الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مدينتي نابلس وأم سائد

نضال الصالح

2010 / 9 / 2
سيرة ذاتية


مدينتي نابلس تتمتع بنكهة خاصة ولها خصوصيتها ولقد أطلق عليها عالم الآثارارنست رايتس عاصمة فلسطين غير المتوجة ويطلق عليها أهل فلسطين جبل النار لدورها وقراها في ثورات الفلسطينيين المتتابعة ضد الإستعمار والصهيونية.
النابلسيون لهم أيضا نكهتهم الخاصة، لهجتهم التي تمط كجبنة الكنافة النابلسية، عاداتهم وتقاليدهم وحشريتهم التي تظهر لبعض من لا يعرفهم أنها نوع من الوقاحة وما هي بذلك، حرصهم على الجار وعلى إبن البلد وتكاتفهم مع بعضهم البعض. لا يوجد في نابلس أسرار والنابلسيون يحبون القيل والقال بدون ضغينة أو حسد. لا تستطيع أن تختبئ من عيونهم وأسئلتهم الفضولية- مين الأخ؟ وابن مين إنت؟ ووين بشتغل؟ وقديش راتبك؟ وشو بقربلك فلان؟ وسيل من الأسئلة التي في بعض الأحيان تتجاوز المعقول.
بعد الإحتلال الصهيوني سقطت عني المواطنة في بلدي كما سقطت عن الالاف المؤلفة من أبناء شعبي. هكذا قرر الفاشيون الجدد ووافقتهم دول الغرب " الديموقراطية" وصمتت الدول التي تسمى عربية، فلم يكن لديها، كما هو حالها اليوم، ما تقول.
لذا كانت الزيارة لنابلس تكلفني كثيرا من الجهد والعناء، حيث كان علي الأهل في نابلس أن يقوموا بالسعي للحصول من قوات الإحتلال على إذن زيارة يخولني بزيارة بلدي وموطني. أما بعد حصولي على الجنسية السلوفاكية فأصبحت الأمور أكثر سهولة وأكثر غرابة وغير معقولية فلقد انفتحت أمامي إمكانية زيارة بلدي كسائح أجنبي لعدم لزوم الفيز للأوروبيين.
منزلنا يقع في الجهة الشرقية من نابلس ويطل في الجهة المقابلة على العمارة أو الدبوية كما كان يقال لها، وهي مركز محافظة نابلس، بناها الأتراك وأعاد بناءها الإنجليز ومن ثم السلطة الأردنية وهدمها أو هدم قسما كبيرا منها اليهود الإسرائيليون.
منزلنا يتكون من طابقين وله حديقة جميلة مملوءة بأشجار الليمون والبرتقال والمندرينا والبوملي. ولقد اعتدت أن أجلس مع والدتي، رحمها الله، كل صباح في شرفة المنزل حيث نحتسي القهوة بالهال ورائحة الحمضيات تفوح في أرجاء الحديقة وجزء من البيت وتختلط مع رائحة القهوة والهال. وكثيرا ما كان ينضم إلينا الجيران وتمتلئ الشرفة بالضيوف والأصدقاء والأحباء. لا يمكنك أن تشعر بالوحدة في نابلس، لن يسمحوا لك بذلك.
المشي في شوارع وأزقة البلدة القديمة متعة ما بعدها متعة. فمن هنا مر الرومان واليونان والأتراك والإنجليز والإسرائيليون الصهاينة، وكل منهم هدم منها ما هدم وخرب ما خرب، ولكنها بقيت صامدة، شامخة تحكي عن تاريخ كل الذين مروا وذهبوا وما عادوا وبقيت هي.
كان مشواري المعتاد إلى البلدة القديمة بمثابة حج أقوم به كل يوم. كنت أخرج من بيتنا وأتوجه مشيا على الأقدام إلى البلدة القديمة، وكان المشوار الذي من المفروض أن يأخذ أربعين دقيقة يستمر عدة ساعات، حيث كان علي أن أقف في عدة محطات لا بد منها لشرب القهوة هنا والشاي بالنعناع هناك واليانسون في محل آخر. أول محطاتي عادة ما تكون قهوة باب البوابة الشرقية، حيث يجلس القادمون من قرى شرقي نابلس وحيث أجد في كل مرة بعضا من الأقارب أو الأصدقاء. باب البوابة الشرقية الذي لم يعد موجودا بالفعل يعم بمحلات السمانة وبائعي الخضار. وكنت أشرب القهوة على صوت بائعي الخضار الذين يروجون لبضاعتهم- أحمر وزي العسل يا بطيخ، أصبع الست يا خيار، ريحاني يا موز، وبين الفينة والأخرى كنت أسمع صبي القهوة يطلب القهوة للضيوف بصوت عالي وبشعرية عفوية- واحد حلوي للأفندي اللي جوي وهكذا.
بعد الإنتهاء من شرب القهوة والإعتذار عن قبول عشرات الدعوات لطعام الغداء، كنت أقوم وأخترق جموع الناس المكتظة لقضاء حاجاتها المختلفة وأتجه نحو البلدة القديمة. الطريق يخترق السوق المكتظ مرورا إلى الجامع الكبير أو الجامع الصلاحي نسبة إلى صلاح الدين الأيوبي الذي أعيد بناءه في زمنه. الجامع الكبير بفصل الطريق إلى طريقين، واحد يتجه إلى ساحة المنارة وجامع النصر والآخر إلى خان التجار ومن ثم إلى سوق البصل وسوق الحدادين.
كنت أسلك طريق خان التجار مرورا بسوق الذهب وأخرج من هناك متجها نحو صيدلية عدي هاشم، صديقي الذي درس الصيدلة في فينا وكان يزورني في براتسلافا وكنت أزوره في فينا. ولا أبالغ إن قلت أنني كنت خلال هذا الطريق القصير اقف عشرات المرات لمصافحة وعناق المعارف والأقارب ولقبول دعواتهم لإحتساء القهوة أو الشاي أو اليانسون أو الكازوزة.
صيدلية عدي هاشم تقع مقابل حلويات العكر المشهورة بصنع الكنافة النابلسية، وكنا نجلس أمام الصيدلية نراقب الناس وهم يدخلون محل الحلويات ويأكلون الكنافة الساخنة، وكان عدي يغريني بقوله: شو رايك يا ابو داوود في كنافة سخنة من الصدر؟ كنت في بعض الحلات أقبل العرض المغري وفي أخرى أرفضة معتذرا بأنني مدعو على الغذاء عند أختي أم سائد وكان يرد على اعتذاري:" طبعا يا خيي، ما منقدر نتعدى على أم سائد."
أختي أم سائد، شادن الصالح، زوجة الدكتور جمال أبو حجلة، طبيب الأنف والحنجرة، يعرفها النابلسيون جيدا. وحين كنت اسير معها في شوارع نابلس، كانت تتلقى التحيات من كل حوب وصوب. كانت في غاية الطيبة وكان لسانها لاذعا لا تستحي أن توجهه لمن يستحق. وكان الجميع يتلقى نقدها بكل حب ورضى قائلين:" بتؤمرينا يا أم سائد وإنت على راسنا من فوق". وكانت تضحك ضحكتها المشهورة وتجيب " الله يرضا عليكم، إنتو أخوتي وأولادي."
أم سائد كانت إلى جانب فضائلها الأخرى طباخة ماهرة وكانت تعرف أنني أحب كبة الرز المطبوخة باللبن. وكبة الرز لمن لا يعرفها، هي معجون من الرز المطحون باللحمة المطحونة، تصنع على شكل طابات وتحشى باللحم المفروم والبصل والصنوبر وتطبخ باللبن. تعلمتها من والدتي وأدخلت عليها تحسينات سرية أعطتها نكهة رائعة الطعم.
كنت أدخل إلى بيت أختي ورائحة الكبة وغيرها من المشهيات تفوح في جميع أرجاء البيت، وكنت أتلصص إلى المطبخ علني أستطيع سرقة ولو كبة واحدة من الطنجرة النحاسية. ولكن أم سائد كانت لي دوما بالمرصاد وكانت تسرع وتطردني من المطبخ بحنو قائلة: روح روح يا أخي، الغداء جاهز، ثم تصرخ على ابنها سائد أن يحضر الطاولة وينادي على جدته، والدتي، التي دخلت تأخذ "غطسة نومه". وكان سائد يرد عليها: "بتؤمري يا أحلى أم سائد في الدنيا."
سائد يعمل مدرسا في جامعة النجاح، ويحمل في كبدة رصاصة هدية من الفاشيين الجدد الإسرائيليين. لقد أطلق عليه الجيش الإسرائيلي النار وكان لا يزال طالبا في المدرسة. ولقد استطاع أن يصل إلى المستشفى في الوقت المناسب، وبقدرة قادر استطاع الأطباء إنقاذ حياته ولكنهم لم يستطيعوا إخراج الرصاصة من كبده، بقيت ذكرى على همجية العدو الإسرائيلي وإجرامه.
يقول أهل نابلس أنه لكل أكلة مصران وأن في البطن خلوى لا يملؤها إلا الحلوى. واعتاد كثيرون من أهل نابلس أكل الكنافة قبل الغداء وبعده. والكنافة حاضرة بعد كل حفلة غداء ولا يعتبر الغداء كاملا إذا لم تكن آخرته كنافة. وكان ابو سائد خبيرا في طلب الكنافة، وكان يقول للكنفنجي: " نضال جاي من أوروبة ولا تفضحنا معاه." بعد الغداء وأكل الكنافة كنا نستلقي لمدة ساعة أو نصف الساعة والتي بدونها لم نكن نقدر على السهر والسمر.
في المساء كان يأتينا الأصدقاء والأقارب للسلام على الضيف القادم من أوروبا ولطالما كان على رأس الحضور الصديق الدكتور فرحان أبو الليل، المسيحي الذي يحفظ القرآن والذي كان يردد القول بأن القرآن ليس كتاب المسلمين وحدهم، وأنه كتاب كل العرب وأصل من أصول التراث العربي. قضى جزءا لا باس به من حياته في السجن، سجنته السلطات الأردنية ومن بعدها سجنته الصهيونية الإسرائيلية وبنفس التهمة ولقد قضى في السجن عدة سنوات. وقلما كان المجلس يخلو من الصديق المناضل بسام الشكعه الذي فجر الموساد رجليه وأقعده على كرسي متحرك ولكنه لم يستطع أن يقعده عن الإستمرار في النضال من أجل حرية بلده.
لم تكن تخلوا الأمسية من أحاديث السياسة وأحاديث المجتمع، من تزوج ومن ولد له طفل ومن مات ومن استشهد. فرغم الإحتلال كان الناس يعملون ويتزوجون ويخلفون ويتزاورون ويتسامرون. الحياة يجب أن تستمر مع كل القهر والحصار والعنف. السهرات واللقاءات في بيت أم سائد كانت ندوات ثقافية بامتياز، حيث تلتقي هناك كل الآراء والإتجاهات السياسية وحيث كانت تدور النقاشات الهادئه والإيجابية.

بتاريخ 11 تشرين الأول/أكتوبر عام 2002 كانت أختي أم سائد جالسة في شرفة منزلها مع زوجها وإبنها سائد. كانت تطرز ثوبا فلسطينيا لعروسة ابنها سائد وكان زوجها يحتسي الشاي وأبنها سائد يهم للصلاة. وقفت سيارة عسكرية إسرائيلية أمام المنزل ونزل منها جنديان، صوبا بنادقهما الرشاشة صوب أختي والعائلة وأطلقا النار بكثافة. أصابت تسع رصاصات أم سائد فسالت دماءها على الثوب وبقي شاهدا على همجية وإجرام النازيين الجدد. أصيب ابنها سائد برصاصة في الرقبة وزوجها برصاصة في الرأس ونجيا من الموت بأعجوبة. هرع سائد إلى أمه وظن أنه أغمي عليها هلعا من المفاجأة وخوفا عليه. ضمها إلى صدره وأخذ يطمئنها بأنه بخير وأن إصابته طفيفة. ظن أن الدماء التي غطت جسدها هي دماء جرحه، ثم لا حظ أن الدماء تدفق من عدة ثقوب في صدرها فأخذ يصيح" قتلتمو أمي يا مجرمين." نظرت أم سائد إلى ولدها، ابتسمت له ثم فارقت الحياة.
كانت أم سائد في الستين من العمر، أم لثلاث فتيان وفتاة وجدة لعدد من الأحفاد. لم تحمل السلاح في حياتها، كانت فلسطينية، تعشق فلسطين كآلاف الفلسطينيات مثلها تحاول مساعدة شعبها بدعم صموده ومساعدة عائلات االشهداء والأسرى. لم تكن تسيرفي مظاهرة في شوارع المدينة تلقي الحجارة على الجنود الإسرائليين، كانت جالسة مع عائلتها في شرفة منزلها التي تبعد عن الشارع عشرات الأمتار. كانت تطرز ثوبا لعروسة إبنها فقتلها النازيون الجدد وبقيت دماءها تغطي ثوب العروس كشاهد على الإجرام الصهيوني.
دفنت أختي أم سائد في قبر يبعد بعض الأمتار عن قبر إبنة خالتها الشهيدة شادية أبو غزاله ويحيط بها قبور كثير من الشهداء منهم مجموعة من طلاب إبنها سائد الذين وهم في طريقهم إلى الجامعة إنتهوا على يد العدو الصهيوني في مقبرة الشهداء. رحلت أم سائد ومن يومها ما عدت أجد للكبة رائحة ولا طعم.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - ذكريات لا تنسى
anees sweidan ( 2010 / 9 / 4 - 02:25 )
اعدتني يا نضال لسنوات طولة مضت في صحبة خالتي ام سائد والعائلة الكريمة...أعدتني ليوم استشهادها وكيف ركضنا من الجبل المجاور في ظل حظر التجول لنركض مرة أخرى لمستشفى نابلس التخصصي ونلقي نظرة الوداع على أم فلسطين...لها الرحمة وطبى في السماء

اخر الافلام

.. الجامعات الأميركية... تظاهرات طلابية دعما لغزة | #غرفة_الأخب


.. الجنوب اللبناني... مخاوف من الانزلاق إلى حرب مفتوحة بين حزب 




.. حرب المسيرات تستعر بين موسكو وكييف | #غرفة_الأخبار


.. جماعة الحوثي تهدد... الولايات المتحدة لن تجد طريقا واحدا آمن




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - كتائب القسام تنشر فيديو لمحتجزين ي