الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


شهوة الانتماء

مالك مسلماوي

2010 / 9 / 5
حقوق الانسان


ربما كان القرن العشرون الأخطر في إثارة أسئلة صميمية , تتجاوز الجدليات القائمة إلى فضاءات أوسع , توافرت نتيجة لما توصل إليه العقل البشري من إنجازات هائلة على أثر الحركة العلمية النشيطة ، والتي تغلغلت بجرأة في الزوايا البعيدة والمنغلقة على قدرات الإنسان المعرفية, لكن هذا الشوط من عمر البشرية شوط ملتبس لم يعرف فيه الإنسان أين يقف , وأي طريق يسلك حتى يحقق مدينته الفاضلة .. (والقرن العشرون قرن غامض ومبهم ـ كما يقول وليم غولدنغ ـ وأنا طفل في هذا القرن لا أحس أن هناك أي يقين تام ونهائي . . .) 1 .
والى جانب الغنى في تحقيق المنجزات العلمية ، كان القرن غنياً بالصراعات العسكرية والسياسية والفكرية . وما رافق ذلك من جدليات أخرى أوجدها بروز الفلسفة المادية لمحاولة تجديد النظرة نحو الوجود ، بالخروج السافر عن محددات المؤسسات ذات اليقينيات الراكدة ومنها المؤسسات اللاهوتية، اللاهثة وراء التطور التقني لردم الفجوة مع النظرة الغيبية التي هي الركيزة الأساسية في هيكلة السلطة اللاهوتية ، وهي تعاني الحرج في التوفيق بين ( المنقول والمعقول ) .
وأهم ما يلفت النظر في مقولة غولدنغ هو عدم إحساسه بأن هناك يقيناً تاماً ، وهذا يتفق مع قول أبي العلاء المعري : ـ
( أما اليقين فلا يقين وإنما أقصى اجتهادي أن أظن أحدسا ) .
أعتقد أن المعنى المتحصل الوارد في قولي غولدنغ والمعري هو أساس كثير من الإشكاليات التي واجهها الإنسان ويواجهها حاضرا ومستقبلا ، وكان لها الأثر الكبير في عملية الصراع مع الذات والذات الأخرى ، وزرع بذور الشك والقلق لدى الإنسان .
وتفاقم الوعي هو ملمح مهم من ملامح هذا القرن الذي أتاحته الثورة المعلوماتية المصاحبة للثورة التكنولوجية ، والمتداخلة مع حركة التغيير الشاملة ، والتي تمظهرت في مجتمعنا على شكل تمردات وانقلابات سياسية واجتماعية تلبس الحداثة ثوباً ولا تنسجم معها روحا بسبب الطبيعة (التجذرية ) في ثقافتنا المحلية ( المقولبة ) , رافق ذلك شيوع مفاهيم الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان ...التي تسعى للخروج على سلطة الأخر ( الاجتماعي أو الديني أو السياسي ) كونها تشكل ضغوطا قاسية على الذات المقموعة دائما , لصالح القوى المتنفذة , مما أتاح الفرصة أمام ظاهرة الوعي للذهاب بعيدا في البحث والتقصي ومراجعة المهيمنات الفكرية والارتكازات الاجتماعية الماسكة لشكل الحياة القائم , وتنامي الرغبة في الانفلات منها . الأمر الذي أدى بتلك القوى إلى تكريس مفهوم الانتماء بإشكاله المتعددة : ( الوطني , القومي , الديني ....), وحمايته من نقيضه ( المزعج ) اللامنتمي .
لم يكن اللامنتمي صنيعة ( كولون ولسن ) في كتابيه : اللامنتمي و ما بعد اللامنتمي . ولكنه أشار الى الظاهرة ووصفها بدقة ، وأسس لمصطلح مشاكس طغى على الساحة الثقافية منذ الستينيات من القرن الراحل .
و( اللامنتمي ) هو : ( الإنسان الذي لا تربطه بالواقع صلة مادية ، أنه موجود وليس مرتبطاً ولا ملتزماً ، أنه يفعل ما بدا له وليس ما يبدو لغيره . . ) 2 .
أن الانتماء شرط اجتماعي تعارف عليه الإنسان منذ أقدم المجتمعات البشرية ، وقامت على أساسه ، وهذا يفترض جملة من الفعاليات يؤديها الفرد بغض النظر عن مواصفاته الشخصية ورغبته وطموحه ،حيث تنشأ شبكة من الروابط والعلاقات والممارسات من أجل تحقيق مصلحة عامة ، قد تعبر فوق ما هو خاص وشخصي ، بل قد ينتفي الخاص إزاء العام لتكريس صفة الانتماء ، مما ينتج معادلة عير متوازنة بين ما يريده الفرد وما تسعى إليه الجماعة.
هل اللامنتمي ظاهرة حضارية أو سيكولوجية أو أخلاقية ، أو هي نتاج جميع هذه الظواهر متداخلة ؟ وهل هي حاصل صراع الشخص مع ذاته أم مع الذات الأخرى ، والى أي مدى يسهم المجتمع في خلقها ؟ وأخيراً هل يشكل اللامنتمي ـ في الثقافة العربية ـ ظاهرة خاضعة للوصف ؟
إن الظاهرة الثقافية والسيكولوجية والأخلاقية هي وجه لظاهرة أعم وأشمل هي الظاهرة الإنسانية الأم ، المتصفة دوما بالتمرد والبحث عن التكامل والانسجام مع الوجود . وكل من تلك الظواهر لا بد ترتبط بعاملي المكان والزمان أو المرحلة التاريخية من حيث هي انعكاس لمعطيات موضوعية ، ومهما اختلفت الثقافات وتباعدت فأنها تلتقي بدءاً وانتهاء بالإنسان ، إذ أنه مركز الفاعلية في الحركة والتغيير .
أن أية ظاهرة تأتي على خلفية صراع معين كصفة حتمية . وتعدد الصراعات وتنوعها سمة بارزة من سمات العصر الراهن . وكان على الإنسان أن يخوض أكثر من صراع مع أكثر من جهة مختلفة في آن واحد ، صراع مع الطبيعة ومع ذاته ومع الآخر ، وإذا أسقطنا الأول باعتباره مرتبطا ً ببدائية الإنسان كحيوان له من الذكاء ما يفوق زملاءه من الحيوانات الأخرى ، نجد أن المنحى يتوجه من الإنسان وإليه مع الميل الأصيل الى حياة الجماعة . والحرب أشد أنواع الصراع ضراوة ، اجتهد الإنسان في التعامل معها مستخدما ذكاءه الفائق في صنع عدتها ، وإدارتها ، وهي على مستوى الأفراد والجماعات والدول لا تتعدى الرغبة الى إخضاع الآخر ومحاولة احتكار الحياة بأية طريقة كانت .
وجدير بالإشارة ، ومما يثير مفارقة كبيرة هو التناسب الطردي بين التقدم العلمي الذي أحدثته الثورة الصناعية في أوروبا وبين التطور في أساليب الصراع أفقياً وعمودياً ، حتى لكأن الإنسان يبني بيد ويدمر باليد الأخرى ، بعد أن خضع لإغراءات المادة وقوانينها الجاحدة للمثل والقيم الموروثة ، مما حدى بكثيرين الى اتهام الحضارة الغربية بالسقوط ومنهم كولون ولسن في كتابه ( سقوط الحضارة ) .
ولقد خلفت الحربان العظميان خللا كبيرا على الصعيد الاجتماعي والاقتصادي ، وأدت نتائجها الى خلخلت الانتماءات الماسكة لأفراد المجتمع فبرزت الظواهر العبثية والنزعات الفردية للتحرر من القيد المجتمعي والتنكر لكل الانتماءات القائمة .
أن ظاهرة ( اللامنتمي ) ليست بالحصر نتاج الحضارة الغربية ، وان كان النموذج الغربي هي الأوضح والمعلن بسبب ما تتمتع به هذه الحضارة من حرية وانفتاح وسرعة انجاز . ولو استقرانا مراحل الثقافة العربية لاستطعنا أن نضع الأصبع على تمظهرات مشتتة تدخل ضمن دائرة (اللا انتماء) المعلن أو الخفي لتقف بالضد من اليقينيات الآديولوجية المحكمة ، وتصرح أو تضمر النقيض(الفردي ) للقناعات الجمعية .
وبعيدا عن الافتراق الواقعي بين ( النموذج الغربي) و( النموذج العربي) من حيث المرحلة والموقف ، فأن هناك كثيرا من التماهي في الوصف إزاء جملة من المتشابهات الظرفية والسلوكية لما يتمتع به الإنسان من الوعي الفائق الذي يصل هنا أو هناك الى حدود عدم الرضا والتقاطع الحاد مع المنظومة القيمية الجمعية . ولكن الصفة المشتركة لـ (اللامنتمي ) ـ أينما يكون ـ هي أنه : ـ ( يرى أكثر وأعمق مما يجب ) على حد وصف كولون ولسن 3 . وعليه فهو مثقف بامتياز ، ولكنه متهم بالشذوذ والمروق من وجهة النظر السائدة . فغريب كامو ، وزوربا كازنتزاكي وأبله ديستويفسكي ، شخوص تجمعها إرادة التحرر من ثقل الواقع و قساوته ، ومشاعر السخط والقرف واللامبالاة مما يدفع لطلب التوحد والعزلة .
ولم يرسم الأدب العربي المعاصر ملامح واضحة لنموذجه اللامنتمي ، وقصر الاشتغال على النموذج الأيديولوجي التقليدي ، إلا بحدود ضيقة خشية الاتهام بالخروج على الثوابت , وكان المتن الشعري أجرأ من غيره في التعبير الحر عن طبيعة الإنسان العربي المأزوم لأن الشعر في جوهره نشاط تحرري ينتهج التمرد والخرق والتعرية منذ عصر الصعاليك ( وهم مجاميع من الخلعاء والشذاذ والمنبوذين اختاروا طريقا خاصةً في الحياة ، وانفصلوا عن الجماعة وأصبحوا يعيشون بلا هوية . . ولكن الصعلوك صاحب قضية محورها ( أن للفقراء حق في أموال الأغنياء )4 .
لقد قال الإغريقيون : ( أن البديل الخلاق للعالم الحقيقي المشوش هو عالم الأفكار ) 5 وقال هايدجر : ( أن البديل الخلاق للعالم المشوش هو مملكة الشعر والروح )6 . . . هكذا ارتبطت الصعلكة بالشعر ، والشعر أرقى ألوان الوعي ، و اللامنتمي المعاصر منتمٍ بشكل أو بآخر الى الأدب والفن لأنه البديل عن الواقع المشوش ..والمثقفون الصعاليك في الوقت الحاضر لا ينتمون إلا لوعيهم وثقافتهم وذواتهم ، وهم متصوفة من حيث ( أن المتصوف هو من لا تكون له حاجة الى أحد إنسان كان أم إله ) 7 .
أن ازدهار الآيديولوجيا وشيوع النظرة القَبْلية للحياة ، وتكريس نظرية البعد الواحد كفيل بتحريض النقيض الواعي غير (المؤدلج) . وهو موجود على مساحة واسعة ولكنه اعتاد لبس الأقنعة خشيةً من بطش الآخر ، ولغياب الحرية الحقيقية والفضاء المسموح ظل المثقف العربي منتمياً مرة ، ولا منتميا مرة أخرى مموها عن حقيقته وتوجهاته وطبيعة رؤاه .










. . . . . . . . . . . . . . . . . . .. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .

1ـ وليم غولدنغ ، السقوط الحر ، ترجمة محمد درويش ، دار المأمون للترجمة والنشر ، بغداد ، 1991 ، المقدمة .
2-ـ أنيس منصور ، نحن ( اللامنتمي ) ، الأدباء الساخطون ، جريدة الشرق الأوسط العدد 10401في 21 مايو . 2007
3ـ نفس المصدر السابق .
4ـ د. شوقي ضيف ، العصر الجاهلي ، دار المعارف بمصر ط4 .
5ـ أنيس منصور ، نحن ( اللامنتمي).
6 ـ ما بعد اللامنتمي ، كولون ولسن ، ترجمة يوسف شرور ، وعمر يمق ، دار الآداب ، 1987.
7-المنتخب من اللزوميات ، ط1 ، 1990 ، تقديم هادي العلوي ، مركز الأبحاث والدراسات الاشتراكية ، دمشق








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. المغرب يفتح بحثاً قضائياً للتحقيق في تعرض مواطنين للاحتجاز و


.. بريطانيا تحطم الرقم القياسي في عدد المهاجرين غير النظاميين م




.. #أخبار_الصباح | مبادرة لتوزيع الخبز مجانا على النازحين في رف


.. تونس.. مؤتمر لمنظمات مدنية في الذكرى 47 لتأسيس رابطة حقوق ال




.. اعتقالات واغتيالات واعتداءات جنسية.. صحفيو السودان بين -الجي