الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


الحياة الثقافية في تركمانستان: بين أزمة الهوية وبقايا القمع المنظم (3/3)

عماد الدين رائف

2010 / 8 / 30
الادب والفن


الفنون التصويرية...
تعكس الفنون التصويرية حياة تركمانستان الحديثة بشكل واضح، قد لا تعكسه الفنون الأخرى. وقد عرف الديكتاتور "تركمان باشي" أهمية وقيمة هذه الفنون. ورغم رزوح كل اتحادات الفنون في البلاد تحت وطأة قبضته القاسية، تملص "اتحاد الرسامين" وحاول الاستمرار بعمله. وفي الواقع، لم ينل جميع الفنانين "شرف العمل على التكليفات الحكومية"، بل كان ينتقى عدد منهم للعمل. ومن بين مختاري المختارين في هذا الاتحاد رئيس "اتحاد فناني تركمانستان" النحّات باباساري أنامرادوف وزميله سرقط بابايف. نحاتان أسسا "حلفاً" أنجز "بيده المباركة" كافة تماثيل "تركمان باشي" بكافة أحجامها، التي تملأ الساحات على طول خارطة البلاد.
وقسم فنانو عهد الاستقلال إلى مجموعتين، الأولى كان لها "شرف" رسم ونحت وتعظيم "تركمان باشي"، أما الثانية فحرمت من هذا "الشرف". وبناء على هذا التقسيم، تنوع التعامل مع كل واحدة من المجموعتين على حدة، سواء من السلطة أو الجمهور، وكان نيازوف يتصرف بناء على هذين التوجهين بطريقة منهجية مع الفنانين المرموقين، فعلى سبيل المثال، يصعب تصور الفنون التصويرية التركمانستانية بدون ذكر الأكاديمي الفنان عزّت كليتشيف، لكنه حرم "تركمان باشي" من إبداعاته، فلم يرسمه ولم "يجسّد عظمته" بلوحات. فضاق الديكتاتور "الأب الحصري لكافة التركمان" ذرعاً بالفنان، وأراد هدم منزله، لكن الموت داهم نيازوف وحال دون ذلك.
وفي عهده، نسي الرسامون والنحاتون القيمة الفنية لأعمالهم، حيث بات تصوير الزعيم هو أولوية الأولويات. أما اليوم، فيتأثر تقدير قيمة الأعمال الفنية بالتوجه الأيديولوجي للفنان قبل موضوع. فإذا كان من يمنح التقديرات في عهد الديكتاتور الراحل عضو الحكومة "الخبير عديم الضمير" أوراز آيدوغدييف، فاليوم تقوم بذلك نائبة الرئيس، قليلة الخبرة، مايسا يازمحمدوفا. وتتلقى البلاد نتيجة ذلك جرعات من المنتجات الرمادية، مجهولة الهوية، والتي يصعب وصفها بالفنون. وتكفي نظرة واحدة على تماثيل القادة العسكريين والشخصيات العسكرية المحيطة بنصب الاستقلال (أو "الإخطبوطات" كما يسميه أهالي عشق أباد)، تبدو متماثلة جميعها، وتكاد تكون تصويراً للرعاة لا للقادة.
وبأمر من الرئيس الثاني، الحالي، يعاد بناء الساحة التي تقع وسط العاصمة، الممتدة مساحتها من دار المسرح السابق "مير"، حتى شارع غيرغلا (شارع الأول من أيار سابقاً)، ومن المفترض أن تتوزع في هذه الساحة المركزية منحوتات وتماثيل نصفية تجسد "التركمان العظام" (لا التركمانستانيين). وتدور شائعات حول بعض تلك الشخصيات، ومنها الشاعر الكبير كريم قربانيبيسوف، الموسيقار المرموق فيلي موخاتوف، نوري خالماميدوف، الممثل أمان بيرمبيردييف، أوزار أريكوف... القائمة طويلة لكن أحداً من مواطني عشق أباد لم يرها، ولم تناقش ولم تنشر في الصحف. فمن اختار هذه الشخصيات؟ ووفق أي معايير "غير مفهومة" ساوت بين أسماء لامعة في عالم الفن وأخرى بالكاد معروفة؟ ويشير الخبراء المحليون إلى أن تجاهل وجهات النظر المهنية سيؤدي إلى عواقب وخيمة، أقله أن ذلك سيزرع البلبلة في أذهان الأجيال المقبلة، ما سيعزز قيماً زائفة لديها.
وعلى الصعيد نفسه نجد أن أحوال الرسم ليست أفضل من النحت، فمنذ أيام الاستقلال الأولى حتى العام 2007، لم يلحظ بيع لوحة واحدة من لوحات "اتحاد الفنانين". وبدأت العام الماضي فقط، حجوزات الفنانين بالظهور. وفي المقابل، يبدو أن طلاب "أكاديمية الفنون" يكسبون أموالاً لا بأس بها، وذلك من خلال استنساخهم للوحات الشهيرة وبيعها.
ويبدو أحياناً أن مستقبل الحياة الفنية في تركمانستان متوقف على جهود هؤلاء الطلاب، فتدخل أعمالهم "التعليمية" في صلب المعارض الكبرى في الاحتفالات القومية والحكومية. أما الفنانون المحترفون، كما جرت العادة، لا يشاركون في تلك المعارض، التي لا تثير أي مشاعر، ولا ترتقي إلى أي مستوى فني. وإذا حكمنا من خلالها على "أكاديمية الفنون الجميلة" فهي أكاديمية هواة لا مبدعين.

بلاد المؤلف الواحد والبطل الواحد

"رائعة هي تركمانستان، فهي كلها للإنسان.. وأنا رأيت ذلك الإنسان"، دعابة يطلقها زائرو البلاد عن الديكتاتور الراحل "تركمان باشي". وبعد أربع سنوات على رحيله لم يتغير شيء يذكر. وباتت تلك الدعابة واقعاً تحت شعار "الدولة – للإنسان"، حيث يختصر هو "الإنسان" فيها. وبتنا نعرف من هو هذا "الإنسان"... وهنا يصل حديثنا عن الثقافة في تركمانستان إلى "نكبة الصحافة والإعلام في تلك البلاد".
في أوائل عهد الاستقلال أقفل "تركمان باشي" كافة الاتحادات "الإبداعية"، وأولها "اتحاد كتّاب تركمانستان"، ومن المفارقات أنه قيل إن الكتّاب أنفسهم وافقوا على إقفال اتحادهم!. الكتّاب "ضمير الأمة"، تكيفوا بسهولة مع الواقع الجديد الذي فرضه النظام، وبدأوا بخدمة طروحات "تركمان باشي". أما أولئك الذين لم يؤيدوا النظام منهم فقد باتوا عاطلين عن العمل، وما يزال من بقي منهم على قيد الحياة على حاله، وما يكتبونه لا يجد طريقه إلى النشر، مع انعدام إمكانية حصولهم على إذن رسمي بذلك. وكيف يمكنهم الحصول على إذن حيث تنعدم حرية التعبير؟
أما "حرية التعبير" المزعومة اليوم، فهي تشمل كاتباً واحداً وهو الرئيس الحالي بيردي محمدوف. وهو شخص لا يمكنه كتابة عبارة واحدة سليمة، لكن يسهل إيجاد من يكتب له.
ومن الواقع، أنه في العام 2005 عندما نشر الكاتب رحيم ايسينوف رواية له خارج البلاد، وحمل نسخات منها معه إلى بلاده، صادر "تركمان باشي" أمتعة الكاتب ونسخ الرواية المهرّبة. وفي العام الماضي أصدرت دار النشر السويدية "غيون" رواية الكاتب السوفياتي – التركمانستاني تيركيش دجوماغيلدييف "طاقة الرعب، أو رأس القط الأصفر"، لكن عددا لا يتجاوز أصابع اليد الواحدة قرأ تلك الرواية داخل البلاد. وبطبيعة الحال إدخال هذه الرواية إلى تركمانستان يشبه إدخال البضائع الممنوعة، ولا يمكن أن يمرّ على خير.
والسؤال الذي يطرح نفسه بشكل طبيعي هنا، ما هي الكتب الموجودة على رفوف المكتبات العامة في البلاد؟ في نيسان الماضي، وبموجب مرسوم رئاسي عاجل أعيد افتتاح المكتبات الوطنية التي كانت قد أغلقت في عهد "تركمان باشي". واللافت أنه مع العدد الكبير للمكتبات، لا يوجد توجه لتغيير مخزناتها من الكتب. ففي عهد "تركمان باشي" امتلأت رفوفها بكافة ترجمات كتابه المزعوم "روح نامه". وكان هذا الكتاب قد ترجم بادئ الأمر مع الحاجة المتزايدة لدى الشركات التجارية المترجمة للثروة الغازية في البلاد. الكتاب الذي احتل معظم الرفوف زاحمته عناوين أخرى منذ 2007، كـ "كتاب حول الطعام الصحي"، "أعشاب تركمانستان الطبية"، "الحفيد الذي حقق حلم جده"، بالإضافة إلى كل ما ينشر باسم الرئيس ويكتبه له مساعده، نائب رئيس إدارة الرئاسة، السيد خراموف.
والقصة نفسها مع الدوريات. فمن المعروف أنه منذ 1991 لم تستورد البلاد مطبوعات دور النشر في الخارج، وبطبيعة الحال من روسيا. وفي الواقع، يسمح "الرئيس الإصلاحي" سمح للوزارات شراء نسخ من الكتب الروسية المطبوعة حديثاً عبر اكتتاب خاص، للاستعمال الداخلي فقط، ولا يسمح باطلاع الجمهور عليها، بما أن الاطلاع على الصحافة والمطبوعات الأجنبية ما يزال ممنوعاً على العامة.
الصحافة كذلك اقتلعت من جذورها، حيث لم يوجد معهد لها في الأصل. وجرت محاولات لافتتاح قسم للصحافة في المعهد الحكومي للعلوم اللغوية الروسية، لكن، وبد تخرج أول دفعة منه أقفل على الفور. واختيرت مجموعة من الطلاب منذ عامين في كلية اللغويات لدراسة الصحافة. وربما، يعود السبب في تدريبهم ليحلوا محل العاملين في وسائل الإعلام الحكومية، وهم من غير المهنيين وممن لا يمتلكون أي مهارات إعلامية.
وتبذل اليوم جهود لتحسين مهارات العاملين في وسائل الإعلام هذه، فقد أرسل عدد من العاملين في محطة التلفزة إلى موسكو لتلقي التدريب في قناة "أوستانكينو" الروسية. وتم اختيارهم على أساس الولاء الشخصي لمدير محطة التلفزة الوطنية في عشق أباد. ووفق تصريح إحدى المشاركات أن هذه المهمة كانت للتسوق أكثر منها دورة تدريبية.
ويعتبر العمود الفقري لدورة الصحافة اليومية في تركمانستان اعتماد وسائل الإعلام الحكومية على المعلومات التي توفرها وكالة الأنباء المركزية "تركاني دولت خبرلاري"، التي كانت تسمى بـ "تركمان إنفورم" و"تركمان برس" سابقاً. ويغيب أي صوت للكتاب الصحافيين في البلاد، فلا يمر صوتهم من خلال هذه الوكالة الرسمية، وللمفارقة توضب كافة الأخبار وتحرر باللغة الروسية، مع أن الجريدة الوحيدة التي تصدر بالروسية في البلاد هي "تركمانستان المحايدة". وبعد ذاك تأخذ الصحف أخبارها من الوكالة لتترجمها إلى اللغة المحلية ويمنع أي رأي حول أحداث البلاد، إلا تلك التحاليل التي تصل من "مقر الدفاع الإقليمي". وينعدم وجود أي صحيفة خاصة أو مستقلة بأمر من "مؤسس الصحافة" رئيس البلاد.
ومع الحديث عن الصحافة وحرية الإعلام نصل إلى اختتام هذه الثلاثية عن بلاد تبدو بعيدة عن عالمنا العربي، لكن وجوه تشابه كثيرة تجمعنا بها، وخاصة بعض ملامح الأثر الديكتاتوري على الفن بشكل عام من تأليف موسيقي وألحان، غناء وأداء، سينما ومسرح وتلفاز، رسم ونحت وتصوير.. بالإضافة إلى الرواية والقصة والكتابة الصحافية والإعلامية.
هناك، في تركمانستان، عشرون عاماً مرّت على الاستقلال عن الاتحاد السوفياتي، ومرّ عهد مظلم مع زعيم قارن نفسه بالآلهة، ومع رئيس حالي يبدو لكثيرين أنه يستمر على خطى سلفه. بلاد يبدو مستقبلها الثقافي غير مبشر أبداً من دون القيام بخطوات كبيرة للالتحاق بركب الثقافة، بمعناها العام، من جديد.
الفنّ طريق الحياة. واليوم ترزح عشق أباد تحت عبء كتب وصور وتماثيل "تركمان باشي"، بينما تشير الحياة اليومية في تركمانستان إلى وجود "فنّ" كامن مكبوت لا يجد طريقه إلى الجمهور.. كما أن كل ما يكتب في السر اليوم، لا بد أن يجد طريقه إلى الظهور قريباً.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. صباح العربية | بينها اللغة العربية.. رواتب خيالية لمتقني هذه


.. أغاني اليوم بموسيقى الزمن الجميل.. -صباح العربية- يلتقي فرقة




.. مت فى 10 أيام.. قصة زواج الفنان أحمد عبد الوهاب من ابنة صبحى


.. الفنانة ميار الببلاوي تنهار خلال بث مباشر بعد اتهامات داعية




.. كلمة -وقفة-.. زلة لسان جديدة لبايدن على المسرح