الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


في معنى ألأسطورة

سعيد عدنان
كاتب

(Saeed Adnan)

2010 / 8 / 25
الادب والفن




إذا كان معنى الأسطورة يرد في المعجمات العربية على أنه : (الأباطيل والأكاذيب ، والأحاديث التي لا نظام لها) (1) ، وإذا كانت في تلك المعجمات ترجع إلى الفعل : (سطر) (قال الليث يقال : سطر فلان علينا يسطر ، إذا جاء بأحاديث تشبه الباطل ، يقال هو يسطر ما لا أصل له ، أي يؤلف) (2) وإذا كان من دلالة (سطر) أن يقال : (سطر فلان على فلان إذا زخرف له الأقاويل ونمقها ، وتلك الأقاويل الأساطير) (3) أقول إذا كان معنى الأسطورة يرد في المعجمات العربية على هذا النحو مما يجعلها أكاذيب وأباطيل تنأى عن الحق والصواب فذلك لأن هذه المعجمات وضعت في عصر يهيمن عليه النهج العقلي في المعرفة من حيث الترابط العلّي وانفصال الذات العارفة عن موضوع المعرفة .
ولقد كان العقل حارب الأسطورة ورماها بأنها أكاذيب لا نصيب للحق فيها ، وكانت الثقافة اليونانية ميدان تلك المحاربة ، ولعل الفيلسوف أفلاطون كان أقوى أولئك المحاربين الذين حاولوا أن يقصوا الأسطورة ويؤسسوا النهج العقلي المنطقي الذي كتب له أن يسود الفكر البشري قرونا متطاولة ، كانت الأسطورة فيها موضع ريبة وإنها قرينة الباطل والجهل ، فلا غرو بعد هذا أن يرد معناها في المعجمات العربية موصولا بالأكاذيب فليس بمقدور تلك المعجمات أن تفارق حدود عصرها .
ولم تكن الأسطورة موضع ريبة عند أصحاب المعجمات العربية وحدهم بل هي كذلك في الثقافات الأخرى حتى تهيأت الأسباب المعرفية لنشوء قراءة أخرى للأسطورة ، ولقد جاءت مقومات هذه القراءة الجديدة من حقل الدراسات الاجتماعية ومن الإنثروبولوجيا منها على نحو أدق ، لقد شرعت هذه الدراسات تتناول المجتمعات البدائية في نسيج أفكارها ومعتقداتها وترجع منها إلى جماعات البشرية الأولى التي أخذ علماء الآثار القديمة بدراستها في ما تركت من آثار مادية شاخصة أو مندثرة ، وفي ما بقي منها من رقم طينية . لقد أعادت هذه الدراسات النظر في الأسطورة فإذا بها مستودع فكر قديم ، ولكن كنه الأسطورة لم يتضح وبقي مراوغا لا يكاد يستقر على أبعاد ثابتة . يقول القديس أوغسطين : إنني أعرف جيدا ما الأسطورة ، بشرط ألّا يسألني أحد عنها ، ولكن إذا ما سئلت ، وأردت الجواب فسوف يعتريني التلكؤ (4)، غير أن الباحثين سعوا أن يعرفوا الأسطورة ، كل ينطلق من حقل تخصصه ، ذلك أن الأسطورة تمتد في كثير من حقول المعرفة ، يقول أصحاب علم الاجتماع : (الأسطورة هي معلومات قصصية منظمة تدور حول المعتقدات الميتافيزيقية أو أصول الكون أو المؤسسات الاجتماعية أو تاريخ شعب من الشعوب ، ووظيفة الأسطورة لأبناء المجتمع هي تسجيل وعرض النظام الأخلاقي الذي بواسطته يمكن تنظيم وتشريع المواقف والأحداث الاجتماعية) (5)ويقول الآثاريون : (كان الأقدمون يقصون الأساطير عوضاً عن القيام بالتحليل والاستنتاج) (6)، ويرون أيضاً أن (الأسطورة ضرب من الشعر يسمو على الشعر بإعلانه عن حقيقة ما ، ضرب من التعليل العقلي يسمو على التعليل بأنه يبغي إحداث الحقيقة التي يعلن عنها ، ضرب من الفعل ، أو الملكة المراسيمية ، لا يجد تحقيقه بالفعل نفسه ، ولكن عليه أن يعلن ويوسع شكلاً شعرياً من أشكال الحقيقة) (7) .
كان الإنسان يواجه الطبيعة في تحولاتها ، وما يطرأ عليها وما توقعه به من أذى ومن خير ، وهو لا يستطيع لما يرى تفسيراً ، ولا يقوى أن يسيطر عليه ، كان مأخوذاً بعناصر الطبيعة ، وكان يرى منها ما يتسم بالخير إذ يكون عوناً له ، ومنها ما يتسم بالشر إذ يلحقه منه الضرر ، كان الإنسان في حقبه الأولى يواجه الطبيعة ممتلئاً بالخوف ، خافقاً قلبه بالرجاء ، وكان السبيل المتاح له أن يندمج بالطبيعة ويرى نفسه بعضا منه ، ويراها منه ، وينسج حكايات بينه وبينها كانت تنطوي على نمط من التفسير وكانت تسعى إلى سيطرة ما على عناصر الطبيعة وهي في أثناء ذلك تحتوي على قيم ومثل تحكم سلوك الإنسان .
كانت تلك الحكايات هي الأساطير ، ولقد نشأت ذات منحى أدبي ، كانت الأسطورة أدبا يتوخى حسن الصياغة والتأثير في الآخرين بما تحمل من مشاعر يلتقي صانع الأسطورة ومتلقيها عليها ، كانت الأسطورة تتغلغل في أعماق الإنسان وتلامس أدق ما فيه وتعبر عن ذلك على نحو مجازي .
ويعرف معجم مصطلحات الأدب الأسطورة بأنها (قصة خرافية يسودها الخيال ، وتبرز فيها قوى الطبيعة في صور كائنات حية ذات شخصية ممتازة ويبني عليها الأدب الشعبي) (8)ويرى المعجم أيضا : (أنها محاولة لتفسير صعوبة فهم النظم الكونية كما تبدو للإنسانية) (9) .



وللأسطورة جملة وظائف :
1- التفسيرية : أي الأسطورة بمثابة تفسير يقوم به الإنسان لأسرار لا يفهمها . إذ تعطي عنصرا بشريا معقولا لظواهر الطبيعة عن طريق تجسيد القوى غير المفهومة في شكل آلهة أو كائنات خارقة للعادة . وقد تفيد الأسطورة أيضا بان تعطي تفسيراً قصصياً شبه منطقي لتجارب الإنسان في حياته اليومية ، فالشعور بعبث جهوده في الدنيا تمثل له أسطورة سيزيف وهو محكوم عليه بدفع صخرة إلى قمة جبل ، ثم تتدحرج إلى أسفله فيضطر إلى دفعها ثانية وهكذا أبد الآبدين .
2- الأخلاقية التعليمية : وغايتها أن توصل نهجا من الأخلاق وأن تحافظ عليه كمثل أساطير العصيان للأوامر الإلهية الذي يتسبب عنه العقاب .
3- التعويضية : وهي التي تحرر شعور الإنسان بالنقص والضعف ، ومثلها : الأساطير التي ترتبط بشخصية بطولية عظيمة تاريخية كانت أم خرافية فكأن الإنسان يستعيض بقوة هذه الشخصية من ضعفه .
4- النفسية : وهي ترتبط بأحلام البشر وتصوراتهم الرمزية لأشياء أو حيوانات خرافية تومئ إلى تجاربه النفسية في الحياة ومخاوفه وآماله . (10) نشأت الأسطورة أدبا بمالها من سرد ومن صياغة لفظية ومن مشاعر إنسانية عميقة ، ولعل الأدب والأسطورة في الحقب الأولى كانا شيئاً واحداً ثم أخذت الأشياء تتضح معالمها ويستقل بعضها عن البعض الآخر ، وشرع الأدب يتخذ مسارا أدبيا بأنواعه وصياغته وقضاياه التي يعالجها ولكنه ظل وثيق الصلة بالأسطورة يستقي منها مادته ولكنه يعالجها بطريقة أدبية خالصة . كانت ملحمة جلجامش من أوائل الآثار الأدبية في العالم كله وكانت مادتها مستقاة من الأساطير ، ومثلها ملحمتا هوميروس : الإلياذة والأوديسة فلقد اختلط التاريخ فيهما بالأسطورة حتى بدت الأسطورة تاريخاً ، وبدا التاريخ أسطورة . ثم كانت هاتان الملحمتان نبع الأدب المسرحي اليوناني ، فلقد عاد شعراء التراجيديا الى هاتين الملحمتين يمتحون منها المادة التي يقيمون عليها مسرحياتهم . (ولقد كان اسخليوس أبو التراجيديا اليونانية يقول إنه إنما يلتقط ما يسقط من مائدة هوميروس) (11) .
ولعل أشهر مسرحية في تاريخ الفن المسرحي التراجيدي مسرحية (أوديب ملكاً) لسوفوكلس ، وإنما تقوم هذه المسرحية على أسطورة (أوديب) ولم تلهم هذه الأسطورة سوفوكلس وحده ، بل ألهمت كتابا مسرحيين كثيرين على مدى أزمان متطاولة كان منهم في هذا العصر جان كوكتو وأندريه جيد الفرنسيان وكان منهم توفيق الحكيم ، وكل عصر ، بل وكل كاتب يعيد خلق هذه الأسطورة من جديد لكي تعبر عن القضية التي يروم التعبير عنها .

ولما كانت الأسطورة في أصل نشأتها الأولى متغلغلة في أعماق الإنسان فإنها نافذة على خبايا اللاوعي . وقد اتخذ منها فرويد سبيلاً يصله الى مكان أعماق الإنسان فرأى في أسطورة (أوديب) تصويراً لعقدة نفسية مستحكمة في نفوس الرجال دعاها (عقدة أوديب) ومن معنى ذلك أن الأسطورة عبرت عن حقيقة نفسية منذ أزمان بعيدة ولكنه تعبير قصصي يتخذ الأمثولات طريقاً له ، وليس مهيئاً أن يقارب التحديد الذي هو سمة العلم .
فما أبعد هذه النظرة إلى الأسطورة من النظرة التي كانت ترى فيها باطلاً وأكاذيب ملفقة !!
ومكان الأسطورة من الشعر الحديث شئ لا خفاء فيه فلقد اتكأ عليها الشعراء كثيراً وليس حتماً أن يكون كل استعمال للأسطورة في الشعر موفقاً فما أكثر ما أخفق الشعراء في ذلك وكأن شرط الاستعمال أن يكون الشاعر ذا موهبة قادرة على تمثل الأسطورة القديمة ووصلها بما هو كائن بحيث تكون وسيلة في اتساع المعنى وعمق الدلالة ولا تكون عبئاً يثقل القصيدة .
إن الأسطورة بيد الشاعر الكبير أداة تزيد من مدى التجربة ولكنها عند الشاعر الضعيف أحالة على رُقم ميتة .
ولا ريب في أن (الوشائج بين الأسطوري والأدبي المجرد تضئ عدة جوانب من التخييل) (12)
لما كان الأدب على صلة وثيقة بالأسطورة ، ولما كانت الأسطورة قديمة النفاذ إلى الأدب نشأ منهج نقدي دُعي المنهج الأسطوري يعالج ما في الأدب من شظايا الأسطورة ، ومما يذهب إليه هذا المنهج أن الأسطورة ليست مجرد رافد مساهم ، بل هي الرحم التي يخرج منها الأدب (13)
لقد كان نورثروب فراي من أوائل النقاد الذين سعوا إلى تأسيس المنهج الأسطوري ، وقد بسط ذلك في كتابه (تشريح النقد) ومما يعزز هذا المنهج أنه يستكشف النماذج البدئية التي ما تنفك تتكرر في الأدب لأنها على ما يذهب إليه يونج ، مستقرة في اللاوعي الجماعي الذي تكون لدى الإنسان القديم في عصر ما قبل الحضارة ، ثم شرع ينتقل في الأذهان من عصر إلى عصر ، ولعل سر الأعمال الأدبية الخالدة يرجع إلى أنها تستعيد تلك النماذج على نحو ما .
إن الأسطورة رسالة الإنسان القديم إلى الإنسان المعاصر ، وكل حضارة تقرأ الأسطورة بما يتاح لها من وسائل القراءة .



(1) تاج العروس مادة سطر . وينظر : لسان العرب مادة سطر .
(2) تاج العروس 12: 26.
(3) لسان العرب 7: 182 .
(4) ينظر الاسطورة ، ك . راثفين ، ترجمة : جعفر صادق الخليفي : 9 .
(5) معجم علم الاجتماع . تحرير : دينكن ميشيل . ترجمة د. احسان محمد الحسن : 210 .
(6) ما قبل الفلسفة ، تأليف : فرانكفورت وجماعته ، ترجمة جبرا ابراهيم جبرا : 17 .
(7) نفسه : 19 .
(8) معجم مصطلحات الادب ، مجدي وهبة : 338 .
(9) نفسه ،
(10) ينظر معجم مصطلحات الادب : 339 .
(11) على هامش السيرة ، طه حسين ، 1: ز .
(12) تشريح النقد . نورثروب فراي ، ترجمة وتقديم : محيي الدين صبحي : 202 .
(13) ينظر مقالة في النقد . غرهام هو ، ترجمة محيي الدين صبحي : 172 .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. فلاشلايت... ما الفرق بين المسرح والسينما والستاند أب؟


.. -بيروت اند بيوند- : مشروع تجاوز حدود لبنان في دعم الموسيقى ا




.. صباح العربية | الفنان السعودي سعود أحمد يكشف سر حبه للراحل ط


.. فيلم تسجيلي عن مجمع هاير مصر للصناعات الإلكترونية




.. جبهة الخلاص الوطني تصف الانتخابات الرئاسية بالمسرحية في تونس