الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


وجبة غذاء في احد مقرات الأنصار

تقي الوزان

2010 / 8 / 20
سيرة ذاتية


في ريف كردستان يسمى كل من له علاقة بالصحة دكتور , من حارس المستشفى حتى طبيب الاختصاص, ودكتور شاكر كان يعمل موظف صحي في إحدى مستشفيات بغداد , و بالكاد كان يعرف زرق الابر , إلا انه اكتسب خبرة طبية عملية في كردستان . وجهه اقرب للاستطالة , لونه حنطي لامع ويعتني ببشرته , كان يرغب أن يطيل لحيته مثل بعض الأنصار , إلا أن نعومة شعر وجهه تمنعه من ذلك , كان وسيما وأنيقا , ويحب دائما أن يظهر خصلات من شعره الأسود السبل من تحت الجمداني , لباس الرأس الكردي . ورغم تجاوزه الثلاثين , الا انه يبدو اصغر بكثير . نودي عليه بعجلة عندما كان يغسل وجهه بعد نهوضه صباحا , لمعالجة حالة طارئة , حيث احترقت كفي " سرجل " خفر الخدمة الرفاقية , وهو يجهز الفطور .

كنا في " كرجال " مقر قاطع سليمانية وكركوك لأنصار الحزب الشيوعي , والمقر يقع في قطع صخري حاد وعميق خلف شلال مصيف احمد آوه , وهي آخر منطقة عراقية على امتداد الطريق النازل إلى قضاء مريوان الإيراني ,والمقر عصي على قطعات الجيش العراقي ومدفعيته , ولا يسقط في الوادي إلا قذائف المدفعية التي تقصّر في مداها, عندما يتبادل العراقيون والإيرانيون القصف المدفعي وقت اشتداد الهجمات بين الطرفين . كان الفطور ذلك اليوم دسما , بعد أن اقنعوا الإداري علي عرب ليصرف لهم مواد الخبز المقلي بالدهن ويرش عليه بعض السكر . وبعد أن أكمل " سرجل " إنجاز عدة أرغفة من الخبز , تشتت ذهنه , وبدل أن يمسك العجينة من طرفيها ويتركها تنساب في الزيت , انزل كفيه التي تحمل العجينة المفتوحة في الزيت المغلي , وانشده الجميع لصرخته التي طغت على كل شئ . أخذه الدكتور شاكر إلى غرفة المستشفى لعلاجه , واستمر الرفيق أبو عناد الذي كان يساعده في إنجاز الباقي من الأرغفة .

أبو عناد أصبح آمر مفرزة متحركة في الفترة الأخيرة , وهي مفرزة جاهزة لتقديم الإسناد عند طلب المساعدة من قبل السرايا والأفواج من مقر القاطع . كان ابو عناد في طبعه لا يعرف السكون , كان يشعر إن سبب وجوده في الحياة هو مواصلة العمل , وبكل أشكاله , وفي فترات راحته كان يلتهم الكتب الموجودة في مكتبة القاطع , ويشارك بنشاطات ثقافية منها العمل في مسرحيتين , وبسبب تدفق الطاقة عنده , اتهمه البعض ان وراء هذا النشاط رغبة في الحصول على صفة حزبية أعلى .

لم نأخذ المبادئ الشيوعية فقط , والتي تعني الانتصار للفقراء , بل أخذنا بتقاليد وأساليب بناء الأحزاب الشيوعية , وكانت القيادة لمنظري أحزاب دول المنظومة الاشتراكية التي تقود السلطة في بلدانها , وبالذات الاتحاد السوفيتي , وما رافق هذه السلطة من تطور في أساليب العمل البيروقراطي الذي أدى إلى انهيارها , وكان احد تجليات هذه التقاليد تقديس الصفة الحزبية . وبدل أن يكون منح الصفة الحزبية نتيجة لحاجة هيكلية الحزب وإمكانيات الرفيق , أصبحت تمنح كدرجة وظيفية , ورفعها عن الرفيق عقوبة توازي في أكثر الأحيان عقوبة الطرد , وخلق هذا مجموعة من العاطلين المتموضعين في هذه الصفات الوظيفية . ورغم اعتماد الحزب ومنذ مؤتمره الخامس على تنشيط الديمقراطية , واعتماد الانتخابات الحزبية كأساس في تحديد الصفة الحزبية , إلا ان آثار أساليب العمل السابقة وما تركته من ترسبات , أعاقة الكثير من التطوير الذي كان يعوّل عليه للنهوض بعمل الحزب , ولا تزال القدسية للصفة الحزبية هي الأهم لدى البعض, ويستمدون منها توازن وجودهم . إلا ان أبو عناد وعند اشتداد المواجهات مع قوات النظام , واستبساله في كل المعارك التي شارك فيها بدد هذه التقولات التي أرادت الانتقاص من نقائه , وبقى هذا النقاء ليس في ذاكرة رفاقه فقط , بل وفي ذاكرة الرفاق في البارتي والاشتراكي الذين شاركوه هذه المعارك .

ابو عناد يمتلك روح النكتة , وعلاقته جيدة بالجميع , اقنع صديقه إداري الموقع علي عرب , بأنه صاحب موهبة شعرية. وعلي عرب من ديالى خريج ثانوية الزراعة , ويعمل في احد الدوائر الزراعية في المحافظة , القي القبض عليه عام 1980, وبعد تعذيب بشع اجبر على توقيع التعهد سئ الصيت بعدم العمل مع الحزب الشيوعي . كان حريصا في إدارته للمواد التموينية لدرجة تقارب البخل , كان يعطي الأرزاق المخصصة لذلك اليوم للرفيق الخفر مع تجهيزات الفطور , لكي لا يطلب الرفيق أكثر عند قدوم مفرزة أو ضيوف آخرين , ويأكل الضيوف من الحصة المخصصة لرفاق المقر , ودائما عنده زيادة في الأرزاق . اقترح عليه أبو عناد أن يسلم حبات الفاصوليا المخصصة لكل رفيق بالعدد , بعد أن يحسب عددها في علبة المعجون المخصصة لكل خمسة رفاق , منعا لحدوث زيادة لا سامح الله بين علبة وأخرى , وأضاف دكتور شاكر : ونمشيه على الحمص والعدس إذا ضبط الحساب. لا احد يتضايق من ( حرص ) علي, بعد أن شاهدوه كيف اخذ ينشج كالطفل عندما أعيدت له عضوية الحزب . وعلى اثر الجريمة التي ارتكبها الاتحاد الوطني بحق الشيوعيين في بشتاشان , وظهور جلال الطالباني مع صدام سوية , انتفضت شاعرية علي , فكتب قصيدة فيها كل بحور الدنيا ومحيطاتها إلا بحور الشعر , ولم اعد أتذكر إلا مطلعها الذي يقول فيه : " والتقى الكبشان .... صدام وجلال " , ولحنها أبو عناد بحرفية لا تقل عن حرفية نظم علي , وأقنعه بإلقائها في كل الاحتفالات الوطنية .

عاد دكتور شاكر الذي يخلف سرجل في الخفارة لاستلام المطبخ من أبو عناد . كان شاكر حتى في خفارته منظما , نظيفا , يضع الأشياء في مكانها , وكان يحب الصور الفوتوغرافية أيضا . استعار من احد الأصدقاء في قرية احمد آوه القريبة كامرة صور فيها بعض أللقطات , ونتيجة اعتزازه بحياة البيشمركَة أراد أن يوثقها بأخذ عدة صور مع البغل , وطلب من الرفيق مسئول الإعلام في القاطع أن يستخدم خبرته في اختيار أللقطات وزوايا التصوير, وبعد اخذ عدة صور , فوق البغل , وبجانبه , وكيف يشد الحمل عليه , أو يعلفه . أرسل الفيلم إلى إيران لغسله وطبعه , وعادت الصور بعد عدة أسابيع , ولم يكن دكتور شاكر في الصور , بل البغل وحده .

طلب شاكر من سرجل الذي لف كفيه أن يذهب إلى قاعة الفصيل ليرتاح , ولكن سرجل فضل البقاء في المطبخ , ورغم آلام كفيه اعتذر لشاكر الذي كلف بالخفارة قبل يومه . سرجل حساس ورقيق , ولا يعرف أن يضمر أو يسئ , ترك دراسته الجامعية في بغداد اثر الهجمة على الشيوعيين عام 1979 , وعاد إلى مدينته خانقين , وبعد عودته بثلاثة أيام اضطر للاختباء في غرفة صغيرة لعدة اشهر , وهذه الفترة الطويلة ولدت عنده حالة من الانشغال مع ألذات تمنع عليه التواصل مع الآخرين في بعض الأحيان , أو كما يسمى في الشعبي ( يسرح ) . قبل فترة اكتشفت شبكة تجسسية للحكومة في ( كرجال ) , كانوا أربعة أشخاص , توزعوا بالنصف بيننا وبين البارتي المقابل لمقرنا . وبعد إلقاء القبض عليهم حاولوا إشراك اكبر عدد من الرفاق معهم , ومن بين الذين اعترفوا عليهم رفيق بغدادي معروف بذكائه وخفة دمه وحبه للنكتة يدعى ستار . وللاحتياط أودع ستار معهم في غرفة السجن , واختير سرجل ليكون معهم كسجين أيضا , عسى أن يسمع منهم شيئا , أو يستدرجهم للبوح بأي شئ يستفيد منه التحقيق .

أنطرح سرجل بين ستار والسجينين الآخرين , وندار إلى صديقه ستار , واخذ ( يستدرجه ) , وبعد دقائق , وضع ستار كفه فوق كف سرجل , وقبل أن يستوعب سرجل سر هذه الحركة المريبة , دفع بيد سرجل بين فخذيه , انتفض سرجل وصرخ كأن أفعى لدغته , اتكأ على الباب وقابل ستار , وغرق الاثنان في الضحك . طلب من الحرس أن يأتيه بأحد رفاق القاطع , وبعد دقائق قال لرفيق القاطع : رفيق ما اكَدر بعد , البرغوث أكلني . وبعد يومين , ذهب سرجل حرس مع ستار لجلب الحطب من غابة صغيرة تقع على يسار المقر بنصف كيلومتر , وعاد سرجل يحمل الحطب , وستار خلفه يحمل البندقية .

ونجح مكتب القاطع عندما بعث الرفيق احمد عرب للالتحاق ببهاء الدين نوري , الذي خرج من الحزب وأراد تشكيل تنظيم جديد , أو كما يسميه البعض ( انشقاق ) , وحصل احمد على عضوية المكتب السياسي عند بهاء , ونشط في سهل شهرزور , وبين قريتي آلان وحاصل المتجاورتين , عثرت عليه مفرزة من سريته التي كان مستشارا سياسيا لها , وهي من وحدات الفوج التاسع الذي يشرف على عمليات شهرزور ومحيط مدينة السليمانية . احمد عرب كان شديد الالتزام بتنفيذ التوجيهات الحزبية أو الأنصارية , وكانت شدة لا تستقيم مع صعوبات حياة البيشمركَة , وولد هذا بعض النفور منه من البيشمركَة في السرية . ومن سوء حظه أن تعثر عليه هذه المفرزة بالذات , التي فرحت بذهابه مع بهاء . طبعا لا احد يعرف بإرساله غير مكتب القاطع , اعتقلوه , وهو لا يستطيع أن يخبرهم بأي شئ , وحتى لو اخبرهم , فمن الذي سيقبل أن يصدق ؟ والى أن وصل إلى مقر القاطع , ولسان حاله يقول : ألف برغوث من براغيث سرجل , ولا عذاب هذين اليومين .

سمعنا صوت انفجارين خفيفين , هرعنا إلى المطبخ الذي تركناه للتو خلفنا , سحابة كثيفة من البخار , تطايرت بعض الأتربة , أعشاب وأوراق يابسة تتزاحم وسط البخار والتراب , كان فوق الموقد ثلاثة صفائح حليب ( نيدو ) مفتوحة تخرج نافورات البخار , وتطايرت حبات الفاصوليا من الصفائح إلى السقف . الرفيقة هدى شقيقة الشهيدة عائدة ياسين -وهي طباخة ماهرة – اقترحت على الدكتور شاكر أن يطبخ الفاصوليا ( بجدر ضغط ) لكي تكون الفاصوليا أطيب , ولما لم يكن في القاطع جدر ضغط , استبدل بصفائح النيدو , وفاتها أن تخبره بان عليه أن يحدث عدة ثقوب في غطاء العلبة , فانفجرت العلب , وذهبت الفاصوليا هباء . كان دكتور شاكر مترب وكأنه خرج من معركة لتوه , والإداري علي عرب أشبه بمن فقد عزيزا عليه , ليس على تأخر غذاء الرفاق طبعا , بل لكونه سيصرف وجبة غذاء جديدة . عطف عليه أبو عناد وقال : ولا يهمك أبو حسين , آني والشباب نصعد نلطع حصتنه بالسكَف , والباقي وزع للرفاق , بس كون أتدبر درج . ضحك سرجل من أعماقه , وقال : هم راح يكَول الرفيق علي بسبب سرجل . واعتذر للدكتور شاكر على خراب شياكته .

استشهد شاكر في معركة غير متكافئة بين مفرزة شيوعية وقوات الجحوش في دربندخان , واستشهد ابو عناد وعلي عرب في المعارك الشرسة التي خاضتها قوات الأنصار مع قوات الجيش أثناء عمليات الأنفال المجرمة . وأكون شاكرا لكل من يزودني بالأسماء الصريحة لهؤلاء الشهداء , او معلومات عن حياة وشخصية هؤلاء الأبطال , إكراما لتضحياتهم وبسالتهم التي يتشرف بها جميع العراقيين .

[email protected]









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. إسرائيل سقطت في فخ حماس..فكيف تترجم -الانتصار- على الأرض؟ |


.. تمرّد أم انقلاب؟ إسرائيل في صدمة!| #التاسعة




.. مراسل الجزيرة يرصد مسار عملية رمي جمرة العقبة في أول أيام عي


.. مراسل الجزيرة يرصد تطورات الخلاف في إسرائيل بشأن -هدنة تكتيك




.. مظاهرات في ألمانيا والنرويج نصرة لغزة