الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حول ظاهرة انتحار المبدعين

عصام عبد العزيز المعموري

2010 / 8 / 30
الادب والفن


حول ظاهرة انتحار المبدعين

د. عصام عبد العزيز المعموري - بعقوبة محافظة ديالى

ليس من السهل الإلمام بأسباب انتحار المبدعين لأننا نتعامل مع أعقد كائن حي خلقه الله ألا وهو الإنسان ولكن أمامنا جملة من الحقائق حول المبدعين والعملية الإبداعية يمكن ذكر بعضها لكي نلم ببعض من جوانب هذا الموضوع الشائك يمكن ذكر بعضها كالآتي :
1- يمتلك المبدعون جملة من الخصائص النفسية منها أنهم يجمعون بين بعض التناقضات أو المتعارضات تكمن في شخصياتهم ، فترى المبدع يجمع بين بعض التناقضات كالتحرر والسيطرة على الذات ، ثائر لكنه لا يعمل ضد المعايير الاجتماعية ، يتميز بالاندفاع وسرعة الاستثارة وعدم ضبطه لتعبيراته الانفعالية ، لكنه في نفس الوقت يتميز بقوة الإرادة واحترام المطالب الاجتماعية والطموح والقدرة على ضبط الانفعالات ، وان هذا كله يعني أن المبدع يعاني توترا" شديدا" للتوفيق بين المتعارضات الكامنة في طبيعته مع محاولته تحمل ذلك التوتر والحد منه .
2- من الصفات السلبية لدى المبدعين كما أوردها عالما النفس الأمريكيان ( تورانس 1981 ) و ( سمث 1966 ) :
- عدم المبالاة بالتقاليد والأعراف
- العناد
- حب السيطرة
- اهتمام متدن بالتفاصيل
- شرود الذهن
- السخرية
- عدم الرغبة في التواصل مع الآخرين
- المزاجية
- الإفراط العاطفي والشعوري
- الفوضى

3- يعيش المبدع في أغلب الأحيان حالة من الاغتراب ، وهذه الحالة تجعله دائم التذمر من الواقع فها هو ( أدونيس ) في كتابه ( الثابت والمتحول ) يقول : ( إن العقل العربي عقل متبع لا مبدع وان الثقافة العربية ثقافة إتباع لا إبداع وتنفرد بخصائص ثلاث هي : الخاصية اللاهوتية التي تتمثل في الغيبية المطلقة وخاصية الفصل بين المعنى والكلام وتفضيل الكتابة على الخطابة وخاصية التناقض مع الحداثة والتمحور حول الماضي ) ويقول ( الماغوط ) : ( إنني أعيش في حقبة إنسانية لا تسمح للإنسان بأن يشارك في صنع قدره أكثر من تسريح شعره وتزرير السترة )
إن علاقة المبدع بالمحيطين به أشبه بعلاقة الفلسفة بالتكنولوجيا الحديثة التي وصفها الأديب ( نصيف فلك ) يوما" ما في جريدة الصباح وصفا" بلاغيا" بقوله : ( إن لغز الحياة وسحرها العظيم ليس في الجواب بل في صياغة الأسئلة الكبرى وان حشدا" من الفلاسفة سقطوا في فخ الجواب ) ويورد لنا ( نصيف فلك ) قصة الملك والبئر حيث يقول : إن أحد السحرة مر في بئر يشرب منه الناس وألقى فيه مسحوقا" يجعل أي واحد يشرب من هذا البئر يصاب بالجنون فخرج الشعب برمته يطالب بخلع الملك المجنون .. هم يرونه مجنونا" لأنه ليس مثلهم إذ احتفظ بعقله سالما" ولم يشرب من الماء المسحور ، لكنه فكر بمخرجين لا ثالث لهما ، هل يشرب الماء من بئر الجنون ويبقى ملكا" على العرش يقود شعبا" من المجانين ، أم يحتفظ بعقله ويتخلى عن الشعب لو امتنع عن شرب ماء الجنون .
لا تزال الفلسفة العجوز في عزلة واغتراب .. هل تشرب الماء من بئر التكنولوجيا وتصبح مجنونة مثل البشر وتسترد عرشها أم تظل هكذا منبوذة عاطلة ولكن بعقل سليم معافى ؟ )
إن حالة الاغتراب هذه يشعر بها حتى الأطفال المبدعون ومن ذوي القدرات العقلية المرتفعة حيث تقول المنظّرة التربوية الأمريكية ( ليتا هولينغويرث ) : إن الطالب الذي نسبة ذكائه 140 يخسر نصف وقته في قاعات الصفوف العادية بينما يخسر كل وقته تقريبا" كل من بلغت نسبة ذكائه 180 فأكثر ) علما" أن نسبة الذكاء تستخرج من حاصل قسمة العمر الزمني على العمر العقلي ويضرب الناتج في 100 .
4- من ملاحظاتي الخاصة أن أكثر المبدعين قد تألقوا في اختصاصات تقع خارج اختصاصاتهم فترى أن ( منير بعلبكي ) صاحب القاموس الشهير كان تخصصه التاريخ و ( يوسف عبد المسيح ثروة ) كان بارعا" في الترجمة والكتابة المسرحية رغم أنه كان خريجا" للدراسة الإعدادية فحسب ، و( محمد حسنين هيكل ) الصحفي المتألق لم يدرس الإعلام في كلية متخصصة ، وتعلم اللغة الانكليزية تعلما" ذاتيا" وتألق في الترجمة ، و ( عباس محمود العقاد ) لم يكمل سوى الابتدائية ، وغيرهم كثير .
أما كل من ( تشيخوف ويوسف إدريس وعبد السلام العجيلي وغسان حتاحت ) فان ما يشتركون به هو الجمع بين الطب والأدب ، وعندما سئل ( تشيخوف ) لماذا برز في الرواية ولم يبرز في الطب قال : ( إذا كان الطب هو زوجتي فالأدب هو عشيقتي وشتان بين الزوجة والعشيقة ) أما الشاعر ( عمر أبو ريشة ) فقد أكمل دراسته في الكيمياء في الجامعة الأمريكية ببيروت ثم في انكلترا .
5- من الملاحظ أن المبدع عندما ينتحر فانه يفعل ذلك بطريقة لا تترك له مجالا" للإنقاذ فلم نسمع يوما" أن مبدعا" انتحر بتناول أقراص منومة أو رمى نفسه بأحد الأنهار أو بأية طريقة أخرى تترك له فرصة للإنقاذ.
6- لو نستعرض أسباب الانتحار لدى المبدعين فإننا نجد أن لبعضهم أسبابا" واضحة تختلف من شخص لآخر بينما لانجد أسبابا" واضحة لانتحار البعض والأسماء الآتية توضح ذلك :
- سقراط انتحر بشرب السم في السجن راضيا" بحكم القضاء رافضا" الهرب منه وكان يعتقد بخلود النفس بعد الموت وتوفي عام 399 ق.م .
- أرنست همنغواي لا يوجد سبب مؤكد لانتحاره ولكن بعض علماء النفس يؤكدون وجود الاستعداد الوراثي في عائلته للانتحار حيث في عائلته انتحر هو نفسه وأخته وقبلها والده وانتحر آخرون في العائلة حيث وجد علماء النفس أن معدل الانتحار في أقارب الدرجة الأولى للمرضى النفسيين يزيد 8 مرات عن معدل الانتحار بين سائر الناس . وإضافة لهذا الاستعداد الوراثي فان همنغواي عاش في فقر وتشرد وضياع انتهى به إلى الانتحار شأنه شأن ( نيتشه ) .
- الكاتب الياباني ( رينوسوكي اكوتاكوا ) الذي ولد عام 1892 ومات منتحرا" عام 1927 ولم يعش غير 35 عاما" فقط وجاء موته في غاية الرعب على طريقة ( الساموراي ) الشهيرة التي يقطع المرء نفسه بالسيف من يسار منطقة البطن إلى يمينها وبقوة لا يصدقها العقل .
- الروائي الياباني ( كاواباتا ) صاحب رواية ( العاصمة القديمة ) من إصدار دار المدى وترجمة الأستاذ ( صلاح نيازي ) حذا ( كاواباتا ) حذو ( اكوتاكوا ) في وضع حد لحياته عام 1972 على طريقة الساموراي علما" أنه منح جائزة نوبل للآداب عام 1968 .
- الشاعر الكبير ( مايكوفسكي ) الذي انتحر عام 1930 كان السبب الأقوى في انتحاره صدمته في الثورة الروسية .
- سيرجي يسنين انتحر لأنه أحس بالضياع وانعدام الشخصية بعد أن أهدر سنين عديدة من عمره من أجل قيام الثورة في روسيا ويقال أن طريقة انتحار مايكوفسكي ويسنين هي أنهما قطعا وريديهما .
- مدام بوفاري انتحرت بالزرنيخ
- فرجينيا وولف علقت حجرا" ثقيلا" في عنقها وأغرقت نفسها في البحر
- الروائي الياباني ( ميشيما ) انتحر عام 1970 احتجاجا" على غربنة اليابان تاركا" صورة تراجيدية عن نهايته في أذهان قرائه وهو الذي ينتمي إلى حركة الرومانتيكيين اليابانيين الذين يبجلون العاطفة ويرون في تدمير الذات قيمة عليا .
- الكاتب الأمريكي المعروف ( جاك لندن ) لم يعش أكثر من 40 سنة ومات منتحرا" في مساء يوم جميل وبقى موته حالة خاصة لم يستطع أحد من أقرانه فهم أسباب انتحاره حتى اليوم

أما المبدعون العرب فيمكن ذكر أسباب انتحار بعضهم كالآتي :
- الأديب الأردني ( تيسير سبول ) الذي انتحر قبل أن يصل الأربعين ولا تزال ذكرى روايته الممتازة ( أنت منذ اليوم ) عالقة في الأذهان .
- الكاتب ( إسماعيل أدهم)ألقى بنفسه في البحر بعد أن وزع الشوكولاته على الأطفال
- انتحار الكاتبة ( أروى صالح ) و ( عنايات الزيات ) و ( درية شفيق ) التي ألقت بنفسها من الطابق السادس .
- الشاعر الكبير ( خليل حاوي ) فقد كان سبب انتحاره هو دخول إسرائيل إلى بيروت وما قابله من صمت عربي مفجعا له فوصلت به حالة الغضب إلى الانتحار .
- في الأول من آب عام 1997 توقف قلب الأكاديمية أستاذة الأدب الروسي في جامعة بغداد كلية الآداب ثم كلية اللغات والشاعرة ( د. حياة شرارة ) التي ولدت عام 1935 في مدينة النجف في حادث انتحار مأساوي مع ابنتها الشابة ( مها ) والذي كان صدمة شنيعة لكل من عرف الفقيدة أو سمع عنها أو قرأ لها وكذلك في الأوساط الأدبية وطلابها وأثارت تلك الحادثة الكبيرة الكثير من اللغط والتساؤلات إن كانت انتحارا" فعلا" أم أن هناك يد خفية للسلطة آنذاك ، وعلى كل حال فالحصيلة كانت إن كانت السلطة وراء الانتحار سواء بطريقة مباشرة أو غير مباشرة وبعد صدور رواية ( إذا الأيام أغسقت ) للفقيدة وبمقدمة رائعة بقلم السيدة بلقيس شرارة أشارت السيدة بلقيس في تلك المقدمة وكتاباتها اللاحقة عن الفقيدة أن الحادثة كانت انتحارا" وبدون أي تفاصيل حيث كتبت في الجزء الأخير من تلك المقدمة .
- في 22/2/ 2007 م فجع الوسط الثقافي العراقي بانتحار الروائي ( مهدي علي الراضي ) وهو الذي عاش منذ عام 1978 في المنفى بعيدا" عن وطنه ولكنه يبدو فقد الأمل في استعادة العافية والسلام لوطنه فمات حلمه بالعودة إليه لذلك اختار الموت .
أما حالات الصعلكة والتشرد الإرادي واللاإرادي التي عاشها المبدعون فهي حالة خاصة من حالات الانتحار فها هو الشاعر العراقي ( عبد الأمير الحصيري ) الذي كان ينام في الحدائق والساحات العامة والشوارع وكان مكان وفاته ( فندق الكوثر ) في بغداد وكان يردد العبارة الآتية : ( أنا شيخ الصعاليك منذ ابتداء الزمان ) .
لقد اعتاد الحصيري حياة الحانات فبعد أن يحتسي الخمر يقوم مرتجلا" عشرات الأبيات الحاوية على الصور الشعرية الرائعة مقابل ثمن بسيط أو بدون مقابل .. فقد كان ضيف الشرف على حانات بغداد وهو ابن النجف وفي 2 شباط عام 1978 واثناء احتسائه الخمر أصيب بإسهال حاد سقط بعدها في فندق الكوثر ومن ثم نقل بصورة سريعة الى المستشفى حيث فارق الحياة مصابا" بعجز في القلب وانتقل الشعراء من اصدقائه الى الطب العدلي ليودعوه الوداع الأخير وتبرع قسم منهم بمبلغ الدفن حيث ظل في الطب العدلي حتى صباح اليوم التالي .
أما الشاعر ( حسين مردان ) الذي كان يصف نفسه : ( أنا دكتاتور الأدب وشيخ المشردين ) فقد عاش حياة التشرد وألفها بل تجسدت شخصيته من خلال ذلك .. لقد أحبها بتلذذ وارتياح تامين فلقد أراد أن يكون حرا" بكل معنى الكلمة .
لقد عانى من الاغتراب شأنه شأن أي مبدع وكان يقول : ( أنا في ذاتي سر مغلق لا أرى في الناس من يفهمني .. مثلما جئت سوف أذهب لغزا" يحتويه الغموض والكتمان )
وكذلك الشاعر ( عبد القادر رشيد الناصري ) كان في حياته بوهيميا" ، يعيش ليومه ولا يفكر في غده ويعاني الكثير من آلام الفقر والنكد ولذلك كان يهرب من واقعه لاحتساء الخمر وكان ينام في غرفة مؤجرة وفي الشوارع والحدائق ومات مخمورا" ودفن في مقبرة الغرباء وشيعه 17 صديقا" بضمنهم بعض الموظفين في أمانة العاصمة .
ومن زملائي في كلية العلوم جامعة بغداد كان المرحوم الفنان الرسام ( هادي السيد حرز ) الذي يلقب ( هادي السيد ) فلقد كان رساما" متألقا" ولكنه عاش حياة التشرد حتى أنني سمعت أنه كان ينام في كراج باب المعظم ويتوسد الأرض وعاش حياة الصعلكة بكل ما تعنيه هذه الكلمة .
وهكذا نرى حالة الاغتراب التي عانى منها بعض المبدعين .
7- يقسّم المختصون بعلم النفس الإكلينيكي الشخصيات استنادا" إلى صحتهم النفسية إلى ثلاث فئات الأولى ذوي الشخصيات السوية والثانية ذوي الشخصيات تحت السوية Sub Normal characters والثالثة ذوي الشخصيات فوق السوية ، وان المبدعين من الفئة الثالثة فهم شاذون ولكن شذوذهم نحو الأعلى وليس نحو الأسفل حيث يرى الفرويديون أن الإبداع يحصل عندما يتسامى الفرد على دوافعه الأولية والغريزية الى هدف أسمى من الناحية الأخلاقية والاجتماعية فالشخص الذي يفشل في الزواج من حبيبته سوف يبقى يتصارع مع هذا الأمر في نفسه مما قد يخرج عملا" إبداعيا" على شكل قصيدة إبداعية أو عملا" فنيا" قد يكون نحتا" لتمثال يشبه حبيبته .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - حق الأنتحار
علي المشاط ( 2010 / 8 / 31 - 22:43 )
لقد حرمت معظم الأديان وخصوصا السماوية منها حق الأنتحار على البشر
وجعلت مرتكبيه في مصاف قتلة النفس البشرية
وبما ان النفس البشرية هي عطية من الله فلا يحق للأنسان قتلها لأي سبب من الأسباب / وحتى في سبيل الله نفسه/وسؤالي هو
اذا كان الأنسان لم يخير في ولوج الحياة الدنيوية في بدء خلقه..فلماذا يحرم من وضع حد لهذه الحياة المفروضة عليه أذا شعر انها عذاب له لأسباب يراها هو ويقدرها هو ؟؟
خصوصا في معظم العصور التاريخية حيث الأنسان يستعبد كالحيوان لخدمة الطبقات المهيمنة في المجتمع
ألم يمنح الخالق الأنسان العقل ليفكر ؟
ألم يمنحه حرية الأختيار؟
أم ان التفكير وحرية الأختيار يجب أن تتم بالشكل الذي يختاره له الخالق فقط ؟
ولا أهمية لما يعانيه الأنسان من عذاب جسمي أو نفسي ...مقابل أجر أخروي
ما معنى الأختيار أذن؟
ومامعنى العقل في مفهوم الديانات؟
أم ان هذا التحريم قد وضع لحفظ الجماعة المؤمنة في زمن نزول الديانات؟
وتحول حفظ النفس بعدها لصالح الطبقة المستفيدة؟؟؟؟؟؟؟
ولكن..!!
لو أنتحر جميع العبيد..فمن يقف أمام السادة وجورهم؟؟
ولا كان هناك هانيبال ولا الظاهر بيبرز ولا محمد علي باشا

اخر الافلام

.. -الفن ضربة حظ-... هذا ما قاله الفنان علي جاسم عن -المشاهدات


.. إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها بالجيزة




.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق شقتها


.. الممثلة ستورمي دانييلز تدعو إلى تحويل ترمب لـ-كيس ملاكمة-




.. عاجل.. تفاصيل إصابة الفنانة سمية الألفى بحالة اختناق فى حريق