الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


هل يمكن أن نرسم أكثر من خطّين مستقيمين بين نقطتين...؟!

باهي صالح

2010 / 8 / 20
العولمة وتطورات العالم المعاصر


يرجع الفضل كلّه إلى الطّبيعة بما حوته من كائنات مختلفة و مظاهر مناخية و جيولوجيّة...يرجع الفضل كلّه إليها في ذلك المخزون الثريّ من التّجارب و الأفكار الّتي مكّنت الإنسان من السموّ بإبداعاته و منجزاته الّتي تفوّق بها على أغلب المخلوقات الأخرى، وهو في كلّ مسيرته الّتاريخيّة ظلّ يقتبس و يأخذ منها و يحاكيها، تارة يعترف لها و تارة يجحد فضلها، و في نفس الوقت ظلّ يتعلّم منها كيف يحمي نفسه منها و من بني جنسه و من بقيّة مخلوقاتها الّتي تنافسه على العيش في هذا الكوكب و كيف يقف في وجه جبروتها و قوّتها الطّاغية حتّى غدا يضاهيها و يتشبّه بها في كثير من إبداعاته و إنجازاته الحضاريّة المبهرة...!

و لكن نقلة الإنسان في التطوّر و السّمو بنفسه و حياته لا زالت لم تتجاوز بعد مرحلتها الأولى ما دام هذه الإنسان لم يتخلّص بعد من عقدة محاكاة الطّبيعة و الأخذ منها و ليس هذا نقيصة أو عيبا و إنّما الّذي أعنيه أن يدخل هذا الإنسان مرحلة جديدة يبدأ فيها بالتخلّص أو التحرّر شيئا فشيئا من عبوديّة الطّبيعة و سيطرة كوكبه الأرضي...!

صحيح أنّ للطّبيعة مخزون هائل يتضمّن صيغا إبداعيّة و فكريّة لا نهائيّة منها الجاهزة و منها الخافية أو المموّهة، مخزون لا يمكن أن ينضب و يستطيع الإنسان أن ينهل و يقتبس منه و يتعلّم و يأخذ ما شاء إلى آلاف السّنين و يضيف إلى مسيرته في التقدّم و السموّ و القدرة على التحكّم و السّيطرة، لولا أنّ اعتماده عليها مائة بالمائة سيجعله دائما و أبدا منقادا لها و لإملاءاتها مكبّلا لإملاءاتها، و سيبقيه شاء أم أبى رهينة أبديّة لاحتياجاته الأرضيّة المحدودة و ستظلّ تعيقه و تمنعه من التحرّر و الانطلاق خلال مجاهل الأبعاد و مسارب الكون الخفيّة...

إنّها عادة ارتهن لها الإنسان و كان و لا زال إلى حدّ كبير في حاجة ماسّة إليها و لكن حان الوقت في رأيي لخلق عادة ثانية ليس لقتل العادة الأولى، و إنّما لموازنتها و توسيع هوامش التّفكير و الإدراك البشري، و من ثمّة رفع درجة الطّموح و الآمال في القوّة و الحرّية و إثبات الوجود و مقاومة الفناء، و بالنّتيجة التخلّص شيئا فشيئا من الاعتماد الكلّي على الإيديولوجيات القديمة و الأديان الّتي تعتمد بدورها على قوى فوقيّة افتراضيّة ما ورائيّة لم يقم دليل علميّ أو موضوعيّ واحد صريح على وجودها أو على قدرتها على التدخّل و التّاثير في حياة البشر...!

منذ فجر التّاريخ لا زال الإنسان يواجه تحدّيات كبرى ما فتئت تشعره بضعفه و ضآلته و انعدام حيلته و بقابليتنه العالية للمهالك إزاء الكون و قوّة الطّبيعة الجبّارة، حتّى اهتدى عبر الزّمن و ممارسة خبرة الحياة و الرّغبة في البقاء إلى حيلة كبرى أساسها التعلّم و التّقليد و الاقتباس أو النّظر إلى الطّبيعة و الكون مباشرة و محاكاة مظاهرهما أو تقفّي آثارهما عليه و على الكائنات و كوكب الأرض و بدأ يأخذ افكارها و ابداعاتها الّتي راح يبني عليها منجزاته الفكريّة و الحضاريّة المختلفة....

على البشريّة أن تخطو خطوة أخرى...على البشريّة أن تدخل مرحلة تعطي فيها فرصة تساوي أو تكافئ قوّة الذات الإنسانيّة أو بالأحرى تساوي قوّة العقل و مجاهيل قدراته...!

نضرب مثالا عن النّقلة المرحليّة للتّفكير البشري/

توصّل الإنسان إلى تطوير و تكييف عمليّة تنقّله في المكان عندما اهتدى إلى فكرة صناعة السّيارة و الطّائرة و القطار لتصبح (عمليّة تنقّله) أسرع و أكثر راحة بكثير بعد أن ظلّ معتمدا لآلاف السّنين على قدميه أو بعض الحيوانات الّتي استطاع ترويضها مثل الحمار و الحصان..حرّك الإنسان في العصر الحديث السّيارة و الّطائرة و القطار بمحرّكات لا زالت تستخدم نفس مبدأ الاحتراق في تدويرها، أي تحويل الطّاقة الحراريّة إلى طاقة حركيّة، أي أنّ محرّك السّيارة الحديثة لا زال يدوّره نفس المبدأ الّذي صُنعت به أوّل سيّارة فى فرنسا سنة 1770 منذ حوالي 240 سنة، و كانت سيّارة بثلاثة عجلات من الخشب و لها غلاّية كبيرة ثقيلة من الحديد موضوعة فى أوّل السّيارة وكانت تسير بقوة بخار الماء وسرعتها أقلّ من سرعة مشى الإنسان العادى ..المبدأ في تحريك السّيارة الأولى لا زال نفسه لم يتبدّل و هو المطبّق حاليا رغم ما أُدخل على السّيارة الحديثة من تطوير و تحديث جعلها أسرع و أريح بكثير...محرّك مبدأه الكبّاس الّذي يضغطه البخار الحارّ أو الغاز موصول بذراع التّدوير..هذه الفكرة البسيطة و العبقريّة لا زالت هي السّائدة والأساسيّة في محرّكات السّيارات اليوم رغم كما قلنا كلّ ما أدخل عليها من تجديد و تعديل لا يغيّر أساس الفكرة نفسها و إنّما يُعزّز و يزيد من كفائتها لا أكثر و لا أقلّ...

و كلّ المحرّكات الأخرى الّتي يُعتمد عليها في التّحريك أو توليد الّطاقة منها النّفاثة و التّوربينيّة كلّها محرّكات حرارية أساس عملها تحويل الحرارة كما أشرنا سابقا إلى حركة و لا تختلف عنها إلاّ فكرة المحرّكات الكهربائيّة و هي فكرة قديمة تعود تقريبا إلى بداية القرن التاسع عشر عندما اكتشف الفيزيائي الدنماركي هانز كريستيان أورستد أن السّلك الذي يمرّ فيه تيّار كهربائي يولّد حوله مجالا مغنطيسيًا، و يرجع الفضل في عام 1831م إلى الكيميائي الفيزيائي الإنجليزي مايكل فارادي في إحدى تجاربه الّتي قام فيها بتدوير قرص نحاسي بين قطبين مغنطيسيين على هيئة حدوة حصان، وعملت هذه المعدّات مولدًا بسيطًا، حيث ولّدت جهداً كهربائياً بين المركز وحافّة القرص النّحاسي، ثم عرَّض فارادي مركز القرص وحافته لجهد كهربائي عندما كان القرص في حالة السّكون، فبدأ القرص في الدَّوران، وكانت هذه الآلة البسيطة أوّل محرّك كهربائي، و رغم أنّها كانت غير ذي فائدة تُذكر إلاّ أنّ فارادي كان قد أسّس بها المبدأ الأساس الّذي تقوم عليه كلّ المحرّكات الكهربائيّة بمختلف أحجامها و أنواعها الّتي نعرفها و الّّتي يعتمد عليها عيشنا اليوم...مبدأ المحرّكات الكهربائيّة الّذي اكتشفه فاراداي كما قلنا يقوم على توصيل الكهرباء إلى طرفي احتكاك للفافة سلك نحاسي داخل مجال ممغنط فتدوراللّفافة، أي تحويل الطّاقة الكهربائيّة إلى طاقة حركيّة و في الوقت نفسه يمكن أيضا الاستفادة من الفكرة نفسها و تحويل الطّاقة الحركيّة إلى طاقة كهربائيّة بتدوير اللّفافة بأيّ وسيلة و إنتاج الكهرباء، و أكبر استفادة من هذا المبدأ استخدامه في توليد الطّاقة الكهرائيّة بتدوير المولّدات الكهربائيّة بالغاز و بمشتقّات النّفط و حتّى عن طريق الرّياح و كلّنا يدرك اليوم أنّنا لا يمكن نستغني أونعيش في مدن أو قرى أو حتّى في أرياف دون كهرباء...!

كلّ الكهرباء الّتي نتمتّع بها اليوم جاءت بها تجربة فاراداي و لا زالت فكرته هي الأساس و القلب النّابض للمحرّك الكهربائي من جهة، و لتوليد الطّاقة الكهربائيّة من جهة أخرى رغم ما أضيف لها من تعديلات هندسيّة و فنّية تخصّ الفعّاليّة و الكفاءة...!

الحقيقة أنّ الأفكار الأساسيّة للحضارة البشريّة المعاصرة لم تتغيّر في جوهرها كثيرا خاصّة من ناحية المبدأ كما ذكرنا في المحرّكات الحراريّة و الكهربائيّة و كلّ ذلك لا يتعدّى كونه مضاهاة لمظاهر الطّبيعة نفسها، طبعا لا شكّ أنّه لا زال في جعبة الطّبيعة الشّيء الكّثير الّذي يمكن للإنسان مضاهاته أو محاكاته و التّعلم منه مثل أن يتنبّه إلى أسرار طاقويّة أخرى أسهل و أكثر فاعليّة في شمسه أو كوكبه الأرض و ربّما قد تُحلّ مشكلة الطّاقة عنده إلى الأبد حتّى تصبح مثل الأكسجين الّذي يتنفّسه بلا جهد و بلا مقابل، في غضون مائتي سنة أو أكثر قد يحرّر الإنسان مركباته من تأثير الجاذبيّة و يتمكّن من تحريكها بسرعة و كفاءة أكثر بقوّة تنافر الجاذبيّة نفسها مع قلب الأرض المغناطيسي أو إشعاع الشّمس الأيوني و حينها سيغصّ سماء و فضاء الأرض وحتّى الكواكب القريبة بحركة مركبات لا يحدّ أو يعيق قدرتها على التنقّل جاذبيّة أو عدم كفاية الوقود...إلخ

الّذي أعنيه أنّ الإنسان لا زال رهينة مبادئ و مسلّمات نظريّة و فكريّة أخذها من وسطه الطّبيعي الأرضي و جعل منها دعائم أساسيّة تقوم عليها حضارته المادّية، و للاستدلال على هذا القول أذكر المسلّمة أو البديهيّة الهندسيّة التّالية/ أنّه لا يمكننا رسم أكثر من من خطّ مستقيم بين نقطتين..لماذا...؟!

لا شكّ أنّ هذه المسلّمة لا زالت صحيحة و لا زالت تُؤتي أُكلها في علم الهندسة و الانجازات الّتي أبدعها بنو البشر...و لكن أليست المسلّمة صحيحة بقدر بقائنا عبيدا لتفكير مرهون منذ الأزل لنمطيّة الكون المنظور...!

أنا أقول أنّه يمكننا أن نرسم أكثر من خطّ مستقيم بين نقطتين بل يمكننا أن نرسم لا نهائي من الخطوط المستقيمة بين نقطتين نظريّا على الأقلّ أمّا عمليّا فبإمكاننا فعل ذلك إلى حدّ ما إذا طوّرنا مفهوم النّقطة و الخطّ المستقيم و أخذنا في الحسبان حجم النّقطتين و سمك الخطوط....

نقطة رأس القلم هي نقطة و لكنّها أيضا كون كامل بما تحويه من ذرّات و أبعاد وطاقة، و كوكب الأرض نقطة، و الشّمس نقطة، و الكواكب الأخرى و النّجوم في هذا الكون الشّاسع المترامي الأطراف نقاط، و الكون نفسه في نهاية الأمر نقطة، حتّى الذرّة فيمكن اعتبارها نقطة غير مرئيّة و لكنّها في نفس الوقت بأبعاد و ضخامة الكون...

و الخطّ المستقيم أيضا نقطة أو مجموعة من النّقاط، و هو مفهوم يجانب و يبتعد كلّيا عن حقيقة و طبائع الأشياء و المادّة بصفة عامّة، و هذا المفهوم لا ينشأ و لا يتحقّق إلاّ في عقل الإنسان بغرض الفهم و الإدراك لا غير...!

الإنسان في حاجة ماسّة اليوم أن يتحرّر من الطّبيعة و من رتابة التّفكير، إنّ فكرة تنقّل الإنسان مثلا في وسطه الأرضي أو حتّى بين الكواكب، و فكرة الوسائل الّتي صنعها لكي يسرّع و يكيّف أكثر حركته كالسّيارة و الطّائرة كلّها تقوم على أساسيات و أفكار قديمة و مبادئ أوّليّة ارتهن الإنسان لها و لا زال يفكّر في إطار وحيها و تفرّعاتها...!

نحن نرنو إلى ذلك اليوم الّذي يُحدث فيه الإنسان ثورة حقيقيّة في مفاهيمه و طرق إدراكه و فهمه و رؤيته إلى الأرض و الكون، لكنّ الأهمّ أن يحدث ثورة في الوعي بذاته و إصرارا أكثر على الغوص أعمق فأعمق داخل عقله و قدراته الذّاتيّة بعيدا أحيانا عن تأثير و تدخّل بيئته و طبيعته الأرضيّة...!

فهل يمكن للإنسان طبقا لأيّ ثورة يحدثها في فهمه و تفكيره أن يغيّر مثلا الفكرة النّمطيّة الرّتيبة لتنقّله في المكان الّذي لا يمكن فصله حاليّا عن قانوني السّرعة و المسافة...؟!

أنا أقول أنّه يمكن ذلك لو ثار على رتابة التّفكير و الفهم الّتي تعتمد كلّيا كما قلنا على الطّبيعة و مظاهرها المختلفة...لكن كيف...؟!

للحديث بقيّة...








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - سيدي باهي نسيت ان تذكر علماء
سعد الشرؤكي ( 2010 / 8 / 20 - 20:49 )
الجزيرة العربية الذين لا يفارقون كتاباتك علما بانك ذكرت علماء الانكليز والفرنسيين والدنمارك وكلهم كفرة.اول مرة اقرا لك مقالة علمية اكيد لها تكملة عموما كانت ممتعة وذكرتني بايام الاعدادية والذراسة في المختبر وخاصة تجربة ارستيد.


2 - ان تدخل الفيل بثقب ابرة
تي خوري ( 2010 / 8 / 20 - 21:44 )
استاذ باهي شكرا على جهودك بهذا المقال!! ولكن عن اي انسان انت تتكلم بخاتمتك؟؟ هل انت تخاطب اكثر من مليار مسلم او تخاطب 300 مليون عربي امي, وشبه امي, ما زالوا يؤمنون ببول البعير وان الاسلام صالح لكل زمان ومكان , بان يتحرّر من الطّبيعة و من رتابة التّفكير وان يُحدث فيه الإنسان ثورة حقيقيّة في مفاهيمه و طرق إدراكه و فهمه و رؤيته إلى الأرض و الكون، و أن يحدث ثورة في الوعي بذاته و إصرارا أكثر على الغوص أعمق فأعمق داخل عقله و قدراته الذّاتيّة بعيدا أحيانا عن تأثير و تدخّل بيئته و طبيعته الأرضيّة...؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ اذا كنت تقصد هذا الانسان, فانا اقول لك من الاهون عليك ان تدخل الفيل بثقب ابرة, من هذا الانسان الذي نطلب منه ان فقط ان يققتنع بالعلمانية ويفصل الدين عن الدولة؟؟ فيرد عليك بانك خائن وعميل للغرب وانت تحارب الاسلام!!!

تحياتي للجميع

اخر الافلام

.. ما هي الأسباب التي تؤدي إلى الإصابة بالتوحد؟ • فرانس 24


.. مدير مكتب الجزيرة في غزة وائل الدحدوح: هناك تعمد باستهدافي و




.. الشرطة الفرنسية تدخل جامعة -سيانس بو- بباريس لفض اعتصام مؤيد


.. موت أسيرين فلسطينيين اثنين في سجون إسرائيل أحدهما طبيب بارز




.. رغم نفي إسرائيل.. خبير أسلحة يبت رأيه بنوع الذخيرة المستخدمة