الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


آني جدّي قرد

جمال علي الحلاق

2010 / 8 / 20
سيرة ذاتية


كنت أقرأ في كتاب باللغة الإنجليزية عن نظرية النشوء والإرتقاء لداروين - والتي تقول بأنّ أقرب الكائنات الحيّة الى الإنسان هو القرد ، ولعلّ أصل الإنسان لا يكون بعيدا عن أحد أنواع القردة - عندما بادرني زميلي الباكستاني بانفعال ، وبثقة عمياء قائلاً : أنت بالتأكيد لا تؤمن بهذا .
قلت بهدوء : أنا بالتأكيد أؤمن بهذا .

استغرب الزميل الباكستاني من إجابتي ، وبدأ يتحدّث عن قصّة الخلق في الكتب المقدسة سواء أكانت في التوراة أو في القرآن ، وكيف أنّ الكائنات الحيّة وغير الحيّة إنخلقت بأمر من الله ، الذي قال لها : " كوني " فكانت .

قاطعت زميلي قائلا : لا علاقة لنظرية النشوء والإرتقاء بكلّ ذلك ، كما أنّ داروين لا يتحدّث في كتابه " أصل الأنواع " عن عملية الخلق الأولى ، الرجل لم يخض أيّ جدل عقيم كهذا ، بل أنّ كلّ ما فعله هو أنّه حاول أن يدرس بمنهج علمي تجريبي الكائنات الحيّة التي لا تزال على قيد الحياة ، تتكاثر ، وتواصل إنتاج أنواعها كجزء من إجراءات العملية الحياتية في الطبيعة ، الرجل بدأ من ما هو موجود ، ورأى – بفعل البحث - خيطاً يربط الكائنات الحيّة بعضها ببعض ، فقال بوجود الصلة بينها ، وشاهد أنّ عملية التغيير تتمّ تحت ظروف طبيعية معيّنة ، فقال بأنّ الكائنات الحيّة تتطوّر وفق آلية الإنتخاب الطبيعي .

منذ أن صدر كتاب داروين " أصل الأنواع " عام 1859 ، والعالم في حيص بيص إزاء الوقوف الى جانب النظرية ، أو الوقوف بالضدّ منها ، وقد كانت هناك جدالات عميقة ، ومواقف ساخنة لعلّ أبرزها موقف هكسلي صديق داروين عندما ردّ من على المنبر على رجل دين كان قد هزأ من فكرة أن يكون أصل الإنسان قردا ، قال هكسلي : " أفضّل أن أنتمي للقرد على أن أنتمي لرجل يتكلّم في ما لا يعرف " .

وبالتأكيد فإنّ العلماء لم يتوقّفوا عند الحدّ الذي قال به داروين ، بل راحوا يبحثون في أماكن وزوايا أخرى لم ينتبه لها داروين نفسه ، حتى كادت النظرية أن تتكامل ، ومع هذا فلا يزال هناك الكثير من الناس ، بل الأغلبية الساحقة على الأرض ، تعتقد أنّ الخلق تمّ وفق الآليات التي نصّت عليها الكتب المقدسة ، رغم أنّ داروين ذو الجذور المسيحية لم يكن يرى أيّ تقاطع بين نظريته والكتاب المقدّس ، بل أنّه كان يرى أنّ النظرية تجعل الإله أكثر منطقية .

قال زميلي الباكستاني ضاحكا : لكنّك بإيمانك هذا تقرّ بأنّ جدّك قرد .
قلت : ما علاقتي بجدي الذي عاش قبل العقل ، وقبل أن تنتصب القامة أيضا ، لماذا نأخذ الموضوع بمثل هذه الحساسيّة ، ثمّ أنّ النظرية أكثر عقلانية ، وأكثر موضوعية أيضا من مقولة " كن فيكون " ، بل أنّ البحوث العلمية الحديثة ، إضافة الى المتحجّرات التي يتمّ العثور عليها بشكل مستمر كلّها تقف الى جانب النظرية ، وتهزّ عرش الكتب المقدسة ، لقد كان جدّي البعيد قرداً ، وأعتقد أنّ الدرس المهم الذي أتعلّمه الآن هو ألا أستمر قردا .

ثمّ أنّني قصصت على زميلي الباكستاني قصّة جميل صدقي الزهاوي الشاعر الذي حاول دائما أن ينشر النظرية في العراق عبر الشعر مع بداية القرن العشرين ، فما كان إلا أن هاج الخطباء والرواديد وماجوا ضدّه ، كما لو أنّه جعلهم يتحسّسون بقايا الأذناب قرب مؤخراتهم ، لقد هاجوا وماجوا ضدّه ، الى درجة أنّهم كانوا يطالبون الحكومة والناس بقتل المارق الزنديق ، فلجأ الزهاوي الى المكوث في بيته المعروف في بغداد لا يخرج منه ، لم يكن هناك تيّار إجتماعي يمكن أن يتكيء عليه أو يحتمي به ، كان فرداً ثائراً على الخرافة والأسطورة التي تغلّف المجتمع من أدناه الى أقصاه ، ومن أسفله الى أعلاه ، كان رايةً لجهة لم تتشكّل بعد ، هكذا ، دخل بيته ، وأغلق على نفسه الباب ، يقرأ ويتأمّل ويدخّن ، ولعلّه كان يدخّن قلقاً أكثر مما يقرأ ويتأمّل ، فقد حدث أن نفد التبغ لديه ، فظلّ يحوم في بيته لا يجرؤ على الخروج بعد أن أهدر الرواديد دمه ، يقول ( ماسينون ) الباحث الفرنسي وصديق الزهاوي ، أنّ الأخير بقي في البيت الى أن غابت الشمس ، فتستّر بالظلام وبقطعة قماش ، وذهب الى اقرب محل عطارة ، واشترى كمية من التبغ تكفيه لمدّة إقامته الجبرية في البيت ، غير أنّ المفاجأة كانت بانتظار الزهاوي النحيل كفكرة لم تجد أُذُناً ، فقرب باب بيته تماما ، كان ثمّة ( خوشي ) ضخم الجثّة ، مُسْتَفَز العضلات ، ينتظر عودة الزهاوي ، وأعتقد أن بعض الناس رآه يخرج فأبلغ الخوشي ، أو لعلّهم أبلغوا الخوشي بأنّ الزهاوي يقول أنّ جدّك قرد ، سكتت الرواية عن ذلك ، المهم أنّ الخوشي كان ينتظر الزهاوي عند الباب ، فلمّا وصل الأخير متستّرا بالليل والثياب ، وأظنّه رآى الخوشي وحاول أن يتجاهله ، فما كان إلا أن أمسكه الخوشي من ياقته ورفعه عاليا ، وهو يصيح : ولك آني جدي قرد .
فما كان من الزهاوي إلا أن بادر بالقول : " لا عمّي إنت سيّد ، جدّك رسول الله ، آني جدّي قرد " .

لقد كان الزهاوي بيد الخوشي عصفورا صغيرا عالقاً بمخالب نسر ، كان بإمكان الخوشي أن يقتله بسهولة دون أن يتعرّض لإدانة من قبل المجتمع ، أو محاكمة من قبل الدولة الفتيّة آنذاك ، على العكس تماما ، كانت ستخرج الناس من التكايا والمساجد والكنائس لتحمله على الأكتاف كبطل شعبي ، حمى الدين والجدّ البعيد من العار والدنس ، غير أنّ ما حصل كان نقيض ذلك ، لقد استطاع الزهاوي / العصفور الرقيق بعقله البديهي أن ينتصر على مخالب النسر ، لقد إستخدم الزهاوي إحدى آليات الإنتخاب الطبيعي في النشوء والإرتقاء ، فحافظ على بقائه حيّاً ، إحتال على عقل الخوشي أو عقل الخطباء والرواديد فتخلّص من الموت قتلا ، وبذلك جسّد عبر تجربته هذه أنّ الإنتخاب الطبيعي قائم ، وأنّ الكائنات قابلة للتطوّر ، محتفظاً برأيه : " آني جدّي قرد " ، ليكون بذلك بذرة ستتحوّل يوما ما – في حالة توفّر المناخ الملائم - الى شجرة ، والقضيّة هنا ليست في أن أصل الإنسان قرداً أم لا ، القضيّة تكمن في مستوى وزاوية التفكير ، في اتّجاه السؤال ، وعلى أيّ درجة من سلّم الوعي البشري المتنامي يقف الإنسان المتسائل ؟
فالقول بتطوّر الكائنات لا يثبت ولا يلغي القول بوجود إله ، على العكس تماما ، إنّها محاولة في منح المنطقية والعقلانية لوجود الكون ككلّ ، فعندما يكون الكون خاضعاً لقوانين وبرامج تتحرّك وفق آليات معيّنة ، وهذه الآليات نفسها في حالة تطوّر مستمر ، فإنّ ذلك يشير صراحة الى خلو الكون والحياة من منطق السحر والكهانة .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اكيد العلم سينتصر
فواز محمد ( 2010 / 8 / 20 - 19:58 )
عزيزي الكاتب فعلا مقال جميل ولكن الغريب ان جميع الاديان تهاجم العلماء عندما يقدمون على خطوة علمية تستحق المتابعة والتطوير مثل نظرية دارون والاغرب ان المسلمين ادعوا ان دارون وضع نظريته فقط لمحاربة الاسلام علما انه مسيحي وربما لايعرف شيئا عن الاسلام وهذ يذكرنا بمحاكم الكنيسة للعلماء الم يضطهد العلماء الذين اكتشفوا ان الارض كروية وانها تدور حول نفسها وحول الشمس الم يكفر علماء المسلمين كل من يتبنى ذلك وحتى الى وقت قريب ولكن مع تقدم العلم لزموا الصمت جميعا بل حاولوا ان يعطوا تفسير عامي لكلمة والارض دحها اي دورها علما ان معناها بالقواميس اي بسطها


2 - التفكير
مازن فيصل البلداوي ( 2010 / 8 / 20 - 21:59 )
الأخ علي المحترم
تحية طيبة

هذه السطور من مقالك

القضيّة تكمن في مستوى وزاوية التفكير ، في اتّجاه السؤال ، وعلى أيّ درجة من سلّم الوعي البشري المتنامي يقف الإنسان المتسائل ؟

لو استطاع الناس ان يفهموا بساطة الصياغة وعمق المعنى لكنّا في مقدمة المجتمعات،ولكن هذا الفهم سيقف عائقا امام سلطة الخوشية وسيقف تدفق الأموال عليهم،لذا فهم لايريدون التفكير.

تحياتي


3 - تحية الى الكاتب الحلاق
عيسى إبراهيم كردستان سوريا ( 2010 / 8 / 21 - 08:10 )
تحية الى السيد الحلاق والذي يثبت ويؤكد لنا بانه وامثاله من الكتاب والمفكرين بان هذا الشرق له بصيص الامل للابتعاد عن الترهات والاباطيل....
نعم ان نظرية داروين تتبع طريق العلم والبحث عن الحقيقة واما في الاديان تعتمد على الخرافة والخيال البعيد عن المنطق وطبيعة الكون والحياة...
واخيرا استشهد بالمثل القائل من تنكر لاصله فلا اصل له...فلذلك ترى بان الذي يؤمن بخرافة ادم وحواء ،ما هو الا ناكرا لاصله ......
واخيرا ما العيب وان كان هذا العيب حقيقة.....؟نعم وانا ايضا جدي قرد....
واجدادكم قردة ...فان رفضتم وان قبلتم فهذا لا يغير شئ من الحقيقة...
والشكر للاستاذ الحلاق على هذا المقال..


4 - تحية طيبة وبعد
سام من كوردستان ( 2010 / 8 / 22 - 10:17 )
لقد عرفت نظرية داروين وانتشرت في جميع بقاع الارض بغض النظر على انها -نظرية- تفتقر الى الدلائل والبراهين القاطعة لصحته . ومع ان نظرية الوجود الذاتي (كظهور يرقات الديدان على اللحوم المتفسخة) قد دحضت واثبتت علميا بان لا شيء يخلق من نفسه فكيف تكونت القردة قبل الانسان وماذا كان من قبل القردة و ماذا كان قبل ذلك سنرى بان نظرية داروين تبني الانسان من لاشيء ...


5 - الخلق و التطور
حسن صالح ( 2010 / 8 / 22 - 13:28 )
حراس المعبد يعرفون جيداً أن القول بتطور الكائنات الحية و الإنسان يعارض قولة الدين في الخلق في أن الإله خلق آدم و حواء على صورته كاملين مكملين. إلههم إذا وضعنا قصص الدين ضمن خانة الأساطير البشرية، و ليس كلام الخالق الجبار الذي يقول -كن فيكون.- كما أننا لا ننسى أن نظرية داروين هي إحدى أسس معظم، إن لم نقل كافة، التوجهات العلمانية و الإلحادية في العصر الحديث، مما ترفض السرد الديني و أساطيره و تضعه في خانة الغير علمي. لذلك فإن الأمر يتجاوز، قليلاً أو كثيراً، مسألة مستوى و زاوية التفكير أو إتجاه السؤال أو درجة الوعي

اخر الافلام

.. فيديو يُظهر ما فعلته الشرطة الأمريكية لفض اعتصام مؤيد للفلسط


.. النازحون يعبرون عن آمالهم بنجاح جهود وقف إطلاق النار كي يتسن




.. مسؤول عربي لسكاي نيوز عربية: نتنياهو ولأسبابه السياسية الخاص


.. ما آخر التطورات وتداعيات القصف الإسرائيلي على المنطقة الوسطى




.. ثالث أكبر جالية أجنبية في ألمانيا.. السوريون هم الأسرع في ال