الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


أماتوا الماركسية.. فلمَ لا تزال حية؟ (2)

فواز طرابلسي

2010 / 8 / 19
بوابة التمدن


السفير
من هيغل إلى ماركس
يخصص فؤاد خليل فصلاً شيّقاً للمقارنة بين هيغل وماركس. هي مقارنة تتم على عدة مستويات. يقوم المستوى الأول على المقارنة بين فكر «الذات العارفة» الذي يجسد هيغل ذروته وفكر «الذات الصانعة» الذي يجسّده ماركس. ويعنى المستوى الثاني بفلسفة التاريخ حيث يُجمِل خليل القول في معادلة حذقة تنعى على هيغل أنه يبدأ من المطلق وعلى ماركس أنه ينتهي بالتاريخ إلى الحتمية. ولا يغفل الكاتب هنا نقد المسار الأحادي التصاعدي للتاريخ كما يرد في بعض التبسيطات الماركسية التي روّجتها الستالينية. فهو يقرأ تتابع أنماط الإنتاج بما هو «مراحل تحليلية» لا بما هو تتابع لمراحل تطور تاريخية متعاقبة ومتصاعدة يفضي الواحد منها بالحتم إلى الآخر. (ص153) هنا يريد المؤلف تذكيرنا بفعل العنصر البشري في التاريخ، وبأهمية أن للبشر حرية الاختيار. بل إن كل شيء يتوقف على اختيارهم. فنتأكد أن تناقضات تشكيلة اجتماعية ما قد لا تفضي إلى تجاوزها إلى تشكيلة أكثر تقدماً وإنما قد يفضي اصطراع المتناقضات داخلها إلى تدمير القوى المتصارعة بعضها لبعض، كما في تحليل ماركس وانجلز لأسباب انهيار الامبراطورية الرومانية أو في معادلتهما الشهيرة عن مآل الرأسمالية: «الاشتراكية أو البربرية».
في مستوى ثالث من المقارنة بين هيغل وماركس، يعالج فؤاد خليل مقاربتين متناقضتين: الماهوية عند هيغل، التي تفضي إلى مركزية عقلانية ذات محورية أوروبية، تضارعها المادية الماركسية القائمة على النظرة المتساوية للبشر، عنوان شموليتها الكونية.
ملاحظات من أجل استمرار الحوار
أولاً: أراد فؤاد خليل لمساهماته أن تقتصر على ماركسية ماركس. تقوم هذه المسلّمة «النهضوية» على اعتبار أن التجديد الفكري يتأتى بالدرجة الأولى من العودة إلى النص الأول. أظنها إشكالية دينية، نموذجها الإصلاح البروتستانتي. وهي ليست طريقة مسلّماً بها في كل الأحوال وتحتاج إلى مزيد من التفحّص.
لقد اغتنت الماركسية منذ ماركس وإنجلز بمساهمات وتطويرات لم تكتف بإغنائها وتطبيقها على مجالات نظرية مختلفة عن تلك التي شهدت ولادتها ونموها بل رفدتها أيضاً بروافد من تطور المعارف لم تكن موجودة زمن المؤسسين. سدّت تلك المساهمات العديد من الثغرات وسعت للإجابة على عدد أكبر من الإشكاليات. حقيقة الأمر أن المؤلف لجأ إلى عدد من شرّاح النصوص الأولى وإلى التأويليين، وإن يكن وضع إسهاماتهم في هوامش الصفحات. كذلك الأمر، اقتصرت العودة إلى النص الأول على عدد من النصوص الأولى لماركس وإنجلز دون سائر النصوص. فكل موضوعات الأيديولوجيا والاغتراب وتصورات التطابق بين الواقع والوعي، مثلاً، مبنية على «الأيديولوجيا الألمانية» وعلى تأويلات تالية لها، في حين ارتقى ماركس بمفهومه عن التشيؤ إلى مستوى أرقى بكثير عند إنتاجه مفهوم صنمية السلعة في «رأس المال».
وعلى سيرة «رأس المال»، لماذا يسود عند الماركسيين العرب كل هذا الفزغ من مقاربة هذا السفر الرئيس الذي لا ماركسية من دونه؟
ثانياً: على الغرار ذاته من الانتقائية في تناول المفاهيم الماركسية، لا بد من الملاحظة أن نصوص فؤاد خليل في هذا الكتاب يغيب عنها مفهوما الكولونيالية والامبريالية، لتحلّ محلهما ثنائية شرق/غرب المتحدرة من نقد الاستشراق. ولو أن المؤلف أدرج هذين المفهومين، لكان وفّر على نفسه الكثير من العناء عند مقاربة موضوع الحداثة وإنتاج المعارف عن بلداننا، ولكان أثبت وجهاً بارزاً ومهماً من كونية الماركسية على شرط تناول جميع ما كتبه ماركس وإنجلز عن الكولونيالية وليس تلك التي ينصبّ عليها النقد عادة. ففي حصيلة تطور موقف ماركس من المسألة الكولونيالية، تخلى عن أوهام أن وظيفتها نقل الثورة الصناعية الرأسمالية والحضارة إلى العالم غير الأورو ـ أميركي، وانتقل إلى الإدانة بعدما اتضح له أن توسع الرأسمالية المتفاوت بين أوروبا وسائر العالم أسس لشكل جديد من الاستغلال هو الاستغلال الكولونيالي.
ثالثاً: اعتمد المؤلف في تحليله المجتمعات العربية على مقولة حداثوية تقول بثنائية البنى الاجتماعية: بنى حديثة رأسمالية متعايشة مع بنى مسماة تقليدية قبل الرأسمالية أو عاجزة عن الانعتاق منها. أظننا بتنا نعرف عن مجتمعاتنا ما يوجب التخلي عن مثل هذه الثنائية التبسيطية. فالغالب أن هذه البنى قبل الرأسمالية تترسمل. ويجري انتقاء أجزاء منها وإعادة تدويرها لكي تؤدي وظائف جديدة في المجتمعات الرأسمالية الطرفية التابعة كما في أنصبة السلطة.
وحقيقة الأمر أن هذه البنى التقليدية قبل الرأسمالية ـ عائلات، قبائل، طوائف دينية، جماعات إثنية، الخ. ـ ليست تتمايز وتتفارق وتتراتب، وتكتسب فاعلية ما بما هي جماعات، إلا عندما تتمايز وتتفارق وتتراتب في مواقعها من السلطة وتوزيع العمل الاجتماعي والموارد الطبيعية والثروة.
يمكن التمثيل على تفاوت المواقع من توزيع العمل بالإشارة إلى غلبة الوظيفة المقاطعجية ـ العسكرية على الجماعة الدرزية في لبنان القرن التاسع عشر في مقابل غلبة الانتماء العامي ـ الفلاحي على المسيحيين عموماً. وللتدليل على تفاوت المواقع من الموارد الطبيعية، يمكن أخذ مثال الثروة النفطية والحرمان منها بين المناطق والبلدان. وفي تفاوت المواقع من السلطة عموماً يمكن الحديث عن الأسبقية السياسية للجماعة المارونية في السلطة في لبنان قبل الحرب الأهلية الأخيرة 1975ـ1990. وعن التمثيل على التفاوت في المواقع من السلطة العسكرية، يمكن الإشارة إلى طغيان الصرب على الجيش اليوغسلافي. أما التفاوت المناطقي من حيث التطور الاقتصادي ومستوى المعيشة فمثاله تفاوت التطور بين شمال إيطاليا وجنوبها ما أنتج الدعوات الانفصالية الشمالية بحجة تحرير الشمال الصناعي الغني الميسور من أعباء الإنفاق على الجنوب الزراعي الفقير. وهناك أخيراً وليس آخراً التفاوت في التوزيع الاجتماعي، وهو ما تتدخل فيه الطوائف اللبنانية على غير شكل خصوصاً في مجالات الخدمات الصحية والتربوية والخيرية. وثمة تمايزات لا تقل أهمية بين الجماعات المسمّاة «تقليدية» من حيث امتلاك رأس المال، الفعلي منه أو الرمزي، وفي توزيع رأس المال الثقافي ـ التعليمي، الخ. ومن أسف أن فؤاد خليل يكتفي في هذا الحقل الغني بالنزر اليسير الذي هو المفارقة بين الموقع الطبقي والمكانة الاجتماعية (الجاه) على مذهب ماكس فيبر.
رابعاً: بناء على ما تقدّم، تجدر الملاحظة أن مصادر السلطة السياسية والضبط الاجتماعي نادراً ما تكون متطابقة مع مصادر السلطة الاقتصادية. كذلك الأمر، فالفريق الحاكم ليس متطابقاً مع الطبقة المسيطرة اقتصادياً. وهو ما بيّنه ماركس وإنجلز في تناولهما نشأة الرأسمالية وسيطرتها ودورها في التوحيد القومي في كل من إنكلترا وألمانيا مثلاً، أو حلَّله أنطونيو غرامشي على نحو عميق في كتاباته عن الوحدة الإيطالية، حيث لعبت دولة بيدمونت دور عنصر التجميع والتوحيد للأنوية البرجوازية الموزعة على المناطق الإيطالية. وإلى هذا يمكن الإضافة أن مصلحة الدولة، بما هي دولة، نادراً ما تكون متطابقة مع المصالح المباشرة أو الراعية للطبقة المسيطرة اقتصادياً. ذلك أن السلطة السياسية تمثل عادة المصلحة العامة للطبقة المسيطرة اقتصادياً من ضمن تمثيلها للدولة بما هي مصلحة قائمة بذاتها تزعم تمثيل الحقل العام وحقل السياسات الدولية. وللدولة طرائقها المختلفة في تمثيل المصالح الرأسمالية أحياناً ضد إرادة البرجوازية ذاتها، وتعبيرها المباشر عن مصالحها، أو بتحميلها أكلافاً قد تكون باهظة جراء هذا التمثيل كما في حال منوعات الفاشية والبونابارتية والشعبوية اليمينية.
خامساً: في ظني أن إشكالية التعريب والعروبة، التي يعبّر عنها المؤلف بالخيار بين ماركسية معرّبة وماركسية عربية، قد تجاوزها الزمن، خصوصاً أنها تقوم على فرضية «الخصوصية» القومية أو الإسلامية وسواها. هذا في حين أن التيارات القومية العربية والإسلاموية لا تشكو شيئاً في مضمار «استيراد» الأفكار المستوردة من المصادر الغربية هي أيضاً. والأهم من ذلك أن المؤلف قد نقض هذه الإشكالية أصلاً في تأكيده على شمولية الفكر المادي ومساواته بين البشر في ما يتعدّى قسمة شرق/غرب، وفي تغليبه ما تجمعه الذات المنتجة في مقابل ما تفرّقه الذات الهيغلية العالمة في تركيزها على الهويات، المتفاوتة حكماً. ثم إنه ـ المؤلف ـ قد تجاوز إشكالية التعريب والعروبة في توكيده على تاريخانية الماركسية عندما عيّن الإشكـالية على أنها «كيف نعيد إنتــاج المعــرفة بــتلك النظريات أو المفاهيـم من داخل شروط تجربتنا التاريخية» (207ـ206) وهي شروط متبدلة ومتغيّرة.
في استلهام لمقولة ماركس عن «الإنسان الصانع» يمكن القول إن «الإنسان العارف» لا يخرج عن دائرة الإنتاج البتة. إن المعرفة إنتاج، تتكون عناصرها من منتج ومواد أولية وأدوات إنتاج وتقنيات. المواد الأولية في هذه العملية لا بد أن تكون محلية ـ أي أنها الواقع العياني المحلي قيد الدرس بما هو شبكة من العلاقات المجتمعية. لكن كل منتج للمعارف، كائناً ما كان منسوب المعرفة في معارفه إلى الأيديولوجيا والخرافة، يختار أدوات إنتاجه بما يناسبه من مخزون الفكر الكوني بتنوع تياراته. وهو يتأثر في ذلك الاختيار، حتى لا نقول إنه ينحكم، بالموقع الجغرافي والاجتماعي والسياسي الذي منه ينظر إلى موضوعه، وبحساسيته الفردية من حيث التربية والعِدَّة الثقافية والفكرية. بهذا المعنى، ليس من وصفة جاهزة إلا التعدد والمنافسة في سوق الأفكار على النجاح في الاستحواذ على البشر والتجذّر في وعيهم والمشاعر.
في هذا السياق، تملك الماركسية جملة من مصادر القوة الضمنية، شرط استخدامها. فهي نظرية تستطيع أن تتجاوز نفسها بنفسها وأن تصحح نفسها باستمرار. فلا تقتصر فاعليتها على أنها علم الرأسمالية لا يصح إلا لحل التناقض بين الرأسمال والعمل. ذلك أن الماركسية قد أثبتت نفسها في التجربة التاريخية العيانية أنها أيضاً علم الكولونيالية والامبريالية، وعلم تمرحل التحرر الوطني والاجتماعي، والتوحيد القومي، كما في التعاطي مع مسألة الأقليات. فثمة ماركسية لمراحل التحرر الديموقراطي، وماركسية للرأسمالية الصناعية المتقدمة، كما توجد ماركسية لمنوعات الرأسماليات التابعة، وتتويج ذلك في قدرة الماركسية أكثر من سواها على الإحاطة بكل تناقضات الرأسمالية المتعولمة، بما هي المرحلة المعاصرة من التوسع الرأسمالي الكوني، وعلى رسم استراتيجيات تجاوزها نحو عالم جديد ذي أفق اشتراكي.
ففي وجه لاهوت السوق النيوليبرالية والوعود بالجنة أو بعودة المهدي أو المسيح أو إعادة بناء الهيكل، تطلقها التيارات الدينية، هل نستكثر على الماركسية، أيها الرفيق والصديق العزيز فؤاد، إن هي استعادت طوبى الممكن: الجنة على هذه الأرض؟

([) مقدمة كتاب الدكتور فؤاد خليل «الماركسية في البحث النقدي» (دار الفارابي)








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. علماء يضعون كاميرات على أسماك قرش النمر في جزر البهاما.. شاه


.. حماس تعلن عودة وفدها إلى القاهرة لاستكمال مباحثات التهدئة بـ




.. مكتب نتنياهو يصيغ خطة بشأن مستقبل غزة بعد الحرب


.. رئيس هيئة الأركان الإسرائيلي: الجيش يخوض حربا طويلة وهو عازم




.. مقتل 48 شخصاً على الأقل في انهيار أرضي بطريق سريع في الصين