الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


واقع العرب الراهن .. مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع أم اقتتال وفوضى ؟

عبدالله تركماني

2010 / 9 / 3
اخر الاخبار, المقالات والبيانات


لا يوجد حل سحري للخروج من المأزق التاريخي العربي إلا بالعودة إلى استئناف مسيرة التطور الحضاري الشامل بمشروع نهوضي متكامل، وبنفس طويل، لا يحرق المراحل، ولا يحرق نفسه بالطفرات والمغامرات والحلول المرتجلة. ولن يحدث هذا إلا بتحرير الوعي العربي العام من كثير من الأوهام والتصورات المغلوطة، وإعادة تأسيسه على التفكير النقدي المستقل.
ويبدو أنّ التقدم في النقاش يقتضي فك ارتباط مبدئي بين الثقافي والسياسي، والاهتمام بكل منهما بصورة مستقلة عن الآخر، تبعاً لرأي الأستاذ ياسين الحاج صالح، وذلك من أجل تحرير النقاش من التوظيفية والنفعية، وليس للقول إنّ الثقافة محايدة حيال التقدم الاجتماعي والسياسي، أو إنّ التقدم ممكن دوماً بالدرجة نفسها في جميع الثقافات وفي جميع الأشكال التاريخية لكل ثقافة.
وفي الواقع لا بد لأي مشروع جادٍّ أن يمتلك رؤية حضارية لطبيعة مجتمعه ومستقبله والعصر الذي يعيش فيه, والمرحلة التاريخية التي يجتازها, والمناخ الدولي الذي يحيط به. وأن يكون لديه، في مؤسسات الدولة والحكم، من يتولى أمور السياسة اليومية واجتياز مضائقها, ومن يتولى شؤون الرؤية الحضارية واستشراف آفاقها. كما أنّ أية محاولة لتحديد إشكاليات النهوض العربي عليها تحليل ومساءلة أحوال البلدان العربية الحاضرة بروح نقدية، بعيداً من التأثيرات الأيديولوجية، قديمها وجديدها، وذلك كي تقدم فعالية نقدية يمكنها تحديد تلك الإشكاليات كما هي، وليس تقديم متصور عنها، كي لا تغيب رؤية الحاضر على حساب حضور رؤية الماضي، لأن الحاضر هو المنطلق والهدف.
إنّ المطروح في هذه المرحلة هو تبنّي مراجعة نقدية بناءة للتجارب السياسية العربية كافة، وتصويب أدائها بما يحفظ لهذه المنطقة مصالحها الاستراتيجية، ويتيح لشعوبها الاستفادة من ثرواتها في مناخ فكري - سياسي سليم، وفي أجواء من الممارسة الديموقراطية التي ترتقي بالواقع السياسي إلى مستوى المسؤولية البناءة.
وفي الواقع، لا يمكن الحديث عن مفهوم معاصر للعروبة إلا إذا اشترط عليه أن يشهد تحولاً كيفياً يمتلك من خلاله بعض السمات، ويحيط نفسه بمجموعة قرائن تجعل من العروبة مقولة مقبولة من جماهير العرب ونخبها، بما عليها أن تشكل في طياتها من مخزون يحوي قدراً من التحرر والديمقراطية والتنوع. فعلى العروبة اليوم أن تفعّل التثاقف الحضاري وأن تميّز بين القيم الغربية كجزء من القيم الإنسانية العامة وبين التدخل الغربي كمشروع سيطرة على مصادر الثروة يخدم التراكم الرأسمالي في الغرب. على العروبة اليوم أن تكون مشروعاً تنموياً اقتصادياً واجتماعياً ومشروعاً علمياً تكنولوجياً، وعليها أن تكون مشروع حرية في مجالات الإعلام والثقافة والفكر، وعليها حماية واحتضان المجتمع المدني.
فلم يعد ممكناً أن نتعامل مع الأوضاع الجديدة بالأدوات القديمة نفسها, بل أصبحت عملية تصحيح المسار مطلباً قومياً ملحاً على الأصعدة السياسية والدستورية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية. ولعلي أتقدم هنا برؤية محددة تدور حول الوضع العربي العام مؤداها يتلخص في المحاور الثلاثة الآتية:
(1) - يجب أن تسود لدينا ثقافة الاعتراف بالواقع وأن نرى الأمور على طبيعتها من دون تزييف أو مغالطة، فالشعوب العربية تعاني في مجملها من غياب الحريات وضعف تمثيل القوى السياسية الحقيقية، فضلاً عن انتشار الفساد وضعف المصداقية، بل انعدام الشفافية. إذ أنّ التوصيف الحقيقي للواقع هو المدخل الأمين لقراءة المستقبل، ولا يمكن أن نقيم تصوراتنا على حسابات زائفة أو معطيات خاطئة. فدعونا نرى الواقع العربي كما هو من دون يأس أو تزييف، لأنّ بداية العلاج هي الحديث عن الأعراض الحقيقية من دون مواربة أو ازدواجية، والإفصاح عن الداخل بشكل مجرد وبغير عمى ألوان أو انحياز للذات.
(2) - إنّ إفساح الطريق أمام الدماء الجديدة في النظم العربية المختلفة لم يعد ترفاً نطلبه ولكنه أضحى ضرورة لا فكاك منها، لذلك فإنّ الدفع بالقيادات الجديدة لن يتأتى إلا بالتسليم بحقائق العصر ولوازمه، بدءاً من دوران النخبة ومروراً بتجديد القيادات ووصولاً إلى تداول السلطة، فالديموقراطية الحقيقية تلك هي ركائزها, كما أن سيادة القانون هو سندها أولاً وأخيراً.
(3) - إنّ توافر عنصر الإرادة السياسية يبدو أمراً أساسياً في إرساء قواعد المستقبل وتحديد ملامح الغد، ولا سبيل لنا للمضي في الطريق الصحيح إلا بتوافر تلك الإرادة والتصميم عليها. ولا يمكن أبداً أن نتحدث عن المستقبل ونحن نغفل أنه مرتبط بعنصر الرغبة ومرتهن بوجود القدرة، وكل حديث عن الإصلاح في ظل غياب الإرادة السياسية هو لغو لا طائل من ورائه واستهلاك لفظي بغير مضمون.
كما يحتاج العرب هذه الأيام إلى وضع قائمة أولويات أساسية للخروج من المأزق الراهن، ومعالجة أسباب التدهور في أوضاعهم ومسببات وصولهم إلى الحالة المزرية والحرجة التي يعيشونها، بكل ما تحمل معها من قلق واضطراب ومضاعفات خطيرة وخلافات وفتن طائفية ومذهبية وظواهر عنف وتطرف وإرهاب. وعلى رأس قائمة الأولويات يجب وضع قضية نشر ثقافة الحوار والموعظة الحسنة وقبول الآخر واحترام رأيه وموقفه وصولاً إلى ثقافة الديموقراطية.
وكلما تابعنا نزيف الدم على الأرض الفلسطينية، أو المعاناة التي يشعر بها العراقيون، تأكد لنا أكثر من أي وقت مضى أنّ هناك طريقاً واحداً وسبيلاً واضحاً، وهو القيام بعملية مراجعة شاملة لجوانب حياتنا ومواجهة شجاعة مع مشاكلنا ومصارحة أمينة لشعوبنا التي لا تقتات بالشعارات ولا تعيش بالأحلام ولا تقودها الأوهام، إذ لا بد من وعي صادق ومكاشفة كاملة تطفو فيها الحقائق على السطح وتختفي منها الازدواجية التي نعيش فيها، وتتقدم الشفافية لتصنع عالماً عربياً جديداً ذا مصداقية واحترام في عالم اليوم، يواجه أمراضه بوضوح ويتعامل مع مشكلاته بشكل مباشر وينفتح على الغير وترتفع فيه قيم الإنسان وتقل معه صلاحيات الحاكم الفرد.
لقد حان الوقت للتغيير، لبدء الطريق نحو التخلص من التبعية والتهميش وإعادة إنتاج الفقر والتخلف والتفاوت والجهل والتسلط، وذلك بالاعتراف بانهيار عصر عربي بأنظمته وأحزابه ومؤتمراته وعقائده، وإجراء مراجعة شاملة للشعارات الكبيرة المعتمدة على أفكار تجاوزها الزمن، ونقد للذات، والبدء بقبول وفهم الوقائع العالمية الجديدة وانعكاساتها المحلية، ووضع حلول للحاضر والمستقبل لا تُستحضر من مفاهيم الماضي إلا بمقدار ما تنطوي على جدوى للحاضر والمستقبل.
إنّ المطلوب، في هذا الزمن الصعب من تاريخنا، أن تنتقل كل قوى الأمة الفاعلة والنخب الفكرية والسياسية منها، على وجه التحديد، من حالة التنظير السلبي إلى حالة الفعل الإيجابي بالسعي لتشكيل توافقات وطنية داخل كل قطر عربي، أو ما يمكن تسميته بـ " الكتلة التاريخية من أجل التغيير "، حيث يعطى هذا التجسيد العربي من الصلاحيات ومن القدرات ما يؤهله من القيام بعملية إصلاح شاملة، تهدف إلى صياغة رؤى فكرية معاصرة تتعايش مع ثوابت الأمة وتنطلق مع العصر لبناء مؤسسات المجتمع المدني وإرساء قواعد دولة الحق والقانون وانتهاج الديمقراطية مساراً والتعددية ثراء وإغناء للحياة العربية، واعتماد الحرية متنفساً إنسانياً للتعبير والنقد البنّاء والمشاركة الخلاقة، وإشاعة روح البحث العلمي في كل ميدان من الميادين وإتاحة المناخات الصحية التي تفجر طاقات المبدعين من أبناء الأمة.
وثمة احتمالان ينضجان في واقع العرب الراهن: احتمال أن نذهب إلى مصالحة تاريخية بين أطراف السياسة والمجتمع، تتيح انتقالاً تدريجياً وآمناً نحو وضع بديل، نقبله جميعاً لأنه من اختيارنا، واحتمال نقيض يعني تحققه ذهابنا من أزمتنا الراهنة إلى حال مفتوح على الاقتتال والفوضى. هذان الاحتمالان هما بديلان تاريخيان للواقع العربي الحالي، يمثل أولهما فرصة وثانيهما كارثة. ولكي يرجح احتمال الفرصة فلندرك أنّ الدولة المركزية واحتكار القرار السياسي والإداري لم يعودا ممكنين في ظل عالم يتجه نحو اللامركزية وتوسيع دائرة المشاركة واحترام الخصوصيات.
وفي السياق نفسه، يفترض أن تمثل الأقليات القومية أو الدينية عاملاً ذا بعد إيجابي في الحياة العربية، إذ يمكن أن تضيف تنوعاً يضيف إلى مجتمعاتنا ويجعلها أكثر ثراء ثقافياً وتسامحاً وانفتاحاً. وفي كل الأحوال فإنّ التعايش والاندماج يقتضي تسليماً من جميع مكوّنات مجتمعاتنا بضرورة إشاعة روح التسامح وقيم التعايش، وهذا يوجب على الأقليات ألا تتقدم بمطالب لا تستطيع الأكثرية قبولها. كما أنّ للحكومات دوراً أكثر أهمية، إذ أنّ عليها أن تتيح تكافؤ الفرص الإدارية والسياسية والثقافية، فلا يعقل أن تمنع كفاءة من خدمة وطنها من موقع تخصصها وتميّزها بسبب انتمائها العقائدي أو الاجتماعي أو السياسي، كما يتوجب على الحكومات صيانة الحقوق الدينية والسياسية والثقافية عبر مؤسسات وقوانين دستورية تؤسس لسياق وطني، يصون حقوق الجميع وتطوير النظام السياسي وإرساء متطلبات الديمقراطية فيه.
إنّ ما يحتاج إلى التغيير هو أفكارنا بالذات، بمرجعياتها ومسبقاتها وأحكامها، فمقولاتنا الفكرية التي تجسد علاقتنا بوجودنا هي منشأ الخلل كما يتجلى ذلك في غير وجه من وجوه حياتنا، أي هي مصدر مصائبنا وكوارثنا، وهي التي تعمل ضدنا وتنصب الأفخاخ لنا، على نحو يجعلنا نزداد ضعفاً وتراجعاً.
إنّ ما ينتظر أن نقوم به: إتقان لغة الخلق والكشف لكي نعيد صياغة حياتنا ونحسن قيادة مصائرنا، بحيث نتحول عن كوننا رعايا وعبيداً مخلوقين تابعين نتعامل مع هوياتنا ككيانات ما ورائية أو طقوس أخروية تعزلنا عن وقائع العصر وحقائقه أو عن أسئلة العالم.
فالرهان هو أن نتغيّر في ضوء المتغيّرات، فكراً وعملاً، رؤيةً ومنهجاً، سياسةً واستراتيجيةً، بحيث نتغيّر به عما نحن عليه، لكي نحوّل الواقع ونسهم في تحويل سوانا عبر مشاركتنا في صياغة العالم الجديد. وذلك يتوقف على قدرتنا على تشغيل عقولنا المصادَرة وصرف طاقاتنا المشلولة واستغلال مواردنا المنهوبة بصورة مثمرة، فعالة وراهنة، بما نخلقه من الوقائع أو نحققه من الإنجازات أو نحدثه من التحولات في غير مجال من مجالات الحياة.
إنّ ما يجب أن يقال وينفذ إلى صميم الوعي العربي الرسمي والشعبي، أنه لن يكون تقدم للعرب في هذا العصر، ولا تحسين لموقفهم حيال التحديات الإسرائيلية والدولية وحيال عصرهم كله، إلا بعمليات إصلاح جذري وشامل لأوضاعهم الداخلية في كل مجتمع عربي. إنّ معركة إنقاذ فلسطين هي معركة إصلاح كل بنية عربية من المحيط إلى الخليج بالحرية وبالتنمية وبالكرامة، هذه حقيقة أصبحت ملحة وصارخة برسم كل حاكم عربي ومواطن عربي ولا بد أن تنعجن بخبزنا اليومي كعرب إذا أردنا البقاء في صراع البقاء.
إنّ المرحلة القادمة تقتضي شحذ الوعي الاستراتيجي العربي بمفاهيم وأساليب وآليات جديدة للتعامل مع أزمات غير مسبوقة، وتحولات نوعية متسارعة، وتحديات غير مألوفة، ذلك أنّ الأمر لا يتعلق بترميم نظام متداعٍ، وإنما بالاستعداد للانتقال المتأخر من مناخ المعادلة الدولية المندثرة، إلى آفاق معادلة دولية أخرى قيد التكوين.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - لا تحشر البيض في سلة واحدة
سموأل راجي ( 2010 / 9 / 4 - 01:17 )
إن الوضع في الوطن العربي يمثل انعكاسا للوضع الدولي العام. فالوطن العربي هو المنطقة من العالم التي تتعرض اليوم أكثر من غيرها بحكم ثرواتها النفطية وموقعها الاستراتيجي لانعكاسات النزعة الهيمنية والعدوانية للامبريالية الأمريكية ولحليفتها في المنطقة: الصهيونية التوسّعية والعنصرية والفاشية. فالامبريالية الأمريكية لم تخف، وهي تشن حربها الاجرامية ضد العراق، أنها ترمي إلى إعادة ترتيب الأوضاع في كامل المنطقة وفقا لمصالحها الاستراتيجية ولمصالح حليفها الكيان الصهيوني بما يضمن هيمنته إقليميا
ان الأنظمة العربية ملزمة لضمان بقائها بالتعبير عن شواهد الإخلاص للامبريالية وخاصة الامبريالية الأمريكية. لقد كانت الحرب الأخيرة مناسبة كشفت مرة أخرى حقيقة الأنظمة العربية. فما من مرة برز فيها التعاون صلب التحالف الامبريالي الصهيوني الرجعي العربي كما برز في المرة الأخيرة. فالأنظمة العربية تواطأ معظمها إن لم نقل كلها بهذا الشكل أو ذاك مع العدوان الأمريكي البريطاني. فدول الخليج شكلت قاعدة لضرب العراق. والأردن قدم للأمريكان ما طلبوه منه من تسهيلات (استعمال المجال الجوي...)، ومصر قبضت 1,2 مليار دولار مقابل دورها السياسي في تمرير الضربة الأمريكية وفتح قنال السويس أمام مرور البوارج الأمريكية. ومن الواضح أن بلدانا كتونس ومصر والأردن والجزائر والمغرب واليمن قد ساندت في السر الحرب على العراق. وحتى سوريا التي عبرت عن رفضها للحرب فإنها استكانت بعد احتلال العراق أمام تهديدات الإدارة الأمريكية وسلمت عدة مسؤولين عراقيين لجيوش الاحتلال الأمريكية. ولا يستبعد أن تمارس الضغط على حزب الله في لبنان كي يكف عن مهاجمة الكيان الصهيوني وعلى المنظمات الفلسطينية التي تأويها كي تنصاع للمشاريع الأمريكية الصهيونية في المنطقة. وإلى ذلك كله فقد واجهت كل الأنظمة العربية تحركات شعوبها المساندة للعراق والمنددة بالعدوان عن طريق القمع الوحشي
وبصفة عامة فإن مجرى الأحداث ما انفك يبين أن الشعوب العربية لا أمل لها في الخلاص وفي التحرر والاستقلال والديمقراطية والتقدم الاجتماعي والوحدة طالما أنها محكومة بالأنظمة الرجعية الحالية التي تمثل سندا رئيسيا لأعدائها الامبريالية والصهيونية. كما أكد مجرى الأحداث أن هذه الأهداف لا يمكن أن تحققها أقليات بيروقراطية -قومية- متسلطة على شعوبها أو قوى ظلامية تدعي أنها تمتلك تفويضا سماويا (السودان...). وإنما هي تتحقق بإرادة الشعوب ذاتها. فالشعوب العربية وحدها هي القادرة على تحرير نفسها من ربقة الاستعمار والصهيونية والرجعية إذا مسكت مصيرها بيدها.

اخر الافلام

.. طارق متري: هذه هي قصة القرار 1701 بشأن لبنان • فرانس 24


.. حزب المحافظين في المملكة المتحدة يختار زعيما جديدا: هل يكون




.. الرئيس الفرنسي يدعو إلى وقف الأسلحة نحو إسرائيل ويأسف لخيارا


.. ماكرون يؤيد وقف توريد السلاح لإسرائيل.. ونتنياهو يرد -عار عل




.. باسكال مونان : نتنياهو يستفيد من الفترة الضبابية في الولايات