الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


كيف نفهم الارتجال المسرحي.... أثناء البروفة.....؟ أثناء العرض المسرحي..... ؟ دراسة و تطبيقات

فيصل فائق صبري

2010 / 8 / 21
الادب والفن


الارتجال بشكل عام هو اجتهاد شخصي، أي كيفية إلقاء خطاب / قصيدة / عزف موسيقي/ التمثيل أو الاخراج المسرحي...الخ من الفنون الجميلة من دون سابق تخطيط أو تحضير. سوف نختار هنا الارتجال في المسرح خاصة عند (الممثل الذي يحمل الرسالة المسرحية بعد إدارتها وصياغتها الأخيرة من المخرج بوصفه قائد العملية المسرحية بأكملها)... وسنناقش الموضوع على اساس ان المسرح يصعب فيه الارتجال وذلك لأسباب عديدة، منها ما يعتمد على ثقافة الممثل والمخرج و ممارساتهما اليومية وما يضعانه على الركح من رسائل، و سوف نذكر أسباب أخرى في أثناء مداخلاتنا هنا في دراستنا الموجزة هذه.
الارتجال في المسرح يعتمد أيضا على فنتازيا الممثل والمخرج وذلك من خلال الحركة، الحوار والاضاءة/الديكور... إلى آخر ما يظهر على الركح طبعا مع اتسام ما يقدم (في إطار الارتجال) بسمة عدم وجود التحضير أو التخطيط المسبق له. ويتم كل هذا اما في أثناء البروفة أو العرض ضمن سياق العمل المسرحي وسياق الالتزام (الأخذ بنظر الاعتبار) بكل من الناحيتين الجمالية و الفنية ومن دون تشويه هدف العمل (العرض المسرحي) الذي يقدم أمام جمهور.
إن المرحلة الاولى للبروفة التي يتم فيها تكوين بعض المشاهد والذي يكون في اكثر الاحيان وليد المصادفة النابعة من عمق الممثل و دواخله واحاسيسه(بلا إغفال للتوجيه الواعي قبل ذلك) ، حيث هنا يمكننا القول بأن الممثل يضع الحجر الأول لبناء الشخصية؛ بعد دراسة نظرية عميقة لها (الشخصية), بشكل عام فالممثل يرتجل من اجل تحسين صورة المشهد أو الاضافة اليه، وهو امر طبيعي بالنسبة لبعض المسرحيات الكوميدية او الشعبية لما تحتويه في بعض الاحيان من فرص الخروج على النص و التعرض لمفارقات مستوحاة من الحياة العامة بشرط ان يكون هناك تناسق بين الحوار و الحركة في أثناء الخروج من النص و العودة للنص الأصلي ثانية بعد برهة.
وهكذا فالارتجال عند الفنان المسرحي هو بحثه الدائم حول الاكتشاف و الابتكار عن عنوان لمشهد العرض الذي يعتمد على العلاقة التراكمية للممثل والمخرج اللذين يعملان مع بعضهما بمرجعيات تأثير وإعداد نفسي جمالي لأماكن وأجواء مختلفة، وتجارب و ورشات عمل عديدة، ولكنها في النهاية وبالمحصلة تؤدي الى الفهم المشترك والتناغم بينهما.
إن أصل كلمة الارتجالImprovisation حسب تعريف (المعجم المسرحي) للدكتورة ماري الياس و الدكتورة حنان قصاب، في الفعل الايطالي improvisare الذي يعني تأليف شيء ما من دون تفكير أو تحضير مسبق، وهو مأخوذ في الأصل من الكلمة اللاتينية improvisus التي تعني ماهو غير متوقع، وفي اللغة العربية أن يقوم به من غير ان يهيئ له.
تاريخياً نتلمس أصول الارتجال من ممارسة الطقوس الدينية او الاحتفالات الاجتماعية التي كثيرا ما نرى مساحة خصبة لحرية المؤدي ضمن مسارها أو خطها العام, كما أن الارتجال كان معروفا في مختلف الحضارات على شكل مهارات و ألعاب تقوم على ابتكار شيء ما يقوم به المؤدي أو اللاعب(1).
في المسرح القديم كان للارتجال الدور الاساس في أداء الممثلين الجوالين و الايمائيين الرومان، وفي عروض الممثلين لاشكال الفرجة الشعبية في القرون الوسطى في أوروبا وفي أداء المدائح و المقلد و الحكواتي وغيرهم في التقاليد الشعبية كما هو موجود في البلدان العربية.(2)
ان اهم فترة اكتمل فيها الارتجال كمصطلح و أصبح أداة مهمة للممثل و المخرج لاحقاً هو عند ظهور كوميديا ديللارته(3), التي تعد من أهم المحطات في تاريخ الارتجال، وقد انتشر هذا الاسلوب من الكوميديا في القرنين السادس عشر و السابع عشر، حيث ظهرت أساليب الارتجال العفوية مع الزمن وقد تراكمت على شكل خبرات في فن التمثيل وأداء الممثل التي سمحت للممثل البلوغ الى تقنيات عالية في شكل الأداء و المستوى الفني ، بحيث صار لها قواعد حركية منمطة، على الرغم من ان الجانب الارتجالي لاداء الممثل في كوميديا ديللارته يبدو وكأنه وليد اللحظة ولم يتم التحضير له مسبقا, فأن واقع الامر عكس ذلك لآن بنية كوميديا ديللارته تقوم على أسلوب معروف و ذات ملامح بارزة لا يكلف الممثل سوى ان يؤدي بشكل متنوع لما يطلب منه الدور ، وكذلك المواقف التي تطلبها الحالة اي البنية الاساسية لفكرة المسرحية ضمن خطوطها العديدة,أي ان الارتجال في أداء الممثل من الناحية التقنية هو ان يحضر ما يمتلكه الممثل من خبرة و نباهة و ثقافة.
عندما نذكر الارتجال لا نعني التشويه للحوار أو للحركة (الممثل)، أو بروز حركات و حوارات عشوائية تؤثر على القيمة الجمالية و الذائقة الفنية للعرض المسرحي، أي ان كلا من الحوار أو الحركة لهما مفهومهما و دلالتهما و مبررتهما و الافعال التي يقوم بها الممثل على الخشبة لها علاقة بالعرض المسرحي و مكوناته, لكن شرط ألا يدخل في المشاهد المباشرة في أثناء العرض, حيث يقول فيولا سبولين في كتابه الارتجال للمسرح (فلنتجنب الاتجاه المباشر الى المشهد، فبدلا من أن يكون أرتجالاً سيصبح هذا بشكل ثابت مؤتمر القصة وهم يتحركون هنا و هناك على المسرح)، وأرى هنا بأن مؤتمر القصة الذي ذكره سبولين وصف مقنع ,ذلك لأن العرض المسرحي يفقد جماليته و كذلك وحدة الموضوع، ويقع الممثل في مأزق التكرار من ناحية الحركة و الحوار ، و انا اسمّي هذه الحالة (فقدان هوية الشخصية) التي يمثلها.
لكن من ناحية توزيع الادوار لا أتفق مع رأي سبولين عندما يقول(الارتجال، يمكن أن يتم ذلك بنجاح مع الاشخاص الجدد) أي مع الممثلين الجدد.فأني أرى أنه ليس بالضرورة الاشخاص الجدد أو الممثلون الجدد هم الذين يرتجلون بشكل جيد ، فهنا نفقد شيئاً مهماً الا وهو الخبرة المتراكمة للممثل المحترف،كما أنه يكون على تضاد مع فكرة كوميديا ديللارته , وهنا أستفسر أين خبرة الممثل و أدواته و ثقافته؟ لكن يمكن القول بأن الممثل الجديد و الممثل المحترف يكونان على مسارين أو خطين متوازيين في بداية الامر ولكن يلتقيان في نهاية المطاف عبر التعامل اليومي مع بعض وفهم الواحد للآخر من خلال ورش عمل يتضمن تبادلا ثقافيا و معرفيا و عمليا ليمنحهما لاحقا فرصا لا تكون متساوية بالتاكيد للارتجال.

ولو أخذنا المسرحيات الكوميدية الشعبية للممثل والفنان المصري عادل أمـام فكثير مما نشاهده، هو أن عادل أمام يرتجل بعض الحوار او الحركات ، ويذكر اسماء صريحة للممثليين على الخشبة و امام الجمهور من دون ذكر أسماء الشخصيات، ومن هذه المسرحيات مسرحية (الواد سيد الشغال) و (الزعيم)، حيث نلاحظ في مسرحية (الواد سيد الشغال) جانبين الاول خروج عادل أمام من النص وذلك بأرتجاله بعض الجمل القريبة من جو و تفكير الجمهور المصري خاصة المشهد الذي يحاور فيه الشيخ الذي يعقد الزواج على هدى وهي بنت رجل الاعمال المصري ، والثاني ارتجل الحركة في مشهد الذي يحاور فيه الفنان عمر الحريري الذي كان بدور شخصية رجل أعمال مشهور و يريد ان يسكب الماء في جيب الفنان مصطفى متولي الذي كان دوره زوج هدى، وفي هذه المسرحية نشاهد اكثر من مشهد ارتجالي يؤديه ، الأمر الذي ارى فيه أحيانا مبالغة الهدف منها اضحاك الجمهور بشتى الطرق ، وهذا لا يعني اني ألغي حرفية الممثل الكبير عادل امام في التعامل مع النص كحوار أو كحركة.
بنظري لا توجد استثناءات للارتجال، فهناك حرفية و عفوية تعتمد على الموهبة و الذاكرة الانفعالية لدى الممثل الجديد و-أو المحترف، والارتجال في الحوار او الحركة ايضا هو فعل غير متفق عليه من قبل فرد او جماعة في أثناء البروفة و-أو العرض, ولكن يحتاج كما ذكرت الى حرفية و عفوية، ويعتمد على مهارة و ثقافة و وعي شخصية كل ممثل او مؤدي.
لابد من الاشارة الى أن الارتجال لا يعني الخروج من جماليات النص و اضافة حركات ليس لها علاقة بالشخصية التي يقوم الممثل بتجسيدها، فهناك امور مهمة يجب الانتباه اليها وهي الارسال و الاستلام من ناحية الاشارة النفسية عند الممثل و حالة التحويل و التغير ، أي أن الاشارة النفسية و التحويل و التغير تعدان نوعا من الايعازات المتبادلة بين الممثلين على الخشبة, و على الممثل مراعاة ذلك في أثناء الارتجال.
أن من التجارب(4) المهمة في الارتجال لأعداد الممثل التي اعتمد عليها ستانسلافسكي هي مجموعة من التمارين تستند على الارتجال من أجل إعادة بناء النص و الدور وإعداده، كذلك تجربة مايرهولد في استخدام الارتجال لتحقيق مرونة عالية للجسد مستوحيا ذلك من كوميديا ديللارته و السيرك، كما نلفت النظر الى تجربة المخرج بيتر بروك الذي اعتمد في إعداد الممثل على فكرة ان الارتجال ليس هدفا في حد ذاته وإنما هو وسيلة للتوصل الى أداء جيد.
ان عالم الارتجال هو عالم اللعب خارج النص، ضمن منحى بحثي و أستكشافي الذي يؤدي الى بروز امكانات الممثل او المخرج [نؤكد على أن الحاجة للالتفات إلى موقع (الارتجال) عند المخرج ومعالجته بشكل مستقل في موضع غير قراتءتنا هذه]....... ولكن بالعودة لفكرة اللعب خارج النص اود ان اذكر تجربة شخصية مع فرقة (مسرح بلا حدود) وهي فرقة هولندية في أبلدورن, في اثناء وضع فكرة عرض مسرحية طلب مدير الفرقة مني ان اجسد شخصية مغربية ضمن النص المسرحي من دون اللجوء الى قراءة النص بشكل كامل , كان عليّ اللجوء الى الارتجال من الناحية التي تتعلق بالشخصية المغربية أو الشرقية بشكل عام تلك التي تعيش في اوروبا تحديدا وتجسيد كيف تتكلم وكيف تتصرف وتتحرك وتبدي سلوكياتها، وتخيلت لحظتها اصدقاء اخي الصغير و مثلتُ او ارتجلتُ لمدة دقيقتن امام المخرج ...لحظتها كان يقيني أن الارتجال يعتمد على ذاكرة الممثل و الخبرة التراكمية من جانب و كذلك على الجانب او المدى البحثي و الأستكشافي له.
لكن كيف نفهم الارتجال المسرحي في أثناء البروفة و-أو في اثناء العرض المسرحي...؟ كان هذا السؤال في الحقيقة قد وجهه الدكتور الفنان أسعد راشد إلينا (نحن طلبته) في احدى الأمتحانات الجامعية.
عندما سئلت هذا السؤال في حينها كنت مازلت طالبا في قسم المسرح و لم امتلك في وقتها او لم يكن لدي الجواب الكافي للرد عن هذا السؤال الذي يحتاج بحق الى خبرة و ممارسة عملية تطبيقية ، لكن بعد فترة من الزمن و تطبيقات عملية مع فرق هولندية و مشاهدة مجموعة مسرحيات هولندية و عربية و جلسات فنية مع اساتذة و مبدعين في الفن المسرحي من امثال الدكتور تيسير الالوسي الذي درسني تاريخ الادب المسرحي وسوسيولوجيا المسرح و المخرج العراقي باسم عبد القهار الذي كان يتحدث تجاريبه الاخراجية و عن قضايا و رؤى فنية بشكل فلسفي جديد متعلق بوعي وثقافة الفنان المسرحي والدكتور الفنان سلام الاعرجي الذي اشرف على اخراجي لمسرحية (السر السابع) و حديثه عن دور الممثل و المخرج في المدرسة البريشتية..كذلك مناقشات عديدة مع الممثل والمخرج حيدر ابو حيدر حول المواقف الكوميدية و اسلوب الممثل مع هكذا ادوار و شخصيات كوميدية.....الخ و أخيرأ و ليس آخرا قرائتي لمجموعة كتب متعلقة بهذا الشأن، بدأ عندي ما يمثل ولادة رؤية او طرح و مفهوم للارتجال و لربما استطيع الان ان اعطي جوابا مقنعا لسؤال الدكتور اسعد راشد.
الارتجال المسرحي في البروفة له طابع بحثي ابتكاري و اجتهادي ضمن سياق العملية المسرحية وداخل اطار بروفات العرض المسرحي المحدد، ان الارتجال في البروفة يحدث علاقة تواصل بين الممثلين،دون التقيد بالحوار و لا بنوع الشخصيات، فمن خلال الارتجال في البروفة يخلق او يبتكر الممثل او المخرج اشكالا فنية جديدة لصالح العرض المسرحي...... أذاً اثناء البروفات ومن خلال الارتجال تتولد افكار و اراء و مقترحات جديدة تتعلق بجوهرية و وحدة العرض المسرحي، ويكون الارتجال بالنسبة للممثل و-أو المخرج حالة يتم فيها توظيف الخيال من جديد و البحث وراء امكانات وتقنيات عالية يمكن ان تظيف قيما جمالية و فنية لادوات الممثل و اسلوب المخرج....ضمن الفكرة الاساسية لمادة العرض, فيكون التوظيف الصحيح للارتجال عندما نقوم بتخطي العقبات التي تقف امام الفنان المسرحي(الممثل/المخرج),حيث يتبين لنا أن الشكل الارتجالي ينمو و يتطور ضمن التدريبات اليومية و الاحتكاك بالممثل الاخر على هيأة منافسة فنية حقيقية نزيهة ،فيقوم الممثل بقيام بعض الافعال المسرحية ينافس به زميله الآخر ويلفت نظر المخرج على أنه يمتلك خبرة و تكنيكا يمكن الاستفادة منهما اثناء العرض......ان فكرة الارتجال في البروفة هي مقاربة لفكرة اللعب مع الاطفال، حينما نلعب مع الاطفال وهم يعملون بعض الافعال و الحركات نستكشف من خلال اللعب طاقاتهم و اهتماماتهم .
ان ترتجل في البروفة ، يعني أن تتخذ مساراً بحثياً مؤسساً على فكرة المسرحية و الدور، ذاهباً لأكتشاف شكل أدائي ضمن الرؤية الفنية للعرض.
من الملاحظ اذا كانت الحركة او الحوار (ارتجالا) في بعض الاحيان اثناء البروفة او العرض، فسيكون هناك استرخاء تام لذهن و جسد الممثل ، ومن هنا يمكن الاستفادة من الارتجال و اضافة هذه الحالة الى الخزين المعلوماتي لدى الممثل.
يقول فيولا سبولين في كتابه الارتجال للمســـــــرح (غالباً ما تعطي الارتجالات العامة الممثلين رؤية أعمق لما وراء كلماتهم ، وذلك بمساعدتهم على أن يروا الكلمة و يحققوا واقعاً للمشهد)،وهذه العبارة مقنعة لان على الممثل ان يقراء ما وراء السطور ويجعل كلمات الدور كلماته ويتصرف معها بشكل حقيقي صادق ، بحيث من خلال الكلمة و الفعل يحدد مسار الحدث ومن ثم تحديد العلاقة مع بقية الشخصيات و الفضاء المسرحي....و يصبح لدى الممثل رؤية خاصة حول العمل الفني بعيد عن رؤية المخرج و المؤلف.
لقد استخدم استانسلافسكي الارتجال أثناء البروفات مع الممثلين من اجل مساعدتهم على أدراك دوافع و طبيعة وابعاد الشخصية، اعتبر الارتجال جزءا من ادوات الممثل. ان الارتجال يعطي الممثل المدخل الطبيعي الى الغور في ثنايا الشخصية، وأن الارتجال يقوم بتطوير امكانات الممثل و يجعله يمثل بتلقائية ويخلق لديه حالة من التفكير على الخشبة ، فمن خلال الارتجال في البروفة يفهم و يعي الممثل وضعية جسده وعلاقته بالفضاء المسرحي،مما يؤدي الى تنمية سرعة البديهية والتركيز و اتخاذ القرارات الصائبة اثناء العرض المسرحي.
من خلال قرائتي لكتب مسرحية و مشاهداتي وعملي مع فرقة مسرح بلا حدود كذلك ورشة العمل مع الفنان الدكتور أسعد راشد،الذي قال يومها(كل شيء يصنع من الفراغ) اكتشفت اثناء الورشة ان الارتجال يعلمك طريقة توظيف (المتريال/المواد) لدى الممثل و المخرج، ففي مثل هكذا نوع من التجارب و الورش الذي برأي لها طابع ارتجالي احيانا، تلاحظ ان جمله من الامور ما يدعم السلوك الارتجالي للممثل اثناء البروفة،وهو رغبته في الابتكار ونية مغادرة الظوابط التي تحكم فنية العرض و بناءاته الجمالية ،بحيث يذهب الممثل و ضمن العلاقة المفتوحة بينه و بين المخرج الى تكريس و توظيف جزء هام من جهد التمرين صوب البحث في الحركة و الالقاء وبناء العلاقة مع الفضاء المسرحي بما يحمل من ضوء و الوان و كتل ومساحات و شخصيات آخرى، مما يعطي للممثل ثقة بالنفس و قوة لمجابهة الجمهور.
أذاً الارتجال اثناء البروفة هو بمثابة تكوين و بناء القيم(الادوات) الاساسية للممثل الذي يلتقط حركات و افعال غير متوقعة او متهيئة ،ومن ثم يأخذ منحى دراسيا تحليليا تطبيقيا متعاملا مع الجو أو الفضاء المسرحي ليشكل لغة خاصة اثناء العرض المسرحي،لغة لايفهمها و لا يلتقطها الجمهور في الوهلة الاولى(العرض الاول) من ثواني أو دقائق اوساعات العرض المسرحي.
اما بالنسبة للارتجال اثناء العرض المسرحي فأن كثير من ضوابط العمل المسرحي و معايره الثابتة أو السائدة في قانون العرض المسرحي بكل تفاصيله ، المؤسس على رؤية المخرج التي غالباً ما تتخذ مذهباً أو مدرسةً أو شكلا فنياً متبعأ و أسلوباً خاصاً، بحيث يتولد لدى الممثل في أغلب الاحيان أن لم يكن دائماً علاقة مع المخرج تسمح للارتجال ضمن دائرة المحاولات التي تؤدي الى أكتشاف تفاصيل دقيقة تتعلق بجسد وصوت الممثل، فتتجمع الافكار لبناء الدور ضمن شبكة العلاقات في العرض المسرحي واقعياً، عبر مكونات العرض بجمالياته وأفكاره لقول أو فعل شيء (يرتجل) اثناء العرض المسرحي.
أن للارتجال بداية و نهاية، فمن الضروري ان يحس الممثل و يشعر متى يبدأ و متى ينتهي من الارتجال ضمن الفضاء العام للمسرحية اثناء العرض المسرحي وله جوانب عديدة ، منها الحاجة الدرامية ناتج عن شعور حقيقي غير مفتعل أومصطنع للفنان المسرحي ، أو يصادف الممثل على الخشبة عائقا تقنيا كسقوط ديكور أو عدم توظيف الاضاءة أو المؤثرات الصوتية و الموسيقا في الوقت المتفق عليه، فيجعل الممثل أن يبتكر شيئاً جديدأ من دون ارباك زملائه الاخرين من الممثلين والتركيز على الدور شرط أن يكون ضمن فكرة المسرحية،حيث يقول فيولا ســـبولين أثناء البروفة و تجارب شبيهة بالارتجال( لابد من أن تحل المشكلة أثناء تمثيل المشهد وليس بعيدأ عنه)،اي ضمن الفضاء المسرحي بكل جزيئاته .
واذكر هنا موقفاً ارتجالياً حصل مع الفنان أسعد راشد في مسرحية (الشاهد) التي شاهدته عن طريق قرص سي دي، ففي احد المشاهد الذي يدخل الممثل داخل شخصيات عديدة منها الملك والطاعون و الشاهد، فيتحرك الممثل على الخشبة في موقف معين له علاقة بشخصية الملك و صولجانه ، بحيث يحدث شيئاً ما له علاقة بالنص كأن يكون الممثل على سبيل المثال نسى جملة قصيرة من الحوار ....الخ،هنا براعة و امكانية الفنان أسعد راشد و نباهته وجد بديلاً او ابتكر(ارتجل) جسدياً من خلال حركات الوجه وضمن فكرة المسرحية حركة لها علاقة بالملك و الصولجان ولو لم استلم الملاحظة من استاذ المادة لمرَّ مشهد الارتجال عليّ مرور الكرام وربما هذا بالتأكيد لبقية الجمهور الذين شاهدوا العرض للمرة الاولى ولكن الفنان أسعد راشد استطاع وبحرفية الإيحاء للمستجد قبيل أن يدخل ثانية الى سير الاحداث المرسومة ضمن الخطة الاخراجية وهو ما منحني ولربما الآخرين من المشاهدين فرصة الانتباه على مسائل الارتجال (ابتكارا)*.
و الارتجال اثناء العرض اذا كان بصورة طبيعية غير مفتعلة حقيقية نابعة من داخل الممثل سيأخذ منحى جماليا فنيا في قراءة العرض المسرحي و يغدو الى تفسير و تحليل مغاير لقراءة المخرج داخل اطار الشخصية ، ولربما مغايرة لقراءة الممثل داخل حدود العرض ايضاً ، لانها تحدث تحويلات و تغيرات طارئة للغة العرض المسرحي و خاصة ان الممثل هو جزء من هذه اللغة أو كما يسميه الدكتور نديم معلا حامل الخطاب المسرحي.
هناك اشكالية في بعض الاحيان للارتجال لدى بعض الممثلين في اثناء العرض ،خاصة عندما يقع الممثل في مأزق البطء و الملل الشديد من حيث ايقاع العرض والعائق التقني، بحيث يلجاء الممثل الى تكرار الحركات و الحوار في مشهد واحد يتفق مع بنات افكاره من دون ملاحظة زميله،مما الى ضعف و تشويه العرض المسرحي ، بحيث يكون الارتجال ذا طابع عشوائي فوضوي ينعكس من خلال اداء و ملامح الممثل، ما يؤدي الى فشل الممثل بأداء دوره و من ثم لربما فشل العرض المسرحي.
لقد عبر الفنان سامي عبد الحميد* عن اعجابه ببعض المخرجين الاوروبيين من أمثال ماكس راينهارت و مايرهولد بتقنيات كوميديا ديللارته، لما يحتويه من استخدام جديد لتقنية الارتجال التي تتوافر فيها التلقائية و العفوية في اداء الممثل،بحيث يؤدي الى توسيع مديات خياله و ابداعه، ويرى الفنان عبد الحميد الارتجال تقنية اساس لمعظم أعمال الفرق المسرح التجريبي في العالم وله منحى بحثي لأجل أيجاد وسائل جديدة للتعبير.
ان الارتجال في العرض المسرحي يجعل الممثل فرصة أن يتصرف بتلقائية و عفوية بحيث يصل الممثل الى حالة مرنة يقدر ان يتحكم بالصوت و الجسد و التعامل مع الكتل و الالوان بشكل طبيعي مما يجعل الممثل على السير نحو أستكشاف ادوات جديدة يضاف الى ملكاته.
في حال ان ارتجل الممثل في العرض الاول من المسرحية بحركة معينة أو اضافة مشهد حواري وكان له دور ايجابي في العرض المسرحي الاول و نجح، ثم قام الممثل بنفس العملية في نفس المسرحية ، فلا يمكن ان يسمى ارتجالا اذا كرر الحركة او الاضافة في الحوار اثناء العرض الثاني من نفس المسرحية، برأيي يصب العملية في العرض الثاني ضمن التقليد للارتجال و الاكتفاء بجمالية العرض الاول .
لقد ظهر في السنوات الاخيرة في هولندا و بعض الدول الاوروبية نوع من المسارح التي تسمى بالمسرح الرياضي* Theater Sport الذي يعتمد على الارتجال بشكل اساس في اثناء العرض المسرحي، يختلف اسلوب و فكرة المسرح الرياضي عن كوميديا ديللارته والذي يعتمد على الارتجال ايضاُ ،ففي المسرح الرياضي هناك دخول لمواضيع و حوارات و حركات و افعال مختلفة لم يتفق عليها من قبل الفرقة ويتم كل هذا امام الجمهور، ففي بعض الاحيان يقوم الجمهور بنفسه بتعيين موضوع ما ، و يقوم الممثلون باداء ما طلب منهم الجمهور من فكرة أو موضوعة المسرحية، تحتاج هذه العملية الى تقنية عالية جدا و ادوات فنية من حيث اتقان اللغة و مرونة الجسد يكون(بهلوان/رياضي) و تقنية في الصوت الممثل بحيث يستطيع التأقلم او التعايش مع ظروف عديدة داخل أطار الفضاء المسرحي أو العرض المسرحي وبالتأكيد يحتاج هكذا نوع من المسارح الى النباهة و العفوية و خزين معلوماتي كبير اضافة الى الموهبة.
ان من الامور المهمة التي يعتمد عليها المسرح الرياضي،هي حساب ايقاع المشهد الذي يربط العلاقة بين الممثل و الحبكة المسرحية*.
اما في كوميديا ديللارته التي لها طابع ارتجالي ايضاً، لكن موضوعة المسرحية او الفكرة موجودة مسبقاً،فيتطلب من الممثل الجسد والصوت و سرعة البديهة و ذاكرة حفظية لمشاهد و مقاطع البروفة اكتشفها ، ثم أصبحت على شكل نصوص مكتوبة يتم تدولها لاحقاّ.
ان الارتجال في البروفة أو العرض يقوم على كيفية( من لا شيء يصنع شيء) وهذه المقولة للكاتب الهولندي Andre Besseling، مؤلف كتاب Theater vanuit het niets وبرايي ان هذه المقولة لها منحى فلسفي بحثي يقع على عاتق الفنان المسرحي للبحث المزيد من القضايا المسرحية ،لابتكار فنون ادائية جديدة تتعلق بأسلوب العرض المسرحي و ادوات الممثل.




المصادر و الهوامش
1- المعجم المسرحي/تأليف:د. ماري الياس و د. حنان قصاب/ص 20
2- المصدر نفسه(1)/ص20
3- المصدر نفسه(1)/ص20
4- المصدر نفسه(1)/ص21

*ملاحظة دكتور أسعد راشد ضمن ورشة عمل مسرحية في هولندا 22/23-12-2007 .
*مقال للفنان سامي عبد الحميد بعنوان رؤية مسرحية:الارتجال و التجريب المسرحي /جريدة الصباح.
*حواري ومناقشتي مع مدير فرقة مسرح بلا حدود وهذه الفرقة عبارة عن مجموعة ممثلين و ممثلات من مختلف الجنسيات.
*يحتاج هذا التعليق الى مصادر ولم أكن امتلكه في اتناء الترجمة








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. وفاة زوجة الفنان أحمد عدوية


.. طارق الشناوي يحسم جدل عن أم كلثوم.. بشهادة عمه مأمون الشناوي




.. إزاي عبد الوهاب قدر يقنع أم كلثوم تغني بالطريقة اللي بتظهر ب


.. طارق الشناوي بيحكي أول أغنية تقولها أم كلثوم كلمات مش غنا ?




.. قصة غريبة عن أغنية أنساك لأم كلثوم.. لحنها محمد فوزي ولا بلي