الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الشاعر إبراهيم البهرزي عاشق القرية الباحث عن الحرية

جاسم المطير

2010 / 8 / 23
الادب والفن


هو بهرزي أصيل من محافظة ديالى . مقيم ابدي فيها منذ أن أكمل دراسته في كلية الهندسة في الجامعة التكنولوجية ببغداد مضطرا لأربعة أعوام 1976- 1980 على مغادرة قرية صغيرة عشقها عشقا شكسبيريا .
لم أتشرف بالتعرف على الشاعر البهرزي بمعنى أنني لم اكلمه ، وجها لوجه ، ولا حتى تلفونيا . لكنني سمعت صوته العميق خلال الموقع الالكتروني (الحوار المتمدن) أحيانا في قصائد وأحيانا في مقالات . أحيانا أحس صوته النثري واهنا ، محبطا ، يائسا ، وأحيانا صارما كأنه يملك الدواء الوحيد لشفاء العراق والعراقيين ، متمردا في بعض مقالاته ، عن رؤية التنوير وواجبه العملي الحاضر على الأرض ، كما هو حاله في انفعالات مقاله الأخير يوم 19 – 8 – 2010 في الحوار المتمدن المعنون (عن انعدام الوفاء الشيوعي...وأخلاقيات ما بعد الاحتلال ) . غير أنني وجدتُ صوته الشعري في غالب شكله ومضمونه متنورا ، متأملا ، متحركا في البحث عن روح الحقيقة ، ليس في قريته الصغيرة وحدها ، بل في العراق كله .
لقد فكر إبراهيم البهرزي بالبقاء المطلق في قريته ( بهرز ) رغم تطلعاته وتصريحاته الدائمة ، عن مرارة العيش فيها ، حيث تمور في أعماقه الشعرية رغبة السفر ، إلى بلاد التقدم ، أوربا مثلا ، لكي يتعرف على شياطين الشعر والحياة فيها . لكنه لا يشعر بوجود أية كارثة حين يجد أبواب الهجرة ، من المكان القديم إلى الزمان الجديد ، مغلقة أمامه بلا أمل ، فيظل سعيدا حين يستأصل الواقع كل آماله ليبقى أبديا في قرية بهرز ، كي يؤسس تجربة شعرية خاصة ، غير منفصلة عن الواقع القروي ، بل بإقامة علاقة ايجابية مع العالم المادي المحيط به ، المقموع بكل أساليب وشرائع شرور الأقوياء ، بينما ظلت قريته (بهرز) بمستوى القمة في سلسلة مشوقاته ومعشوقاته . لا بد انه لم يضع ، عبثا ، صفة (أول الأسماء) على قريته العشيقة ، معلنا ببساطة أن ليس لها ند في الوجود ، وقد قدم شرحا وافيا لتبرير هذا الموقف ، بما في نتائجه من خير أو شر ، في إحدى قصائده المعنونة (أول الأسماء) التي كتبها في ثمانينات القرن الماضي حيث يستطيع القارئ ان يسبر غور الشاعر من خلال مفرداته وأفكاره المتجمعة في قدرات شعرية دافئة متكاملة فمن أول عنوان هذه القصيدة إلى آخر مفردة من مفرداتها يبدو الشاعر فيها انه ليس حذرا من الاستسلام لسيطرة عشقه لها ، مجادلا نفسه وعشقه حول حقيقة ٍ تعيش خارج سيطرته ، تتعلق بحبه الشديد إلى قريته (بهرز) التي يجد فيها محتوى إنسانيا متكاملا ، متخلفا عن فكره المتقدم . بل نجده هنا يتلاعب بالمعاني المختلفة لكلماته الشعرية من حيث دلالاتها الشعرية( الدواب الحائرات ، مهرجان النار ، النهر معروق الجبين ) من جهة ومن حيث قدراتها التعبيرية من جهة ثانية (تنهيدة محموم ٍ ، شدة الوجد ، سراج البرتقال ) . القصيدة هنا تتخذ موقعاً نقيضاً للأحلام والرؤى ، منطلقة من ارض الواقع المر ، من خلال التباين الفلسفي لكل موضوع من موضوعات القصيدة ومفاهيم علاقة الواقع بالناس في قرية بهرز . لا ادري هل كان إبراهيم البهرزي يلحّ على الإيحاءات الفلسفية المرتبطة بمفهوم المعاناة الذاتية ، رابطاً فكرة موضوعه بفلسفة شباك وفيقة لبدر شاكر السياب ..؟ أم انه استخدم منطقا رمزيا أو معادلة شعرية – فيزيائية بينه وبين قريته بهرز كي يكيل نوعا من المديح للفقراء البهرزيين العاشقين أرضهم وناسهم. .؟
لم يكن موقفه صوفيا متسعا ، لكن يمكن رؤية جذور الصوفية أو الروحية نابتة في أعماقه ، متأملا قريته بكل علاقاتها وظواهرها فصارت بدايتها عنده ، في شعره وفي حياته ، أول الأسماء .
بصورة عامة يجد متلقي الشعر في معظم قصائد البهرزي المنشورة في ديوانه الأول أن رمزيته تتعلق مباشرة بواقع العلاقات الاجتماعية غير المتكافئة في القرية وبواقع التحديدات السياسية المبنية على أشكال متنوعة من الخدع ، التي تبدو رموزا داخل المجموعة الإنسانية في قصائد الديوان كلها تقريبا ، لكنني ما وجدته ذاهبا إلى الخيالي إلا قليلا مثل قصيدته (حدائق منزلية) رغم أن فارق الرمزي عن الخيالي هو فارق لا يتضح عنده إلا قليلا أيضا ، لكن اغلب أبيات قصائده ومفرداتها تداعب التراجيديا الإنسانية عموما وفي كثير من الحالات نجد مداعباته الشعرية في أقصى الحدية الواضحة في نثره لكن هناك فرق بين حدية الشعر في كونها نداء تحت الشمس بينما حدية النثر هي بكاء في ندى الليل .
حب الهندسة وشغفه بدراستها فرض عليه قرارا صعبا ، ذات يوم ، على مغادرة القرية الصغيرة إلى العاصمة الكبيرة حين أكمل دراسته الثانوية لاجئا إلى كلية الهندسة في مدينة كبرى لم يستطع معرفة علة هجوم العالم عليها من قديم الزمان . كما لم يعرف مكونات صفاتها غير انه عرف أن خيرها موجود في شهادة التخرج من الجامعة التكنولوجية مستجمعا القدرة والمعرفة على العودة إلى بهرز .
سرعان ما عاد إليها ،غير آبه بظروف العيش بقرية نائية ، سابحا في دوامة من الآمال ومشكلات العيش الشرس وما يتبع ذلك من هموم وإرهاق ، لكنه كما يبدو ، يحب سكينة القرية وحبورها حيث تحت ظلال أشجار البرتقال والنخيل والكروم أصبح ملما بكل تفاصيل حياة البستاني في قريته ، ملما بالبيئة القروية ، وظروف الزراعة ، وعنف بعض الطيور والجرذان والحشرات التي تهاجم ثمارها ، متعقبا آثار كل تلك البيئة التي تقدم التنازلات المتعاقبة أمام طحالب تؤدي واجباتها ، كقوة ضارة ، معتبرا أشجار البساتين فاقدة حريتها أيضا .( أنظر مقالته في الحوار المتمدن بعنوان البستاني في أيامه وأعماله بتاريخ 23 – 5 – 2010 ) . من خلال دورة حياته القروية المتميزة بنوع من السعادة الملتصقة ببحثه عن أسلوب إبداعي متميز به ، يتعامل به مع مجتمع قريته (بهرز) ومع مضطهدي ناسها وطبيعتها الخلابة . وباعتباره إنسانا حرا لا يريد أن يذل نفسه ووعيه ، فقد أتقن الشعر الإنساني ، الذي لا يخلو من (المحذوف) أحيانا ومن (الرموز) في أحيان أخرى إذ لم يكن مكان ولادته وعشقه ، عالما وحيدا صغيرا ، كعش الطير يفرش فيه شعره ، بل كان عالمه الشعري في العراق كله .. قصائده السياسية والعاطفية تعني لديه الحرية حين يجسد القول في قصيدته الطيور :
أسراب الطيور تجر الغيوم من ياقاتها البيض
ذلك المعنى الموغل في الحرية
استخدم البهرزي ذكاءه الشعري القروي ليتمكن من الاستمرار في الكتابة عن الحرية فوجد حتى النمل يعاني من معاناة البحث عن الحرية إذ يقول في ذات القصيدة :
ينقل النمل موتاه
إلى أمكنة غامضة
ربما تكون الحرية
لم أتعرف على الشاعر العراقي إبراهيم البهرزي ، إلا بفضل الانترنت ، حين صار العالم البعيد قريبا ، بعد أن تحققت نبوءة ماركوس اورليوس ، الإمبراطور الروماني القائل : ( إن كوكب الأرض بكامله مجرد نقطة ، وموقع سكننا الخاص مجرد زاوية متناهية الصغر منها .. ) . كنت اطل على أفكار القروي البهرزي إبراهيم في إشعاره ومقالاته ، التي ينشرها في قلعة الحرية الصغيرة المسماة ( موقع الحوار المتمدن) لأجد فيها برجا قرويا عراقيا أتخيله سجنا وعبودية ، يتحرك فيه الناس ، بعيدا عنه للبحث عن الحرية ، لكن في أوائل شهر آب 2010 وصلتني سفينة الحرية حاملة الديوان الشعري الأول والوحيد لشاعر يدور في منصة القرية الصغيرة ، بهرز ــ ديالى ، يريد منها أن يحدد طريق اكتشاف الحرية من العراق وإليه ، وما يكتنفه هذا الطريق من غموض ومآس ونكبات . كان اسم الديوان (صفير الجوال في آخر الليل) . أما ربان السفينة التي حملت الديوان ، هدية لي من الشاعر نفسه ، فقد كان هو الصديق عباس ناجي العائد من العراق لمقر إقامته في لاهاي ، مدينتي ومدينة الحرية العظمى في الكون كله .
ذات يوم من عام 1998 كتبت في رسالة إلى عبد الوهاب البياتي :( إذا كانت القرية العراقية قد اكتفت بأن علمتنا في الطفولة أن الأرض كروية فقد علمتنا القرية الهولندية أن الأرض حرية .. ). بعد أيام قليلة من كتابة تلك الرسالة اكتشفت من خلال أقامتي في قرية ديكوخ الهولندية أن الحرية وحدها ساعدت الإنسان على اكتشاف أسرار كروية الأرض . أما اليوم فقد وجدت ديوان الشاعر البهرزي قد ألقى بنفسه في أعماق البحر العراقي المتلاطم ، كي يبحث عن الحرية في قصائده ، لينقلها إلى سطح الأرض العراقية الغنية بكل ثمار الطبيعة ، ما عدا الحرية ، التي داست الدولة ومؤسساتها القمعية على جذورها ونباتها :
في كل خضرة تعتلي خشبا
أو تتمرغ بروح قطة ٍ ودودة ٍ
تكشر في الظلام حمرة الدم الخجلى
عن وسن متأوه
لروح ٍ أرادت المرور بين أزقة الأسلحة
مطمئنة لظلها الأبيض
وهو يمزج الشمس بالمطر
مع كل إشارة في بيت من قصيدة بهرزية ، نرى اشتمال صوره إلى إشارة لوجود إنسان عراقي محروم من الحرية لأن مقر إدارة الحرية في العراق لم يكن بيد الإنسان العراقي ، بل بيد الدولة المتعاقبة على حكم شئون الناس والحياة ، يتسلط عليها بشر جهلة لا يعرفون المسافة بين الأرض والقمر ، وهم بالتالي ، لا يعرفون الفرق بين الحرية والعبودية . لذلك يصورها إبراهيم البهرزي في إحدى قصائده ( أمكم تموت) بالقول:
أيها الذين لا يسمعون أزيز الكمد
وجهشة الأنهار في تطوافها الخجول على المدن الكابية
أيها الذين من لحمنا المجرب كشطا وخرقا
بكل مهاميز الفرسان الأجلاف
أيها الذين يقولون في موتنا المقيم باطل الشبهات
لم تمح الذكرى بعد من مسلة الرؤوس السود
ورغم نفاد الهواء تماما
فان القلوب تحلق من حرها
قرب مشتى الغيوم
في قصيدتها كلها كان إبراهيم البهرزي يجتهد في رسم شكل شعري خاص . فيه شيء من الفوتوغراف ، والجغرافيا ، والإشارة المباشرة إلى علاقة (الذين يكشطون ويخرقون جلود الناس) . وإذا ما اطلعنا على القصيدة بكاملها فأن بناء شكلها وقياسات معمارها ، كلها ، جعلته قادرا على فض الغشاء الرقيق المحيط بالحاكمين الذين يتفانون بحرمان الناس من حريتهم دافعين إياهم إلى ( الهروب قرب مشتى الغيوم ) .
القصيدة التي أشرت لها آنفا تدور بين مجموعتين من الناس . المجموعة الأولى وصفهم بــ(الذين) والثانية هم أصحاب (الموت المقيم) . هنا عملية جمع بين شكل (رومانسي) ومضمون (واقعي) أي بين سالبي الحرية والباحثين عنها ، بين الفرسان الأجلاف والناس الذين نفد الهواء عنهم . غير أن البهرزي لم يبعد نفسه عن براعة الأداء الشعري العام بشكل الحزن ، العميق ، الكامن في أعماقه ، القريبة من أحزان الناس جميعا حيث يتصور :
الأرض التي فوق أرضنا
مجدومة بالطيور
كأنها شراك للصيادين الساهين
ثم يرسم القول
يا طيورا تفضضي بالعناد
هل الدموع القديمة بريد مرتجع
لشمعة لئيمة
لا توصي بغير السخام ..؟
هل أنا قفل
في ذلك الباب الخشبي
ينتظر يد الحكومة
لكي تبصم بالشمع الأحمر
على وسائد الهروب
وتكايا المطارحات
جسد جميل أنت أيتها الطيور يتشكل في المحرمات العتيقة
يا عذرة الزمان الباذخ
يا دمها الملول على رشاقة الفخذ السريع
يا عبورا يشبه الدمعة خلال مران طفل على الدلال
أنا لن أطير
لأن الحرية لم تأت بالمظلات
ولم اطر
لان صاحبي مخلوع عن النداء
ولا أطير
لأن الملابس هي حبال الرعاة
الذين لا يتوسمون دروبا
بغير آثار القطعان
صارت الحرية ، بنظره ، تراجيديا رغم أنّني لا استطيع تأويل معانيه عن الحرية وأفكارها عنده إن كان هدفها تدمير البنية الفكرية – السياسية في نظام صدام حسين الاستبدادي أو ربما استلهمها من البنية الشعرية الجلجامشية التي فرضت نفسها بأشكال متنوعة ومختلفة على القصيدة العراقية . لكنه ، برأيي ، استلهمها من الطيور التي بانت لنا أنها في العراق تعاني من الخيبة التامة ، الشاملة . الآمال خائبة ، المعرفة خائبة ، الرغبات خائبة ، الناس خائبون ، الراحلون خائبون ، الباقون خائبون . من هذه الرومانسية نكتشف أسبابا أخلاقية واجتماعية . من روح قصيدة الطيور نرى تأكيدا على وجود الصراع بين الرومانسية والواقعية في عملية الطيران ، الباحث عن الحرية ، حيث لا يجد الطير العراقي في نهاية المطاف أن السماء أمامه منفتحة كلها أو مغلقة كلها . ليس من إمكانية الانتقال من مكان إلى مكان آخر ، ثم لا يجد غير العزلة والوحدة .
ربما هذه هي حال الشاعر إبراهيم البهرزي نفسه حيث ظل في قريته بهرز مكتف بإطلاق قصائده الشعرية الاحتجاجية متوجها منها إلى ( المجموع الإنساني ) وليس إلى (البطل الفرد المحدود ) أي إلى قرائه العراقيين المختبئين في كل العالم ، عبر كفاءة الطائر الحر الأعظم ، طائر المواقع الالكترونية ، ناشرا (صفير الجوال في آخر الليل) .
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بصرة لاهاي في 15 – 8 – 2010








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - رائع
رحيم الغالبي ( 2010 / 8 / 23 - 21:54 )
رائع كتب عن رائع
صدرت محكوعتي الشعريه
حسرمن طبن
سوف تصلكم

المقدمه بقلم عبد الكريم هداد منشورات مجلة الشراره للحزب الشيوعي في النجف
منشور عنها في موقع الخزب الشيوعي العراقي وبعض المواقع
http://m1.ankido.net/news.php?action=view&id=42263تحياتي
موغ الهرزي هنا منشور في مجلة انكيدو مع صورته


2 - ورود من بلادي
الحكيم البابلي ( 2010 / 8 / 25 - 07:09 )
مُفرحٌ جداً تثمينك هذا لشاعر الشعب والفقراء المُبدع ابراهيم البهرزي
دائماً أجد في حروف وكلمات البهرزي تلك الروح العراقية التي لم تتبدل بتبدل الظروف ، بل بقيت لتذكرنا بالنموذج الأصيل لإنسان ما بين النهرين
كم كنتُ أتمنى لو كانت دولتنا العراقية تهتم بالمُبدعين من أبنائها ، لكنه زمن المسوخ ، والسقوط ، ومن بحاجة لشاعر في دولة العهر والإبتذال ؟
شكراً صديقنا العزيز جاسم المطير على هذا التقييم لشاعرنا البهرزي
تمتعتُ جداً بقراءة المقال
تحياتي

اخر الافلام

.. ستايل توك مع شيرين حمدي - عارضة الأزياء فيفيان عوض بتعمل إيه


.. لتسليط الضوء على محنة أهل غزة.. فنانة يمنية تكرس لوحاتها لخد




.. ما هي اكبر اساءة تعرّضت لها نوال الزغبي ؟ ??


.. الفنان سامو زين يكشف لصباح العربية تفاصيل فيلمه الجديد




.. الفنان سامو زين ضيف صباح العربية