الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة الثقافية في تركمانستان: بين أزمة الهوية وبقايا القمع المنظم (2/3)

عماد الدين رائف

2010 / 8 / 19
الادب والفن


لم يكن قد مضى عام واحد على رحيل الديكتاتور صابر مراد نيازوف، حتى قام الرئيس الجديد بيردي محمدوف بمنح نفسه ميدالية ذهبية كبيرة مرصعة بالماس، إضافة إلى علاوة في الراتب تصل إلى 30 في المائة، وذلك بمناسبة احتفاله بعيد ميلاده الخمسين، مستعيداً بذلك خطى نيازوف، في تخليد نفسه وعبادة الذات. كذلك أصدرت الحكومة التركمانية، بهذه المناسبة "السعيدة"، عملات ذهبية وفضية تذكارية تحمل صور محمدوف، الذي قلد نفسه "وسام الأمة"، وهو عبارة عن ميدالية ذهبية مرصعة بالماس تحملها سلسلة من الذهب الخالص، مرصعة بالجواهر. وتقدر نسبة الزيادة في راتبه نحو 20 ألف دولار، إلى جانب الراتب التقاعدي.
ويعتبر المراقبون الأكثر تفاؤلاً أن محمدوف يمر بمرحلة انتقالية لا بد منها بعد الإرث الديكتاتوري الثقيل الذي حمله من سلفه، ويعتقدون أنه يتجه إلى مناح أكثر انفتاحاً. فنيازوف المتوفى توفي في العام 2006، جراء أزمة قلبية فاجأته، عن عمر ناهز 66 عاماً، كان قد حكم البلاد الواقعة وسط آسيا والمجاورة للحدود الإيرانية والأفغانية، الغنية بمصادر الطاقة، منذ العام 1985 عندما كانت ضمن جمهورية الاتحاد السوفييتي السابق.
واشتهر نيازوف بتصرفاته الغريبة، ويحسن أن نقف على بعضها لتلمس التأثيرات المباشرة وغير المباشرة التي طرأت على الفنون والثقافة في البلاد أثناء ربع قرن حكم فيه هذا الطاغية. وتعدى نيازوف بأفكاره "أباطرة" عالمنا العربي فعلقت صوره العملاقة على واجهات كل المباني الحكومية، وتوزعت تماثيله في البلاد، ونصب تمثالاً ذهبياً كبيراً له يدور مع حركة دوران الشمس. وفي تشرين الثاني 2005، ألغى القَسَمَ التقليدي للأطباء، واستحدث قسمًا جديداً هو "بعد تخرجي طبيباً وخلال ممارسة مهنتي، أقسم بأن أحترم مبادئ صابر مراد تركمان باشي". وفي آب 2006 أطلق على نوع جديد من الشمّام (البطيخ الأصفر)، اسم "تركمان باشي". وأمر كذلك جميع الرجال بحلق شواربهم ولحاهم وحظر عليهم إطالة شعورهم.
وزعم نيازوف أنه ألف كتاباً أسماه "روح نامه" أي "رسالة الروح"، وادعى أنه عندما انتهى من تأليفه "سأل الله بأن يدخل من قرأه ثلاث مرات إلى الجنة"، ونشر هذا الكتاب في العام 2001. ثم ما لبث أن زعم أن هذا الكتاب "مقدس"، وقال في "يوم المرأة العالمي" في 2004، وكان قد أسماه بـ "عيد الفتاة والمرأة": "من قرأ كتابي "روح نامه" ثلاث مرات فإنه سيكون حكيماً عاقلاً ذكياً فقيهاً بالطبيعة والقوانين والقيم الإنسانية، وبالتالي يدخل الجنة مباشرة". وفي العام 2005 وضع صاروخ روسي نسخة من هذا الكتاب في المدار!
ويذكر أن هذا الكتاب ترجم إلى 30 لغة من لغات العالم وطُبع منه أكثر من مليون نسخة. وهو مقرر أساسي بل مادة لها اهتمام خاص في مدارس وجامعات تركمانستان. وقد بلغ به الغلو أن أمر بتعليق كتابه هذا أمام بوابة أكبر مسجد في العاصمة التركمانية "عشق آباد" مع لوحة بجانبه مكتوب فيها: "روح نامه" كتاب مقدس، والقرآن كتاب الله".
وقد غيّر الرئيس التركماني أسماء وألقاب الأشهر وأيام الأسبوع، وسماها باسمه وأسماء آبائه، وأصبح اسم أول شهر في السنة "تركمانباشي" أي لقب نيازوف الشخصي "أبو التركمان"، ونيسان بات "قربان سلطان" على اسم والدته، وسمى شهر أيلول بـ "روح نامه"، وأما اسم يوم السبت فـ"روح كون"، وأوجب فيه على الشعب التركماني ختم كتابه "روح نامه". وذهب إلى تسمية العام 2005 فقد سمي بـ "عام روح نامه".
كما حدد نيازوف مراحل جديدة للحياة بحيث تنتهي مرحلة الطفولة في سن الـ 13، والمراهقة في سن الـ 25، وبعد سن الرشد تأتي مرحلة "نبوة" بين الـ 49 والـ 61 سنة، ومرحلة "إلهام" بين عامي 61 و73، في حين لا تبدأ مرحلة الشيخوخة قبل 85 عاماً.
وقبل العودة إلى ما بدأناه من مقاربة آثار القمع المنظم في الحياة الثقافية اليومية للشعب التركمانستاني بعد الاستقلال، تجدر الإشارة إلى أن الصحافة في البلاد ليست أفضل حالاً من الفنون. وأن هذه الكلمات إن ذكرت في أزقة عشق أباد تعتبر أكثر من كافية لتطيح برأس كاتبها. وقد تناولت الزميلة أمانغول ياروفا التي بطبيعة الحال لا تعيش على الأراضي التركمانستانية، والتي تعمل في وكالة "فرغانه" بالتفصيل لبعض جوانب الحياة الثقافية التي نحن بصدد تناولها من زاوية مقاربة، وكان بحثها بعنوان "الأرض المحروقة: الثقافة في تركمانستان المستقلة". وأثار هذا البحث حال نشره حفيظة ماكينة البروبوغندا الحكومية، التي قامت بهجوم عنيف على الكاتبة والوكالة معاً.

السينما والمسرح

بعد استعراض جانب من أحوال فنون الغناء والأداء في تركمانستان، نقف عند السينما والمسرح اللذين شهدا نهضة كبيرة إبان الحقبة السوفياتية. فما هو حالهما اليوم؟

معظم عشاق" ميلبوميني" في تركمانستان اليوم هم من الطلاب والمجندين. والحقيقة أن قلة قليلة من الناس تتوجه إلى المسرح بإرادتها، وتجد وزارة الثقافة نفسها مضطرة إلى جذب المشاهدين بشكل مستمر ومنتظم، كون ما يعرض على خشبة المسرح لم يعد يلامس اهتمامات الجمهور. الجمهور الذي لا يمكن وصفه بالمتقلب المزاج أو المدلل، وتثيره بطبيعة الحال مشاهدة "حالة التشويش" التي تقارب الـ "اللا شيء" على الخشبة!
العروض المسرحية لا ترقى عن كوميديا الدرجة الثالثة. وكما الحال في فنون الأداء والغناء والأوبرا، يدير قسم المسرح في وزارة الثقافة الكاتب المسرحي دجوما تيركيشيف، الذي كان مغموراً في الحقبة السوفياتية، بل تم تجاهله حينذاك. ويبدو أنه اليوم مع رضى الحكومة عنه يتحكم بأوصال المسرح وما يعرض عليه. بل له الرأي في اقتراح مَن مِن الكتاب له حق العرض كذلك، ورأيه هو المرجح لدى اللجنة الخاصة بالمسرح. وحدث ذلك، على سبيل المثال، العام الماضي حيث كان من المقرر عرض رائعة شكسبير "روميو وجوليات" و مسرحية "الصانع" لفامبيلوف، لكن بعض المشاهد اعتبرت "فاضحة" وحذفت من مسرحية شكسبير، وتعليل ذلك أن المشاهد المؤشرة إلى الجنس ممنوعة في البلاد (كما كان الحال أيام الاتحاد السوفياتي)، ثم بعد ذلك منعت المسرحية من العرض. أما حكاية فامبيلوف فمختلفة، فهوجمت المسرحية لكون كاتبها روسي! وأتى تصريح اللجنة في تبريرها منع المسرحية بلغة صارمة وغاضبة، وعلى شكل أسئلة: "هل ينقصنا كاتب روسي؟ أليس هناك غيره كثيرون كتبوا مسرحيات؟".
لكن ما هي هذه اللجنة؟
تحاول السلطات إظهار نفسها مهتمة بنوعية المنتج الفني في البلاد. ففي تشرين الأول 2008، أنشأ الرئيس بيردي محمدوف "اللجنة الحكومية لتقييم مستوى الأعمال الفنية" المنبثقة عن رئاسة مجلس الوزراء. لكن أحداً لا يعرف أعضاء هذه اللجنة. وكل ما هو معروف أن هذه اللجنة برئاسة ماي مولايفا. ومنحت هذه اللجنة حقاً حصرياً بتقييم كافة الأعمال الفنية، ولها أن تمنح الإذن أو أن تحجب نشر أو عرض أي منتج تلفزيوني، مسرحي أو حتى إقامة المعارض الفنية والثقافية أو المشاركة فيها. ولمولايفا هذه من العمر ثمانون عاماً، ويُعرف عنها أنها تولت، بيد من حديد، في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي السكريتيريا المركزية الإيديولوجية لـ "الحزب الشيوعي في تركمانستان" وعملت على خنق حرية التعبير في كافة مظاهر الثقافة الوطنية والفنون. وأحكامها حتى اليوم بقساوة الصخر، وتنزل أحكام إعدام على معظم الأعمال المقدمة. وهكذا، عندما أراد "المسرح الوطني للدمى" تقديم عمل حول ميلانبيس (الشاعر والموسيقي التركماني الأول في القرن التاسع عشر)، رفضت مولايفا ذلك، وقالت معترضة: "كيف يمكن تقديم ميلانبيس عبر الدمى!".
وللأسف، يبدو أن كل من له منصب في الحكومة اليوم، معني بالقضاء على الثقافة التركمانية.
من نافلة القول، إن التركمان لديهم تقليد مسرحي قديم. ويكفي أن نذكر هنا "باشخي" – القصص الكلاسيكية الممثلة، والملاحم الشعرية الطويلة المؤداة. وهؤلاء الرواد المسرحيون لم يغنوا فحسب، بل مثلوا المسرح الصامت، والتعبيري والإيمائي؛ وانغمسوا في أعمال مسرحية مبهرة كانت لها آثار كبيرة، وهي واضحة حتى اليوم، على المشاهدين والمستمعين.
وكما ذكر المؤرخان بيلايف وأوسبينسكي، نقل مؤدو القصص الجمهور إلى مراتب أعلى في الوعي الثقافي. أعمال كثيرة كتلك ما تزال محفورة في ذاكرة الأمة، منها مسرحية "خطاب الموقوفين الضالين" لمسكربازوف، والتي نُظمت عروضها في الساحات العامة والأسواق.
وفي العصر السوفياتي، نمت المدرسة المسرحية الأوروبية (الروسية)، وأنتجت كوادر وطنيين رائعين، نظموا عروضاً قوية جداً. واعتبر نقاد ستينات القرن الماضي أنه من الصعب جداً العثور على مستوى راق في الفضاء المسرحي السوفياتي كالذي وصل إليه ألتي كارلييف. كارلييف هذا هو نفسه مؤسس الأستوديو السينمائي "تركمانفيلم".
وبلغ المسرح مرحلة متقدمة مع ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، عندما أنشأ "المسرح الشبابي الوطني التجريبي للدراما – دجان". فالمسرحيات الكبيرة كـ "السحلية"، "السيدة الخفية"، "امرأة في الرمل"، عرضت على الخشبات عبر البلاد وخارج حدودها بنجاح كبير. ما خول "دجان" الحصول على "جائزة الاتحاد السوفياتي" على مسرحيته المبنية على عمل للروائي أندريه بلاتونوف.
ولسوء الحظ، فشلت سنوات الاستقلال في ضمان استمرارية تطوير المسرح التركمانستاني. ففي السنوات الأولى للاستقلال حاول المخرج الشاب أولفياكولي خودجاكولييف (الذي بات معروفاً بخودجاكولي) تطوير "مسرح الشارع" التقليدي. لكن لم يُسمح له بذلك، فغادر إلى طشقند (عاصمة أوزبكستان المجاورة) حيث يعمل بنجاح كبير حتى اليوم. وخودجاكولي، كما صرّح غير مرة، كان ليعمل على أرضه بكل سرور، لكن لم يدع إلى تقديم عروضه في عشق أباد. ويوجد غيره كثيرون من المختصين الذين تلقوا علومهم وتدريباتهم في موسكو، من المخرجين والمنتجين والممثلين والكتاب... لكن لم يُدع أي منهم إلى العودة إلى أرض الوطن لتقديم ما لديه من أعمال.
وكيف ستدعى هذه الطاقات الكبيرة، وتحول دون ذلك وجوه بائسة كمايا كولييفا التسعينية، التي ذكرناها، والتي تشرف على كل صغيرة وكبيرة فيما يتعلق بالفنون... والتي أثار أداؤها المشوب بنزعة الوجاهة غضب المهنيين مع تدخلها في عملية إنتاج مسرحيات كـ "شاسنيم وغريب" و"ليلى والمجنون". ومن غير المحتمل أن تمنح موظفة حكومية مثلها كل هذه الصلاحيات، ويكون المقصد من وراء ذلك إعادة إحياء المسرح الأوبرالي في تركمانستان!
في المقابل نجد أصواتاً جديرة بالظهور على خشبة "مسرح البلشوي" في موسكو، ومثال ذلك أتاغيلدي غرياغدييف خريج "المعهد الموسيقي الموسكوفي"، هورت نزاروف، أتا عيلامانوف. ولا ننسى هنا ذكر المايسترو التركماني الشهير مراد أناماميدوف (الحائز على لقب "الفنان الشعبي الروسي")، والذي يعمل منذ خمسة عشر عاماً في مدينة ياروسلاف الروسية. ويعز عليه ألا يعمل على أرض وطن، فيما لو أعيد افتتاح مسرح الأوبرا، الذي أغلقه "تركمان باشي" السيئ الذكر بسماجة عام 1999.
ومن غرائب الأمور أن نجد اليوم دارين خاصين ناشطين للمسرح في عشق أباد، الأول "أفار" التركماني، والثاني "أرتيست" الروسي. لكنهما يعملان في ظل رقابة ذاتية صارمة. فخطوة واحدة خارج الطريق المرسومة لهما تعتبر أكثر من كافية لإلغاء الترخيص بالعمل.. والإقفال.
أما في ما يتعلق بأهم الفنون أي صناعة السينما.. فهي بكل بساطة غير موجودة. فالأوستديو السينمائي أغلقه كذلك "تركمان باشي".. وهاجر معظم السينمائيين التركمانستانيين إلى روسيا، ومن حالفهم الحظ منهم، حصلوا على عمل هناك. أما الذين بقوا في البلاد منهم فمشغولون بصناعة بعض الأفلام التليفزيونية "المجهولة الهوية"، ولا داعي للحديث عن قيمتها الفنية هنا. فيما تقوم السلطات بدعاية كبيرة لمهرجانات سينمائية ومسرحية! ويكتب في الصحف، على سبيل المثال، أن الفيلم التركمانستاني "دورة" حصل على الجائزة الكبرى في "مهرجان السينما"! ولا يذكر أحد شيئاً عن المؤلف، والسيناريو، والممثلين... ولا يظهر هذا الفيلم على شاشة التلفاز.
بشكل عام، ونتيجة للواقع السيئ لعقدين من الزمن فيما يتعلق بالمسرح والسينما، يبدو أنه قد تم إنتاج بعض تلك الأفلام التلفزيونية، لكن أي تطور لهذين المجالين الفنيين الثقافيين يبقى غير ملحوظ.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح


.. شارك فى فيلم عن الفروسية فى مصر حكايات الفارس أحمد السقا 1




.. ملتقى دولي في الجزاي?ر حول الموسيقى الكلاسيكية بعد تراجع مكا


.. فنانون مهاجرون يشيّدون جسورا للتواصل مع ثقافاتهم الا?صلية




.. ظافر العابدين يحتفل بعرض فيلمه ا?نف وثلاث عيون في مهرجان مال