجاهي ، أشعلت العود لكن ريحا أطفأته ، وهكذا رحت أدور حول محوري لعلي أتفادى إتجاه الريح لكنني لم أُفلح ، لقد أفزعني اكتشافي أن الريح تدور حولي و تحاصرني كما يفعل الظلام و أزعجني أن العيدان احترقت كلها و لم يبق منها شيء ، وقفت للحظة أتفقد أوضاعي فلم أجد إلا خيوط الوهم تغزو كياني الملتبس و هكذا صرت أسمع أصواتا تأتي بها الريح من كل جانب و عندما أتفرس بأعماق الظلام ، أرى مخلوقات تتقافز أمامي و على جنبي ، كان الدرب محاذيا لسور بستان كثيف ، راحت الأفكار تهاجم خيالي و انسربت صور شتى تسيل من حولي لذئاب شرسة و مخلوقات مبهمة ، عند ذاك لم أجرؤ على التقدم مترا واحدا ، نسيت الهدهد و نسيت العريف و تعداده ، ذاك خطر بعيد و ما أنا فيه من خطر قريب هو المهم ، قررت البقاء حيث أنا حتى انبلاج الفجر، رحت أحدق عميقا في الظلام فأرى مخلوقات الظلمة كيف ما اتجهت تدخل إلى عيني بأشكال مختلفة ، لكنني رأيت بشكل أكيد من خلال العتمة عينين بحلقتين صفراوين حولهما و هما تقدحان ، كانتا أمامي مباشرة على يمين الطريق ، في تلك اللحظة علمت أن قلبي لم يكذب علي و إن عيني لم تتوهما و إن حدسي في محله و ها هما العينان تقدحان في الظلام و رحت أتخيل نيوب الذئب الحادة وهي تمزق لحمي البائس وتدفعه إلى معدته الجائعة فيقشعر جلد رأسي ،و ها هما العينان ترقبانني و تترصدان حركتي مستعينة بعصف الريح الباردة و الظلام الذي وسق كل شيء حتى تغلغل لأعماق روحي المتوجسة ، لم يكن بمقدوري أن أتحرك بأي اتجاه فلو هربت بعيدا نحو الجهة المعاكسة فلربما كانت تلكما العينين تنتظران حركتي كي تشرعا بمهاجمتي من الخلف ، ماذا أفعل ، انحشرت هذه الجملة في رأسي و راحت تقفز ..ماذا أفعل.. ماذا أفعل ...و على رنة ترداد هذين الكلمتين مصحوبتين بخوفي و توجسي و استطالة لحظة الترقب، هوم على نعاس رحت أقاومه بكل ما أستطيع لكنه غلبني و سحب يقظتي خيطا خيطا حتى صرت في قبضته و لم أعلم بعد ذلك استيقظ هل تشكو من شيء، انتبهت الىإنني كنت أجلس متقرفصا أحتضن حقيبة سفري مسندا ظهري إلى حائط البستان و قد نمت نوما عميقاو كان الفجر في أول أنفاسه و الغبش ينتشر على وجه الأرض....
قال هل أنت تعب؟
قلت : لا
قال : لماذا تنام في الدرب؟
لم أجبه لكنني نظرت بكل الإتجاهات أبحث عن موقع تلكما العينين بيد أنني لم أكن متأكدا من الإتجاهات، لقد ضاعت، راحت عيناي تجوسان المكان و ما حوله لم أجد إلاقطعة من قميص نسائي ممزق على حافة الدرب كان على حاشية صدر القميص زرّان من الزجاج اللآمع حولهما غطارين من المعدن الأصفر البرّاق ، تناولت قطعة القميص الممزق دسستها في حقيبة سفري قلت هذا هو الذئب ، بدا الحارس مبهوتا عندما رحت أسير بخطوات بطيئة وواثقة نحو الطريق العام حيث تمر السيارات.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. قصيدة الشاعر عمر غصاب راشد بعنوان - يا قومي غزة لن تركع - بص


.. هل الأدب الشعبي اليمني مهدد بسبب الحرب؟




.. الشباب الإيراني يطالب بمعالجة القضايا الاقتصادية والثقافية و


.. كاظم الساهر يفتتح حفله الغنائي بالقاهرة الجديدة بأغنية عيد ا




.. حفل خطوبة هايا كتكت بنت الفنانة أمل رزق علي أدم العربي في ف