الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


صقر أبو عيده والدوران حول بؤرة الألم

غريب عسقلاني

2010 / 8 / 29
الادب والفن


غريب عسقلاني – مقاربة نقدية

صقر أبو عيده والدوران حول بؤرة الألم

يعود الشاعر صقر أبو عيده إلى المشهد الشعري الفلسطيني, بعد غياب طال, فقد عرفناه شاعرا وطنيا واعدا, يتلمس طريقه على الساحة الأدبية الغزية, حيث كان الصدام مع المحتل فعلا يوميا انعكس على الخطاب الشعري وأعطاه بعدا تحريضيا يعكس ويوثق المعاناة في ظل الاحتلال, وقد تجلى آنذاك في أشعار عبد اللطيف عقل وسميرة الخطيب وليلى كرنيك وخليل توما, كما ظهر في أشعار الشباب أمثال عبد الناصر صالح ووليد الهليس وحسن خضر وتوفيق الحاج وصقر أبو عيدة وغيرهم في الضفة الغربية وقطاع غزة, وقد تميزت تلك الفترة بانخراط معظم المبدعين في الفعل الوطني, ودفعوا الثمن اعتقالا وملاحقة و وتحديد إقامة وملاحقة في سبل العيش, مما جعل البعض منهم يلجأ لمغادرة الوطن إلى المنافي, وفي هذا المناخ وتحت وطأة الظروف غادر شاعرنا القطاع إلى الخليج ولم يصلنا من أشعاره سوى شذرات تظهر في الصحافة على فترات متباعدة, مما أوحى لنا أن مكابدات الحياة أخذته بعيدا عن شطآن القصيدة..
لكن شاعرنا لم يكن ممن قصفتهم المنافي وجففت فيهم ينابيع الإبداع, فنصوصه التي ينشرها تباعا في المواقع الالكترونية وبعض المنابر الورقية, تؤكد أنه يمتلك دفقا شعريا ينضح من ماء زلال, وأن البرعم الذي تفتح في أتون غزة بقي صامدا يتغذى على المعرفة والمعاناة, وأن السكون الظاهري كان كمونا للانفلات بطاقة أخرى وتوجهات مختلفة, ترتكز على اطلاع واسع على الشعر قديمه وحديثه, مع استقصاء لأسرار اللغة من بئرها الأولى القرآن الكريم وكتب السنة الشريفة والتراث العربي القديم, التي لا تخذل طالبا, ولا ترد متأملا تؤرقه المعاني الساكنة خلف الكلام, كما تشير النصوص إلى التزام ديني نظيف يقف عند صوفية المتأمل القانع بأقداره, المفكر بتجاوزها ما أمكن, لذلك نراه يبكي غياب الإنسان في الإنسان, يتألم لدرجة الذهول مما يحدث في الوطن, يذرف دمع المحروم من الوسائد الأولى, وينعى ذوبان أيامه في المنافي تحت إلحاح الحاجة, حاملا معه وطنه وعشيرته وعلاقاته الاجتماعية والوطنية همًا يوميا, وينتظر بشوق الواثق انفتاح كوة الرحمة في سماء الله الواسعة.
الدوران حول بؤرة المعاناة:
تدور قصائد الديوان حول معاناة الشاعر المغترب ومكابداته بعيدا عن الوطن والأهل والعشيرة, راصدا الهم الجماعي من خلال تداعياته اليومية وانفعالاته وردود أفعاله لما يتعرض له كفلسطيني يعيش الحالة على مدار الوقت, يظهر ذلك جليا من خلال انصهار الكاتب بما يدور في الوطن من أحداث وما يلاقي هو من مكابدات على المستوى الشخصي, يعيد سرد الحالة في كل مرة على وجه جديد, فتبدو القصائد فصول لتفاصيل الحكاية, وكأنه يكتب السيرة من جديد لتبدو
القصيدة نصا محمولا على جناح الشعر, ففي قصيدة "سَفَــــر" يتناول الموت في النفى وغربة الفلسطيني حتى بعد موته :

فما عادتْ لهُ جُثّـهْ
وجسمٌ دُسَّ في الغربَـهْ
فلم يرجعْ إلى حُضنٍ ولا قُبْلهْ
ولم تُسْرجْ له خيلٌ
فعينُ الأمّ قد غابتْ لها شمعهْ
وما رقَدَتْ على أجفانها دمعهْ

ويتكرر الأمر قصيده "لآمِنَة..عِطْرُ الثَّرَى" مع فجيعته بفقد أخته التي جاءته تطلب العلاج, فقضت ودفنت في المنفى, تاركة الحسرة للأخ المضيف الذي لفظت أنفاسها الأخيرة بين يديه, فنراه يبكيها ويعتذر لأبيه الذي كان يحلم بعودة ابنته سليمة معافاة, فعادت خبرا على جناح دمعة"
يا والدي
وعلى يَدِي ماتتْ وقد رقدتْ على رمشي سَحاباتٌ تُرَى
يا ليتَني لم أحضرِ الروحَ التي خرجَتْ أمامي للمَدَى
كانتْ تقولُ بعينِها
أين الملَكْ ؟
...
رفعتْ عيونَاً للسما :
ما أعدلَكْ
لبَّيكَ إن الحمدَ لكْ

وتتعدد صور غول الموت داخل الوطن, وخاصة عندما يرتبط الأمر بالحرب, وتعرض المدنيين الآمنين للقصف العشوائي الذي يحصد الأرواح البريئة دونما تمييز فنراه من الجد وهو يعيد أسئلة الحفيد الذي ثكل بأمه وأبيه, ويرسم بداية جديدة للحفيد..

فقد كانت تدُسُّ الخبزَ في المجمَرْ
وكانت تُلْقِمُ الأفواهَ بالزعترْ
فألْقَتْها رصاصاتٌ بعيداً عن حَواشيها
فيا أبتي
تعالَ اليومَ نزرعْ كرمَنا فُلاً على عنبرْ
ونَقْلِبْ سَهلَنا خندقْ

هذا المُغرب المعنى يحمل وطنه بين جوانحه, يعيشه أرضا وسماءً وهواءً وأمكنة, وذكريات محفورة في الذاكرة, يزوده بشهقة الحياة ورجفة البدن, ويمارسه وجدا صوفيا يستحضره كمعشوقته, ويرى نفسه عاشقا سدت عليه المنافذ, تلوح له الحبيبة عن بعد, يختبر معها أشواقه يسقط لوعته على الوطن ويختصر آماله بالعودة إلي حبيبته بعد طول غياب, كما في قصيدة "فلْيَتْرُكُوا لي حلوةَ الخدّينِ أرسُمُ وردَها"

فليتْركوا لي حلوة الخدَّين أرسم ورْدَها
شِعراً وفوقَ العينِ غُرّةَ القمرْ

إِنِّي لها كالهودجِ
أَنَّـى تَرى يهْوِي لها
فالموتُ فيها كانتِفاضةِ الشجرْ
أو كَمْأةٍ تُفتِّقُ الأثوابَ بسماً للمطرْ

وحبيبته سبية معلقة من جدائلها الكريمة, وهو الأضعف من تحريرها, فيلوذ بالعشيرة, فيراها السادرة في غيها ويرى رؤوسها يعيشون الغواية, لا يملكون من أمرهم رشدا, فيصرخ كسيفا مخذولا وينوح على أمة طالما أنجبت أسياد الرجال فنراه في قصيدة "شُقِّي غَيْمَةَ البَلَدِ" يواسي نفسه وحبيبته:
أَلَمْ تَلِدِي رجالاً يمتطُون البأسَ منْ عدَمِ
أَمِ الأُسْدُ ارْتَقَى في عرشِها ضَبُّ
بلِ الأشباهُ قدْ رَكبُوا عناوينَ الْمَحَطّاتِ
إلى دفْءٍ منَ الوهمِ
وقد مَطرُوا على وطنٍ لكِ الدّمْعَا
فَقُومي وامْسَحِي الغَبَشا
لكن خذلان العشيرة لا يأخذه إلى اليأس والقنوط, فهو صاحب القضية ومالك اليقين بأن شعبه المعذب الصابر المرابط, والقابض على الجمر, لا بد سيبلغ المراد يوما, فعين الله لا تغمض عنه, لذلك لا يتوقف عن تذكير أهله بالتكافل والعودة الى الله, كلما تكاثفت الهموم كما في قصيدة " لِمَ الهلع"
فلا تيأسْ على قُدسٍ يُحَوِّمُ في حَواشِيها
غريبُ الدارِ والشفتينِ يُشْقيها
وأيقنَ أنَّ أياماً تَدُولُ لهُ مَغانِيها
ولم يعلمْ بأنَّ اللهَ يَحْميها
والشاعر يلوك الهم, ويأخذه الأسى والحزن لما باتت عليه احوال شعبه الذي لم يسترح يوما من تلقي ضربات الغدر, وقد دبت فيه نزاعات قلبت المعايير والأعراف, وغذت شهوة الاقتتال ورخصت الدم الفلسطيني, فيصرخ محذرا غاضبا ومستهجنا, يستكثر على المتجاوزين أفعالهم وغيهم وتناسيهم لحمة الجسد الواحد في قصيدة "وإنْ عَصَرُوا لكَ السّحُبَا"
أَصِرْنا مُنْتهَى السِّفْلهْ ؟
أَإِنَّا مرقدُ العِلّهْ ؟
أَكُنّا إخوةً قَتلَهْ ؟
فقد صِرْنا جِرابَ القالِ والقيلِ
وفي ذات الوقت يصعد عن الهفوات الطارئة, ويلقن ابنه معاني التضحية ومعنى أن يصير الإنسان شهيدا في قصيدة "وإنْ عَصَرُوا لكَ السّحُبَا"
أَتسأَلُني عنِ الشّهداءِ ياولدي ؟
براءةُ قمحِنا في وجهِكَ ارْتسمتْ
أَتبْحثُ عنْ نهاياتٍ لهذا الملحِ في البلدِ ؟
أمِ الموتَى رموزٌ في فؤادٍ يرسمُ اللّعِبا ؟
أَتدْري منْ همُ الشّهدا ؟
وعندما يخلد للتأمل والراحة يراجع حصاد الألم الجمعي لشعبة والناتج من صراعاته مع العدو وصراعاته الداخلية المرفوض غير المبررة يعيش المرارة وذعر الرافض في قصيدة "هَلْ تَحْـزَن ؟"
وَيا لَهْفي
على أرضٍ وقد أبْكَتْ حرائِرَها
وأمواج من الآهاتِ كَبَّتْ في شَراييني
فقد رَضِعتْ شِفاهي دمعَ زيتوني
وما زالتْ ثِيابي تذكُرُ التينهْ
ولم تنشفْ مناديلي

وبعد:
ها هو صقر أبو عيدة يطل علينا في ديوانه, وقد طوع أدواته, وحدد موقفه من الحياة, يجترح الألم ليس رغبة في البكاء, ولكن للتطهر من خبائث الدنيا وشهوات الحياة الزائلة, مبهوظ يعيش الصدمة يتأمل عمرا قضاه في البحث والتقصي, والتفاؤل أيضا, فنراه يأخذ القصيدة طوق نجاة للإبحار من جديد في لجة بحر هادر, يسترشد بقنديل قلبه العامر بالإيمان,فيتوهج فيه نور الله, ويهجع على رحمة أوسع من مغريات البشر ويفتح الوطن فيه نوارة صبر ورجاء، فيصل العابد فيه إلى ذروة النجوى والفوز والرضا..

غزة10/8/2010 غريب عسقلاني








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. لحظة إغماء بنت ونيس فى عزاء والدتها.. الفنانة ريم أحمد تسقط


.. بالدموع .. بنت ونيس الفنانة ريم أحمد تستقبل عزاء والدتها وأش




.. انهيار ريم أحمد بالدموع في عزاء والدتها بحضور عدد من الفنان


.. فيلم -شهر زي العسل- متهم بالإساءة للعادات والتقاليد في الكوي




.. فرحة للأطفال.. مبادرة شاب فلسطيني لعمل سينما في رفح