الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مشايخ الفضاء... وبُنوك الدعاء

حسن حنفي

2010 / 9 / 4
بوابة التمدن



يفتخر هذا العصر بأنه عصر الاتصالات والقرية الذكية والإلكترونيات. ويعتز بهذه الاكتشافات الجديدة التي أصبحت تقوم بدور خارق كدور السحر في المجتمعات القديمة. ويزهو هذا العصر بأنه عصر المعلومات والقدرة على التنبؤ، والذاكرة الرقمية، والقدرة على معرفة كل شيء من جهاز صغير يعمل باللمس. يعطي الإنسان كل ما يريده، ويجد فيه كل الإجابات على كل الأسئلة. ولا تستخدم هذه الإمكانيات الجديدة فقط في إسماع أصوات المهمشين، وفي تقوية أصوات النقد عن طريق المدونات وطرق المعلومات الجديدة التي لا تستطيع الأنظمة السياسية السيطرة عليها أو رقابة ما فيها بما في ذلك الدول الكبرى كما حدث أخيراً في نشر آلاف الوثائق عن حرب أفغانستان، بل أيضاً في إدارة شؤون الحياة العامة بحيث يضيع الإنسان إذا ضاع كمبيوتره أو هاتفه المحمول أو جهاز حفظ المعلومات وتخزينها "فلاش ميموري". تحول العلم إلى معلومات والنظر إلى حساب، والتفكير إلى جداول، والكم إلى كيف. وأصبح كل شيء ميسوراً، والبعيد قريباً، والغائب حاضراً، والممكن واقعاً. وسهل عقد الصفقات وتحديد الأسعار بكمبيوتر يدوي في حجم الكف. تأتيه الإعلانات حول المشتريات والأسعار والتخفيضات والفرص والمناسبات والمواقيت وضرورة الإسراع لانتهاز الفرص، وتحقيق المكاسب حتى دون الحركة في شوارع المدن المزدحمة. تكفي أرقام البطاقات الائتمانية وتحويلات البنوك.





وبعد أن تحول كل شيء إلى تجارة، والقطاع العام إلى قطاع خاص، والحياة في مراكز التسوق و"السوبرماركت" والأسواق التجارية من أجل تحقيق الربح والكسب في الحاضر أو المستقبل، في الاستهلاك أو في الاستثمار، امتد ذلك إلى الاتصال بالفضاء وليس فقط على الأرض. فالأقمار الاصطناعية قادرة على الاتصال بالفضاء كما استطاعت تنظيم الاتصالات على الأرض. ولما كان البسطاء والفقراء لا يستطيعون مجاراة أسعار مراكز التسوق الضخمة نشأت لهم اتصالات خاصة عن طريق اختيار الأدعية التي يكلف كل منها أربعة جنيهات شهريّاً للدعاء الواحد من أجل إرواء العاطفة الدينية والحصول على السعادة "الأبدية". وكأن أزهد الأسعار كافٍ لكي يحصل الزبون على أعلى المكاسب. وتبدأ العروض بالمعلومات عن خوارق العادات للإيهام والتخويف والترغيب. ثم تـُعطى برامج بعض "الدعاة الجدد"، أشرطتهم وكتبهم وتعاملاتهم ومواعيدهم، الذين لديهم هذه البضاعة حصريّاً وليست عند غيرهم. ويُعطى نموذج للدعوة "المستجابة" وسعرها وحالات من استجابتها عند من دفع ثمنها. فتحولت المآسي إلى أفراح، وانقلب الشقاء إلى نعيم وأعظم المكاسب بأزهد الأسعار. فيستجيب البسطاء الذين سُدت أمامهم السبل، وأوعزتهم الحيل عن تحقيق أمانيهم بالطرق المشروعة، زيادة الأجور أو فرص العمل أو الإعارة أو الهجرة أو الرزق الهابط من السماء. والدعاء الذي يراد الاتصال عليه زهيد الثمن، أربعة جنيهات شهريّاً لا غير. ولا يتساءل هذا الساذج عن إمكانية خداع البسطاء باسم الدين. فالعصر عند البعض عصر خداع واحتيال، الاحتيال على أراضي الدولة باسم التعمير، ورفع أسعار الحديد باسم الأزمة المالية العالمية، وغلاء أسعار المواد الغذائية باسم انخفاض العملة، وتوريد المواد الغذائية الفاسدة من لحوم وحبوب وزيوت باسم طول مدة التخزين والشحن والتفريغ. وهو ما يطغى على الأخبار كل يوم، حكومة ومعارضة، حتى أصبح الاحتيال وكأنه سلوك عام، ونمط استهلاكي لاشك فيه. فلماذا تبقى العاطفة الدينية خارج هذا التعامل الجديد، من رجال الأعمال الكبار إلى رجال الأعمال الصغار؟ من تجاوز مكاسب الحاضر التي لا يقدر عليها ومنافسة الكبار وغِيلان السوق إلى مكاسب المستقبل الموعود بها بأسعار في متناول قدراته المالية؟ وتفسير الدين، وفق منطق هؤلاء الخاطئ، لا يخرج عن هذا الجو التجاري العام في بعض قنوات الفضاء عوداً إلى بعض ممارسات العصر الوسيط الأوروبي الذي كانت تباع فيه صكوك الغفران. وكأن الإنسان بقدر ما يعطي أولئك في الدنيا يأخذ في الآخرة. وبقدر ما يدفع في الدنيا يسترد في الآخرة. وكأن الدين تجارة، دفع القليل لكسب الكثير. وقد تـُعطى التغطية الشرعية لذلك بتفسير متأول خاطئ لمقاصد بعض الآيات الكريمة وتأويل بعض الأحاديث الشريفة، اجتزاء من الكل، وبهذه الروح يتم الإيهام بتلبية حاجات السائلين ومطالب الداعين.

ولا حاجة للتذكير بأن هذا كله مما يعارض روح الإسلام التي تقوم على التقوى وتصفية النفس. فلا أحد يضمن الجنة لنفسه ولا الرسول صلى الله عليه وسلم إلا برحمة الله، سبحانه وتعالى. فكيف تشترى ببعض الجنيهات من خلال اقتناء الأدعية على التليفونات المحمولة وبعث الرسائل الإلكترونية لعامة الناس التي لن تخسر شيئاً؟

والدعاء عند هؤلاء المنتفعين باسم الدين هو في النهاية مجرد كلام، قول بلا عمل، صوت بلا فعل، لسان بلا يد. أما العمل الصالح فهو الطريق إلى الجنة، وفي مقدمة أهلها الذين يقولون كلمة الحق ويعملون الصالحات. ومداد العلماء مثل دماء الشهداء. يقال الدعاء في لحظة ضعف وعجز عن العمل، إذا سدت الطرق، وضاقت السبل. فهو نوع من تفريج الكرب وتفريغ الهم إلى أعلى بعد انسداد الطرق إلى الأمام. وهكذا نشأ الزهد والدين الشعبي والأدعية والابتهالات والاحتفالات الدينية في المناسبات، من أجل تحقيق انتصار نفسي في زمن متأزم وواقع مهزوم. وكما وصف عبدالرحمن الجبرتي أثناء غزو الفرنسيين لمصر في 1798 دعاء الناس "يا منجي الألطاف نجنا مما نخاف". الدعاء لتحقيق المطالب، والسجود للشكر، والفعل الإنساني الحر محصور بينهما. وماذا تكون النتيجة، مثلاً، إذا دعا كل من الفريقين الرياضيين المتنافسين للنصر؟ لمن يتحقق الدعاء ولمن لا يتحقق؟ وماذا يفعل الفريق المهزوم إذا سجد الفريق المنتصر شكراً لله؟

لقد أصبح الدين عند هؤلاء تجارة لأن التجارة روح العصر، المكسب والخسارة، الربح والفائدة، الاستيراد والتصدير، الاستهلاك والاستثمار. والدين رأسمال شعبي يمكن استثماره للعاجزين عن الدخول في المنافسة مع رجال الأعمال. فيفتح لهم بعض مشايخ الفضاء بنك الدعاء، الدعاء لتلبية المطالب والحاجات بأبخس الأسعار، أربعة جنيهات للدعاء الواحد شهريّاً، والإيهام بأن هذه وسيلة كافية للحصول على المراد الدائم. بعد الفقر في الدنيا، الغنى في الآخرة. وبعد الهزيمة على الأرض، النصر في السماء.

الاتحاد








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - هكذا يكون الدعاء
محمد البدري ( 2010 / 9 / 4 - 14:15 )
اتمني من الدكتور حسن حنفي ان يتوقف عن ترويج شراب الكوكتيل الذي يخلط فيه ما لا يجوز خلطة فيصبح شرابا كالزقوم وليس فيه من متعة فكرية او عقلية. فالافكار الاشتراكية لا يمكن خلطها بالاسلام مثلها مثل الافكار الراسمالية، فالاسلام في مكونه الاصلي لا يعرف ايا منها انما التجارة فيما هو متاح اي بالتطفل علي المنتج والمستهلك. فتاريخ الاسلامم الاقتصادي هو تاريخ النهب من شعوب ليست مسلمة اصلا كالتي ينتمي اليها السيد الدكتور حنفي. وعلي نفس المنوال فان الاعتقاد بان التنمية يمكن ربطها بالاسلام فان تاريخ المجتمعات الاسلامية ينفي هذه الفكرة فاينما ذهب الاسلام ذهب معه الخراب. فمنذ ان ظهرت ايدلوجية العروبة التي هزمت نفسها بنفسها عاد الدين ليطل لتعويض الخسائر فكانت النتيجة هو ان أصبح الدين تجارة لأن التجارة روح الاسلام كما قدمنا، وساد الفساد في الواقع انتاجا واستهلاكا وهو ما يشكو منه د. حنفي بل وامتد الفساد الي العقل ذاته فهل يرضيك العقل الجمعي وعقل النخب الحالي بعد كل هذه الاسلمة. وعقل رجل الشارع . يا منجي الألطاف نجنا مما يدعوننا اليه في ظل الاسلام الان.


2 - الحقيقة
basem adeeb ( 2010 / 9 / 4 - 17:33 )
الحقيقة ان الاسلام من زمن محمد وهو يعيش علي النهب والغنائم والجزية من البلاد التي استعمروعها

اخر الافلام

.. غزة ..هل يستجيب نتنياهو لدعوة غانتس تحديد رؤية واضحة للحرب و


.. وزارة الدفاع الروسية: الجيش يواصل تقدمه ويسيطر على بلدة ستار




.. -الناس جعانة-.. وسط الدمار وتحت وابل القصف.. فلسطيني يصنع ال


.. لقاء أميركي إيراني غير مباشر لتجنب التصعيد.. فهل يمكن إقناع




.. نشرة إيجاز بلغة الإشارة - نحو 40 شهيدا في قصف إسرائيلي على غ