الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


انهيار المسلمات الكبرى في ثقافة الدولة الوطنية في العراق

علي الحسيني

2010 / 8 / 23
مواضيع وابحاث سياسية


بالرغم من ان المجتمع العراقي، يجري دائما استحضار اصوله الحضارية الكبرى، كشاهد على حيويته، وسيرورة بناه الاجتماعية، وقدرته على توظيف تلك الاصول في بناءات سسيوسياسية حديثة. الا انه يبقى محكوما ببناء سياسي حديث، اسمه الدولة الوطنية، التي تشكلت بإرادة أجنبية من قبل الكولنيالية البريطانية في الفترة المحصورة بين عامي 1914،1932م. والتي أُنيط بها (=الدولة) بناء امة، لأن العراق مازال عبارة عن "تكتلات بشرية خالية من أية فكرة وطنية، متشبّعة" وبالتالي علينا "ان نشكل من هذه الكتل شعبا" حسب مقولة شهيرة للملك فيصل الأول، لتقوم عليها الدولة الحديثة.
إلّا إنها أخفقت في النهاية في بناء الأمة العراقية المفترضة، (لان العراقيين لم يتفقوا حتى الان على نموذج مقبول بشكل عام للمجتمع السياسي) على حد قول اريك دافيس. ويعود ذلك كله او كحد اقل، الى مشكلة الهوية، التي ممكن ان ينضوي تحتها العراقيون على مختلف اطيافهم.
أختلف المؤسسون الأوائل في أسس تشكيل هذه الهوية، هل يعودون الى زمانه العربي، خصوصا فترة الفتح الإسلامي، وبالأخص حقبة الدولة العباسية؟. ام الى تراثه الرافديني القديم، مع الاعتراف بالتراث العربي، لكن كجزء من اجزاء التراث العراقي المتعدد؟.
هذه الاشكالية التي لم تحسم بعد، وان تم تجاوزها لصالح بناء ايديلوجي، يصطدم ومشروع الدولة الوطنية في العراق.
حاول بعض السياسيين العراقيين القيام بمراجعة نقدية لتراث الدولة الوطنية في العراق، ومنهم وربما أهمهم؛ السياسي الملكي "عبد الكريم الازري"، في كتابه المهم؛ مشكلة الحكم في العراق. لكن بقيَّ جهده قريبا من أرّخنة السيرة الذاتية للدولة، عن الاشتغال النقدي المعرفي لتراثها.
اعتقد أن ثمة فوبيا من مراجعة التراث السياسي العراقي، وبالأخص فترة التأسيس. واعتبار تلك الفترة من المسلمات الوطنية، التي يجب ان تبقى كقواعد أساسية للعمل السياسي والوطني في العراق.

حاول الباحث "حيدر سعيد"، في كتابه الذي صدر عن المؤسسة العربية للدرسات والنشر في بيروت، والذي حمل اسم (سياسة الرمز ... عن نهاية ثقافة الدولة الوطنية في العراق) حاول ان يمارس نقدا حقيقيا لهذا التراث، وللعديد من مفاهيمه السياسية التي تصدرت المعجم السياسي الوطني (الدولة، الوطنية، الهوية، الدكتاتورية، الاستقلال،وو).

ودعا من خلال كتابه الاول، الى قراءة نقدية للتاريخ السياسي العراقي، تراجع بحرية كاملة ودون هيمنة وتحكم الأيدلوجي او بتوجيه منه.

ثمة همٌّ نظري، يشغل "حيدر سعيد" في العديد من مقالات الكتاب. يتضح ذلك من خلال إلحاحه المستمر على طرح أفكار لم تتطرق اليها الأدبيات السياسية العراقية ما بعد 9/4، حتى أولئك الذين تولوا الكتابة السياسية النقدية، بقوا رهن الأفكار الأيدلوجية، التي سارت عليها ثقافة الدولة الوطنية.
طموح "حيدر سعيد" ان نعيد صوغ جُلّ المفاهيم، التي قامت عليها الدولة، وتربت ونشأت عليها الطبقة السياسة والثقافية في العراق.


الهوية الوطنية
يتناول "سعيد" في اماكن عدة من الكتاب، اشكالية بناء الهوية الوطنية في العراق، عبر شغل نقدي يلامس جوهر التاسيس. ومنه ينتقل الى تاسيس اخر، لتعريف جديد للهوية الوطنية، يغاير تماما التعريف الذي ساد في التراث السياسي العراقي، والذي قام على اساس صهر الهويات الاثنية والطائفية في بوتقة القطرية. بينما يرى "الباحث" ان هذا التعريف قمعَ الهويات الفرعية الاخرى، لانه ببساطة لم يسمح لها ان تعيش وتنمو الى جانب الهوية الكبرى، وانما قام بتجاوزها عبر دمجها وصهرها، وهو ما يعني إلغاؤها حسب وجهة نظره. لذلك يرى ضرورة تعريف جديد للهوية الوطنية من خلال النظر إليها بوصفها تجميعا للهويات الفرعية لا بتجاوزها. وهو ما حكم منظور الوطنية العراقية منذ تاسيس الدولة الوطنية في العراق (ص65).
ثم يستمر "حيدر سعيد" ليمارس نقدا آخر لمفهوم الوطنية الذي ساد داخل الثقافة السياسية، ليتوقف عند محاولات التأويل القسري التي طالت التراث الرافديني لصالح التراث القومي العروبي. وهو ما قامت به مؤسسات الدولة مع مساندة بعض النخب المثقفة (ص101).
ويضرب "المؤلف" مثالا سريعا حول التأويل القسري الذي مارسته الدولة الوطنية في العراق، عندما قامت بتأويل رواية موقف رجل الدين الثائر محمد سعيد الحبوبي في سنة 1914 عندما دعا عشائر جنوب العراق لمقاومة الانكليز ومناصرة الدولة العثمانية. فقد أُعيد قراءة هذا الموقف على انه موقف وطني (في حين ان الحبوبي لم يكن يتعامل بمفهوم "الوطن" ولم يكن يدافع عن الوطن العراقي والدولة العراقية، اللذين لم يكونا عنده في حيز"المفكر فيه" بقدر ما كان يدافع عن الامة الاسلامية ودولتها)ص102.
وهكذا الحال مع نموذج ثورة العشرين التي اعيد تأويلها ايضا. بينما يغيب هذا التأويل القسري للماضي الذي يشوهه الحقائق عن المجتمعات الديمقراطية.

ويخلص "الباحث" الى ان الهويات الوطنية، للدولة الوطنية القطرية العربية، هي هويات سياسية وليست ثقافية. بمعنى انها تدلل على كيانات سياسية محددة وحسب. وسوى ذلك من حديث عن الهويات الوطنية في الخطاب العربي يعد حديثا خيانيا (ص24).


الدولة والامة
المعروف ان النموذج السياسي، لشكل الدولة الذي اختاره (العراق) لبناء دولته، هو نموذج الدولة/ الامة، الذي حمّل الدولة مسئولية بناء امة. بخلاف النماذج السياسية الاخرى، التي انبثقت عن أمم مشكلة هي التي تختار شكل دولتها. هذا النموذج السياسي يرى "سعيد" انه كان تركيبا لا تاريخيا بين الدولة والامة، ففي التجربة الغربية ان الدولة هي (شكل مستنبط من، او قائم على امة مشكلة، اما دولتنا الوطنية فهي شكل سياسي لأمة غير موجودة) ص23.
لانها قامت على اساس قومي عربي، وطائفي سني، وتجاهلت بقية الهويات الاخرى التي عملت على صهرها وبالقوة احيانا عديدة، والنتيجة (تكسير فكرة الوطن داخل العراقيين). وبروز الانتماءات الاخرى قومية او طائفية، كما هو الحال في الانتماء القومي الكردي، والانتماء الطائفي الشيعي، (بوصفهما ناتجين لدولة ذات بعد قومي عربي وطائفي سني) (ص25).
ولمعالجة هذا التركيب الشائه، بين الدولة والامة في العراق، يقترح "المؤلف" احد طريقين؛ اما استئناف مشروع بناء الامة، وهو المشروع الذي تبنته الدولة الوطنية لكنها فشلت في اتمامه. او ببناء دولة (لا تفترض وجود امة واحدة، أي دولة تتلاءم مع مجتمع متعدد الهويات، ليس بهوية احادية)ص26.
ولا يخفي "حيدر سعيد" ميله للطريق الثاني، بسبب ان تجربة الطريق الأول أفضت الى اسقاط الجنسية عن اليهود في الخمسينات، وعن آخرين من الشيعة في السبعينيات. والخوف القائم من ان تقوم الدولة بالتحكم وتحديد الانتماء للامة، لأنها ببساطة مسئولة عن مشروع بنائها(ص27).


مسألة الاقليات
واحدة من اكثر المسائل اثارة للجدل ضمن تراث الدولة الوطنية، ليس داخل العراق وحسب، وانما في عموم الجغرافية العربية.
يتناول "المؤلف" هذه المسألة،- بعد ان ثبّت معاينته النقدية حيال عجز الدولة الوطنية، في القيام بتأسيس هوية ثقافية قطرية، عبر قاعدة ثقافية اجتماعية متعددة، بدلا من (الطابع الأحادي) الذي اتخذته- من حيث الاستعمال السياسي لها عربيا ووطنيا، والذي ركّز على سياسة الإدماج، وفرض الهيمنة عليها مطلقا او عبر النبذ والاقصاء. وهنا يرى "المؤلف" ان سياسة الادماج، هي اكثر ايلاما وخطورة؛ (لانها تعني تذويب وإلحاق خصوصيات الأقليات في النسيج الثقافي العربي- الاسلامي، في الوقت الذي تملك فيه القدرة على الادعاء ان هذا الإدماج هو شكل من أشكال التعددية الثقافية) ص40.

وفي المحصلة ان الخاسر الوحيد هو الهوية الوطنية، (الهوية التي لا نريد لها ان تقوم على اختبار هووي مركزي، تدمج وتلحق به التنويعات الأخرى، بل ان تكون بناءً ثقافيا كليا تذوب فيه المراكز) ص41.

تراث الدكتاتورية
موضوع جدلي آخر خاضه "الكاتب" في اولى مقالات الكتاب التي حملت عنوان (المانيا حلم عراقي). المانيا التي يشترك معها العراق بالتراث الدكتاتوري وفي الخلاص منها عبر الولايات المتحدة الامريكية. لكن خلاص العراق بعد 2003، لم يفضي الى دولة ذات اقتصاد قوي، ورفاه اجتماعي، واستقرار سياسي، وشيوع الحريات والحقوق.
لماذا لم يحصل ذلك في العراق؟. هكذا يتسائل "المؤلف" الذي يقوم بسرد فوارق جد مهمة بين التجربتين، على الرغم من ان هناك تماثل بينهما من حيث الاصول الدكتاتورية.
فالمجتمعان مختلفان؛ فذاك مجتمع صناعي، ومجتمعنا ما قبل صناعي. وهو مجتمع حديث، ومجتمعنا محدث بقسّرية مشوهة. مجتمعان لهما تاريخ ديني مختلف، وثقافة سياسية مختلفة (ص19).
يميل "حيدر سعيد" الى عدم تعريف الدكتاتورية تعريفا ماديا وحسب. بمعنى الاكتفاء باستحضار نماذج مفزعة من المعتقلات والسجون، او جرائم الابادة الجماعية، واستعراض لتقنيات التعذيب وادواته. وانما يعتقد ان الاهم في تراث الديكتاتورية في العراق هو دوره بإعادة صياغة علاقة الفرد بالدولة الى علاقة سلبية، أفضت الى صيرورة مجتمع اتكالي، يخلو من روح المبادرة والقدرة على الفعل.
وكذلك تدمير الطبقة الوسطى، وعسكرة المجتمع، وبالتالي خلق مناخ ثأري انتقامي أدى الى سحق الوطنية العراقيية. هذا هو الاطار الذي يجب ان يُفكر فيه كما يرى "سعيد" وهو برأيه مازال (يتحكم بما يجري في العراق الآن)ص20.
والسبيل الى الخلاص من هذا التراث -كما يرى المؤلف- لا ينتهي عند تغيير الافراد، بل بتعديل الثقافة والبنى السسيو سايكلوجية للمجتمع العراقي؟.


حرية الاعلام
همُّ آخر افرد "المؤلف" له حيّزا في الكتاب، لكن ايضا على نحو الاستطراد، ضمن مقالة توقفت امام معاقبة مجلس الحكم (تموز 2003) لقناتي الجزيرة والعربية، وحرمانهما من مزاولة عملهما في العراق.
اسئلة عميقة اثارها في هذه المقالة، حول مستقبل حرية الاعلام في العراق. فهو يبدأ بطرح سؤال غاية في الاهمية، وهو؛ هل يحق للدولة ان تعاقب وسائل الاعلام؟.
هنا يسجل المؤلف أولاً؛ مخاوفه العميقة من ان يتحول هذا السلوك الحكومي (معاقبة القنوات)، الى مبدأ مقبول ومبرر (وشرط يحكم علاقة الدولة بوسائل الاعلام واشكال التعبير في العراق). خصوصا ان العراق يفتقر الى تجربة في ممارسة الاعلام الحر، ما عدا محاولات كانت في بعض فترات الحكم الملكي. واذا ما تم قبول ذلك السلوك واستسهاله فسنرى اعلاما مهادنا خاضعا الى (شروط الدولة واملاءاتها وتصوراتها، بما انه سيضطر الى ذلك خشية العقاب، وسيكون النقد نقد سطحيا قشريا، جزءاً من لعبة ديمقراطية زائفة)ص51.
ويضيف "المؤلف" قلقا اخر، الى قلقه الاول من ان تقوم الدولة بتوظيف انفعالات الشعب لدعم عقاب الدولة لوسائل الاعلام، وهي بذلك تضفي مشروعية شعبية على أي سلوك مستقبلي ضد أي وسيلة اعلامية. ويضع حيدر سعيد مستقبل الاعلام الحر في العراق مرهونا بتحول شامل في فكرة الحرية ص52.



الكتاب.. ولكن

قاد "حيدر سعيد" من خلال مناقشاته المعرفية لمفاهيم جدلية في ثقافة الدولة الوطنية، انقلابا ثقافيا جامحا، ومارس رجا عميقا للادبيات النمطية، للكثير من المفاهيم التي قامت عليها الثقافة السياسية للدولة العراقية. لذا اعتقد بأهمية هذا الكتاب في هذا الاطار، وفي هذا الوقت تحديدا، الذي تشيع فيه فوبيا نقد ثقافة الدولة الوطنية.
كنا نحن اصدقاء المؤلف ننتظر الكتاب الاول لـ"حيدر سعيد" لأهمية الكثير من افكاره الجدلية التي يطرحها عبر مقالات ودراسات المنشورة في العديد من الصحف والمجلات العربية والعراقية. كتاب يناقش بعمق اكثر تلك الافكار، خصوصا اشتغالاته في ثقافة الدولة الوطنية.
إلّا ان كتابه هذا لم يخل من مقالات حشرت فيه عنوة. خصوصا مبحث الملحق، الذي تناول مراجعة انتخابات مجالس المحافظات العراقية في كانون الثاني العام الماضي، والذي اخذ حدود خمسين صفحة، من اصل صفحات الكتاب التي بلغت مائتي صفحة.
كما ان الكتاب ايضا، طرح موضوعات سجالية كبرى، دون ان يفرد لها حيزا اكبر لمناقشتها والخوض في الكثير من تفاصيلها الجدلية.
هذا لا يعني البتّة التقليل من قيمة الكتاب، الذي جمع نثارا من نظريات، كل واحدة منها تنتج كتابا مستقلا.
ربما نجد تبريرا، لو حاكمنا تلك المقالات ضمن السياق الزمني والنصي للمقالة الصحفية.
إلا ان هذا لا يغفر، من وجهة نظري، لباحث كـ"حيدر سعيد" أدّمن البحث على إشكاليات الثقافة الوطنية في العراق، وتعامل مع العديد منها بحاسه أكاديمية معرفية نابهة.
نقرا اعترافا ضمنيا، في بداية هذا الكتاب بهذه الخلل من قبل الكاتب، حول خوفه من ان تؤثر زمانية المقالة على محتواها الإشكالي والنقدي (ان لا حياة للمقالة خارج زمانها المغلق. لكن هي محاولة للخروج) وقد استطاع بالفعل ان يفلت "المؤلف" من زمانية المقالة في بعض مقالات الكتاب، وهذا الافلات هو ما استدعي التوقف عنده هنا..
ربما علينا ان ننتظر عملا اوسع، كما يعدُ بذلك المؤلف (ان مقالات هذا الكتاب هي تمرين على عمل أوسع يحاول ان يكتشف الآليات الثقافية التي اعتمدتها الدولة لبناء هوية البلاد)ص12.










التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. اتفاقية الدفاع المشترك.. واشنطن تشترط على السعودية التطبيع م


.. تصعيد كبير بين حزب الله وإسرائيل بعد قصف متبادل | #غرفة_الأخ




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - الحكومة الإسرائيلية تغلق مكتب الجز


.. وقفة داعمة لغزة في محافظة بنزرت التونسية




.. مسيرات في شوارع مونتريال تؤيد داعمي غزة في أمريكا