الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


طبقات الشعراء

صبحي حديدي

2004 / 8 / 31
الادب والفن


في صحيفة "الشرق الأوسط" كتب الزميل محي الدين اللاذقاني: "بدأت الحكاية بمزحة تحريضية عابرة، ثمّ تحولت إلى جد. فقد سألني بلدياتي صبحي حديدي على مسمع من جمهور يقظ: من هم الأربعة الكبار في الشعر العربي؟ وأجبت بعد تردد بما أسعفتني به البديهة ثم التقط الخيط الناقد المصري محمد عبد المطلب لندخل جميعاً في متاهة نقدية طريفة تحيي تراث ابن سلام الجمحي الذي قسم الشعراء إلى مراتب وطبقات".
ثم يمضي اللاذقاني في تطوير فكرة تصانيف الشعراء، على أساس الجغرافيا أو طبيعة الشعر وأسلوبه، ليخلص إلى القول: "على علات هذا النقد لا بأس من ممارسته بعض الأحيان من باب تشجيع الشعراء على المنافسة والتجويد، بحيث يصبح المتأخرون منهم مثل نوادي الدرجة الثانية والثالثة التي تقاتل بشراسة وبمهارات فنية عالية للارتفاع إلى الدرجة الأولى".
بادىء ذي بدء سوف يفهم القارىء، محقاً تماماً، أنني أنا الذي بادرت إلى طرح هذا السؤال على بلدياتي اللاذقاني، من قبيل المزاح أو التحريض. ثمّ سيكون من حقّ البعض أن يتساءل، محقاً تماماً هنا أيضاً: ألا ينطوي السؤال على نزعة تصنيف قسرية وسكونية، وربما ساذجة بالمعاني النقدية والمعرفية والمنهجية؟ وأخيراً، لا مناص من أن يسأل سائل: ولكن... عن أيّ شعر نتحدّث؟ في أيّ عصر عاش أو يعيش الأربعة الكبار؟ أهم أحياء أم أموات؟ أليس مجرّد الإفتاء في أمر كهذا هو إلى خبط عشواء أقرب؟
المدهش أنّ بلدياتي اللاذقاني عفّ تماماً عن ذكر السياق الذي شهد السؤال والجواب، الأمر الذي يلزمني بتبيان الواقعة كما جرت، قبل أيام معدودات في الواقع. كنّا في أصيلة المغربية، أثناء الجلسة الأولى من ندوة تكريم الشاعر البحريني الصديق قاسم حداد، حين طلب اللاذقاني الكلام للتعليق على ما قُدّم من أوراق وشهادات. ولقد أطرى شعر وشخص حدّاد، فبدأ بالقول إنه بين الأربعة الكبار في الشعر العربي، ثمّ تابع كلامه، وأنهاه دون أن يسمّي الثلاثة الكبار الآخرين.
ولما كان حظّي شاء أن أكون رئيس تلك الجلسة، ولم يكن من اللائق أن أغضّ النظر عن تصريح جوهري يخصّ الشاعر المكرّم موضوع الجلسة، فقد طلبت من بلدياتي أن يذكر الثلاثة الآخرين، ليس البتة من باب التحريض أو المزاح كما يوحي، بل بدافع تطوير النقاش لصالح الشاعر المحتفى به. ذكر اللاذقاني محمود درويش وأدونيس، ثمّ تردّد حول الثالث، واستدرك بعدئذ ليقول إنّ اللائحة لا يمكن إلا أن تشمل نزار قباني ومحمد الماغوط، ثمّ ذهب إلى مصر وصلاح عبد الصبور، فالمغرب ومحمد بنيس، وكادت لائحة الأربعة أن تنقلب إلى لائحة العشرة، أو أكثر ربما!
ولست أدري، بالطبع، السبب الذي جعل اللاذقاني يهمل تفصيل السياق أعلاه، بحيث بدا أنّني كنت في موقع السائل، وكان هو في موقع المجيب... هكذا، دون أيّ ذكر لندوة تكريم قاسم حدّاد، ومنتدى أصيلة، ولائحة الأربعة الكبار التي اقترحها هو وليس أيّ أحد سواه! والأمر مدهش في الواقع، لأنّ اللاذقاني لا يبدو على خصام تامّ مع ذلك النقد الذي يصنّف الشعراء إلى مراتب، بل هو تارة يقتبس محمد بن سلاّم الجمحي و"طبقات الشعراء"، وطوراً يضرب النوادي الرياضية مثالاً أمام الشعراء الراغبين في التجويد. فما الذي جعله يعفّ عن ذكر طبقاته، كما بادر طائعاً إلى طرحها في أصيلة؟
وبصرف النظر عن نقاش كهذا، يظلّ قاسم حدّاد شاعراً فريداً يقيم في جغرافية شعرية فريدة، فرضت عليه ــ فأدّي على نحو رفيع بديع ــ دوراً ريادياً مزدوجاً: الأوّل جمالي ـ إبداعي يتّصل بضرب المثال الشعري كتابةً وخيارات، والثاني ثقافي ـ سوسيولوجي يتّصل بضرب المثال الإنشقاقي سلوكاً وعقيدة. ولعلّ النبرة الكفاحية العالية في قصائد قاسم حدّاد الأولي (مجموعاته: "البشارة"،1970؛ "خروج رأس الحسين من المدن الخائنة"، 1972؛ و"الدم الثاني"، 1971، بصفة خاصة)؛ وحقيقة كتابته لعدد كبير من القصائد وهو في المعتقل؛ وتنقّله المَرِن بين شكل التفعيلة وشكل قصيدة النثر؛ كانت بمثابة أمثولات بادية للعيان تماماً، حاضرة في مشروعات التحديث المحليّة الشابّة (الخليجية) ومتواصلة مع مشروعات التحديث العربية (الناجزة بهذا القدر أو ذاك في "المراكز" الشعرية مثل بغداد وبيروت والقاهرة)، وقادرة أبداً على المساهمة والإغناء والإغتناء، محليّاً وعربياً في آن معاً.
هذه، في عبارة أخرى، هي سياسة التجديد التي تتجاوز مهامّ تكريس التيّار الأدبي، وتكتسب وظيفة ثقافية ـ سوسيولوجية عميقة الأثر حين تعبر حدود تطوير الأساليب والأشكال والأغراض، وحين تحضّ على المقاومة في النصّ الأدبي مثل المقاومة في السلوك الإنساني، وتدافع عن مقترحات جمالية وأخرى فكرية، وترسل جوهرياً رسالة الإنشقاق البنّاء: عن السائد في الكتابة (مبنى ومعنى، شكلاً ولغة وموضوعات)، وعن السائد خارج الكتابة (النظام والمؤسسة، السياسة والأخلاق).
... بمعزل، مرّة ثانية، عن أية تصانيف تضعه في عداد الأربعة أو العشرة. مَن ذا الذي يعبأ كثيراً بلوائح مثل هذه، في نهاية المطاف؟








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. يسعدنى إقامة حفلاتى فى مصر.. كاظم الساهر يتحدث عن العاصمة ال


.. كاظم الساهر: العاصمة الإدارية الجديدة مبهرة ويسعدنى إقامة حف




.. صعوبات واجهت الفنان أيمن عبد السلام في تجسيد أدواره


.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث لصباح العربية عن فن الدوبلاج




.. الفنان أيمن عبد السلام يتحدث عن أسباب نجاح شخصية دانيال في ل