الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من الذاكرة ، التوجه الى مدينة روسا ، الحلقة الثالثة

فائز الحيدر

2010 / 8 / 19
سيرة ذاتية


فنادق صوفيا في مركز المدينة وضواحيها تعج بالعشرات من رفاق الحزب ، نادرا" ما ترى فندق لا يسكنه عراقيون ، في الصباح يؤجر أحد الرفاق غرفة وعند الليل يسّكن معه أكثر من عشرة رفاق يتقاسمون أجرتها ويتوافدون على الفندق خلسة واحدا" بعد الآخر في ساعة متأخرة من الليل للنوم ، يفترشون الأرض ويغادرون الفندق في الصباح الباكر ، العديد من الرفاق وثّـق علاقات صداقة متينة مع العاملين في إدارة الفنادق وغالبيتهم من النساء ، وبعضهم من قدم الهدايا كي يسهلوا علينا مسألة الدخول والخروج من الفندق بدون مضايقات ، رفاق جدد يصلون وآخرين يغادرون يوميا" ولا نعرف وجهتم ولا يحق لأحد أن يسأل لأن الظرف الحالي يتطلب السرية التامة ، ونظرا" لهذا الظرف الأستثنائي فقد تم تشكيل عدة لجان لأستقبال الرفاق الجدد وتسهيل مهمة إسكانهم ومساعدتهم ولجان أخرى لحماية الفنادق التي يسكنونها .

عندما يطرق سمعنا سفر أحد الرفاق نقيم له حفلة توديع بسيطة ( على كد الحال ) ونقضي الليل في الأغاني الثورية والرقص بصوت عال مما يزيد من شكاوي نزلاء الفندق في الغرف المجاورة لدى الأدارة ، وبما إن غالبيتنا يعاني من شحة الأمكانيات المادية تجنبنا تناول الطعام في المطاعم والتي لا تتناسب مع دخولنا وما نملكه من نقود وتم تحويل الغرف التي نسكنها الى مطابخ لغرض الطبخ الجماعي بإستعمال الهيترات الكهربائية خلافا" لتعليمات الفندق مما كان يؤدي الى إنقطاع التيار الكهربائي في الفندق لعدة ساعات يوميا" .
في نفس الوقت إتفق الحزب مع الحكومة البلغارية على تسهيل تواجد وإقامة الشيوعيين العراقيين والذين يمرون بظروف صعبة ولغاية تجاوز المحنة هذه ، لذا قامت السلطات البغارية بتمديد الفيز المنتهية والتعامل معهم بالعملة البلغارية بدل الدولار خاصة في دفع أجور الفنادق والتي كانت تسبب لهم صعوبات مادية كبيرة .

مرت عدة أسابيع قبل أن يقوم الحزب بالأتفاق مع الحكومة البلغارية لأرسال رفاقه الذين وصل عددهم المئات والموزعين في فنادق صوفيا وغيرها من المدن وهم يمرون بظروف معاشية صعبة الى المدارس الحزبية في عدة مدن بلغارية بشكل مؤقت لغرض المحافظة عليهم وتهيأتهم للمرحلة المقبلة ، لذلك فقد تم توزيعهم على مدن روسا ، بلوفـدف ، وستارة زكورا وغيرها ، وكانت محطتي مدينة ( روسا ) الواقعة شمال بلغاريا ويفصلها عن جمهورية رومانيا نهر الدانوب .
في 12 / حزيران عام / 1979 وبعد رحلة بالقطار دامت عدة ساعات مع رفيقين آخرين وصلنا مدينة روسا في الساعة العاشرة ليلا" ، وفي صالة الأنتظار في المدرسة تقدم بعض الرفاق والرفيقات للترحيب بنا وكم كانت المفاجأة عندما رأيت الشهيدة ( عميدة عذبي حالوب ) أحلام (1) ، تتوسطهم مبتسمة كالعادة حيث سبقتني الى هذه المدينة ، كان اللقاء لا يوصف ، تحدثنا عن ذكريات الماضي والأهل والمحلة والأبطال الذين فارقناهم .

روسا مدينة جميلة وذات طبيعة ومناخ خلاب وشعب لا يوصف ، وهي خامس أكبر مدينة في بلغاريا ، يتجاوز عدد سكانها في ذلك الوقت المائة ألف نسمة ، وتقع في شمال بلغاريا على الضفة اليمنى لنهر الدانوب ، ومقابلة لمدينة جيورجيو الرومانية ، تبعد عن العاصمة صوفيا بمسافة 300 كم ، ويعتبر مينائها من أهم الموانئ البلغارية التجارية ، وقد أكدت التنقيبات الأثرية على إنها ذات تاريخ يمتد الى ألفي عام قبل الميلاد . تتعايش في روسا ومنذ قرون أقليات دينية متعددة منها ، البلغار ، الأتراك ، اليهود ، الأرمن ، الألمان ، الروس ، ألصرب ،التتر ، الأيطالين ، الأنكليز وغيرهم .

قضينا في روسا أكثر من خمسة شهور وكأنها خمسة أيام ولكن لم ننسى الوطن ولو للحظة واحدة ، كنا خلالها نتابع آخر التطورات على الساحة السياسية العراقية وأتذكر تلك الليلة ونحن نتابع أخبار الوطن ليلا" عندما أعلن الطاغية صدام عن إعدامه لرفاق الأمس من أعضاء القيادة القومية والقطرية بعد إتهامهم بالأشتراك بمؤامرة تستهدف قيادته في أوائل تموز / 1979 .

كانت حياتنا في روسا منظمة وتسير وفق برنامج مكثف ومدروس بشكل جيد وبمعدل ستة ساعات يوميا" ، ننهض يوميا" في الساعة السادسة صباحا" لممارسة النشاط الرياضي ولمدة ساعة كاملة ، نقضيها في الركض ولعب كرة السلة والطائرة في المجمع الرياضي التابع للمدرسة ، ولم تفد الأعذار التي كانت يقدمها البعض للتهرب من ساعة الرياضة بسبب برودة الجو أو لأسباب صحية ، يعقب تلك الساعة تناول الفطور ومن ثم التوجه الى الصف الدراسي ، كانت الدروس التي ندرسها يوميا" هي اللغة البلغارية ودروس أخرى مثل الإقتصاد السياسي ، المادية الديالكتيكية والمادية التاريخية ، تاريخ الحركة العمالية ، تاريخ الحزب الشيوعي البلغاري وهذه الدروس تحتاج إلى مترجمين عن اللغة البغارية التي نجهلها لذا فقد تم تعيّن أحد الرفاق ومن حملة شهادة الدكتوراه في الأقتصاد السياسي ليقوم بعملية الترجمة الفورية للمادة التي يقدمها الأساتذة البغار ، يليها فترة الغداء والعودة ثانية للدراسة ، ثم الوقت المفتوح الذي نستغله في المطالعة والدراسة الخاصة والأستعداد لأداء الأمتحانات الأسبوعية والشهرية أو التجول في المدينة والسير على كورنيش نهر الدانوب الجميل والجلوس في أحدى الكازينوات القريبة لشرب قدح من الشاي أو تناول المرطبات . وبين فترة وأخرى تتحول أحدى قاعات المدرسة وخاصة في عطلة نهاية الأسبوع الى مكان للغناء والرقص يشارك فيها البعض منا وخاصة الشباب مع الكثير من الشباب من الجنسين من خارج المدرسة . لقد كانت العلاقة بين جميع الرفاق جيدة ولم يحدث شئ يعكر الحياة طيلة فترة بقائنا في هذه المدينة .

أما مراسلاتنا مع الأهل فكانت متقطعة ومتباعدة بسبب الظروف الأمنية التي نمر بها ، وكانت الرسائل التي تصلنا ورغم قلتها عبر صندوق بريد متفق عليه في المدينة.
كانت إدارة المدرسة تقيم بين فترة وأخرى وفي مناسبات عديدة معارض فنية بعد أن توفر كافة المستلزمات لذلك ، كنت في مقدمة المساهمين في تلك المعارض الفنية لرسم البوسترات السياسية لعكس واقع الحال في الوطن في ظل النظام الدكتاتوري وحازت على إعجاب الزوار وحصلتُ على جوائز تقييمية عديدة . كما ونظمت أدارة المدرسة سفرات الى مدينة بلوفـدف ، وستارة زكورا ، وبعض المراكز السياحية للخروج من العزلة والوضع النفسي الذي نعيش فيه والأطلاع على الحياة في هذه المدن الجميلة التي يتواجد فيها رفاقنا العراقيين .

في تلك الفترة من نهاية السبعينات وفي تلك الظروف الصعبة وصلت طلائع الشيوعيين العراقيين الذين إضطروا لمغـادرة الوطـن من جراء سياسة القمع والإرهاب الدموي الذي مارسها النظام الدكتاتوري الى جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية ، وصلوها من دول عديدة بإعتبارها المكان الأفضل لإستقرارهم المؤقت ، وأستقبلوا بترحاب كبير ، وتم توفير السكن المؤقت لهم وتكفلت الدولة بإسكانهم وتحمل مصاريفهم ، ووفرت لهم كافة مسـتلزمات العيش الضرورية والخدمات الطبية والتعليمية وعلى مختلف مستوياتها ، ووفرت لهم الوظائف في دوائر الدولة المختلفة كما وتقاسم الشعب اليمني الخبـز والملح معهم ، وسكّن غالبيتهم في العاصمة عدن وفي منطقة التواهي وحي كريتـر والمنصورة وخور مكسر وغيرها أضافة إلى المدن اليمنية الأخرى . ولذلك أصبح من المشاهد اليومية أن ترى العراقيين على شاطئ ساحل أبين والساحل الذهبي والعروسة وشاطئ صيره ومنتزه نشوان وغيرها .

في بداية شهر تشرين الأول / إكتوبر / 1979 تمت مفاتحة كافة الرفاق لتحديد مستقبلهم وأعطيت لهم الفرصة لكي يحددوا الدول التي يرغبون الإستقرار فيها وما هي مشاريعهم المستقبلية ، قسم منهم فضل السفر إلى أحدى الدول الأشتراكية لغرض الدراسة على حسابه الخاص ، آخرين فضلوا التوجه الى الجزائر أو ليبيا لغرض الأستقرار والبحث عن فرص عمل ، بينما فضلت شخصيا" مع الكثيرين الأستقرار والعمل في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وذلك لوجود أولاد العم والكثير من المعارف والأصدقاء هناك والذين شجعوني من خلال مراسلتي معهم بالتوجه الى عدن ، بينما قرر بعض الرفاق التوجه الى كردستان مباشرة وعبر الأراضي السورية لغرض المشاركة في فصائل الأنصار ، بينما سافر البعض من الصحفيين والأدباء الى سوريا ولبنان لغرض العمل في الصحافة والأعلام الفلسطيني في دمشق وبيروت ومنهم من تدرب عسكريا" في معسكرات المنظمة في بيروت وإنتمى إلى أحدى التنظيمات الفلسطينية وشارك في القتال دفاعا" عن بيروت في فترة الحصار / 1980 وإستشهد بعضهم ببطولة خلال المعارك .

كان عدد الراغبين بالتوجه الى عدن من مدينة روسـا يزيد على العشرين رفيقا" ورفيقة كوجبة أولى من مدينة روسا فقط وهناك وجبات أخرى من مدن بلوفـدف وستارة زكورا وبلغ الجميع بالتهيأ للسفر . كانت جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية لغزاً للكثير منا قبل وصولنا اليها ، فالأخبار عنها كانت قليلة وخاصة الصادقة منها. لكونها كانت تتعرض لحملة أعلامية شعواء من غالبية الدول العربية لأنتهاجها الخط الماركسي في بناء الدولة .

لم تكن تتوفر لدينا أية معلومات أو تصور عن طبيعة الحياة ومستواها هناك ، ما هي ظروف السكن ؟ مدى إمكانية الحصول على فرص العمل أو الدراسة ؟ ما الذي نحتاجه لكي يتم شراءه من أسواق روسا قبل توجهنا الى هناك ؟ أسئلة كثيرة تطرح وعادة ما تأتي الأجابة عليها من قبل الرفاق في منظمة الحزب بأن كل شئ متوفر هناك ، ولكن ننصحكم بشراء ملابس ، شراشف للنوم ، ملابس داخلية ، صحون ، حاجات منزلية مختلفة وما تودودن شرائه . كانت هذه الأجوبة تثير أستغرابنا !!! ترى إلى أين نحن ذاهبين ؟ هل الى دولة كبقية الدول يمكن العيش بها أم إلى صحراء لا تتوفر فيها حتى الحاجات المنزلية البسيطة ، وهل يعقل إن دولة مثل اليمن تتخذ الخط الأشتراكي منهجا" لها في سياستها ، ويقود البلد حزب ثوري هو الحزب الأشتراكي اليمني لا تتوفر فيها مثل هذه الحاجات . إن ما توفر لدينا من معلومات كانت قليلة وغير كافة للأجابة على تسائلاتنا ولا يكفي لأخذ صورة واضحة ومتكاملة عن مستوى وطبيعة الحياة هناك ؟ وعلى أي حال قضينا عدة أيام نتجول في أسواق مدينة روسا نبحث عن ما يمكن شراءه من ملابس وشراشف نوم وحاجات منزلية وفق أمكانياتنا المادية والذي نعتقد إنه ظروري لحياتنا الجديدة هناك.

الهوامش
ــــــ
1 ـ الشهيدة أحلام ، عميدة عذبي حالوب ، من أنصار الحزب الشيوعي العراقي ، أستشهدت على يد قوات الأتحاد الوطني الكردستاني ( أوك ) في أحداث بشت آشان عام 1983
ـ صورة لمركز مدينة روسا البلغارية .

يتبع في الحلقة القادمة
كندا / 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. الأردن يحذر من تداعيات اقتحام إسرائيل لمدينة رفح


.. أمريكا تفتح تحقيقا مع شركة بوينغ بعد اتهامها بالتزوير




.. النشيد الوطني الفلسطيني مع إقامة أول صف تعليمي منذ بدء الحرب


.. بوتين يؤدي اليمين الدستورية ويؤكد أن الحوار مع الغرب ممكن في




.. لماذا| ما الأهداف العسكرية والسياسية التي يريد نتنياهو تحقيق