الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


بين كلب جياكوميتي وكلب أبي / صفحة من كتاب أصدقائي

جمال علي الحلاق

2010 / 9 / 6
سيرة ذاتية


لم أكن وحدي ، كانت تصاحبني رغبتي في الإقتراب أيضا ، حين دخلت الى فضاء الأعمال النحتية لجياكوميتي إضافة للكثير من تخطيطاته ولوحاته التي كانت تؤثّث جدران وأرضية قاعة متحف الفن في سيدني عام 2006 ، دخلت القاعة وأنا منحاز بدءاً ، لقد كان جايكوميتي صديقاً لي في بغداد ، وفي عمّان أيضا ، قضيت ساعات طويلة وأنا أقرأ حواراته ، وأدقّق النظر في صور شخوصه الأبديين ، القراءة نوع من الصداقة تتجاوز حدود الوقت والمكان ، ولطالما كانت القراءة نافذة لخروجي من بؤس اللحظة ، وتبريراً جميلاً لوجودي ، ودافعاً قويّاً للبقاء .

كان الناس يتوافدون الى القاعة ، وكان هناك - إضافة الى ذلك - حشود من الطلبة تناثروا على الأرض ، في الغرف ، وفي الممرّات حول شخوص جياكوميتي النحيفة ، الطويلة ، ذات الأقدام العريضة الهائلة ، لا ينظرون فقط ، بل يرسمون أيضا ، كنت أتجوّل بين أعمال النحت خارج نطاق المكان ، فهذه التماثيل شاهَدَ مخاضَ ولادتِها أصدقاء كثيرون ، جان بول سارتر ، سيمون دي بفوار ، جان كوكتو ، وجان جينيه ، كان جياكوميتي هو القابلة ، وكان العالم إمرأة في المخاض .

لم أتوقّع أن أصل الى هذا الحدّ ، أن أقترب من تلك اللّحظات ، وأن أسمع ما دار من حوارات فيها ، وحولها . لم أكن أتجوّل في قاعة ، بل كان تجوّلاً في لحظةٍ تأريخيةٍ ساهمت بانتشال الإنسان من هاويّة اليأس ، اليأس بن الحرب العالمية الثانية ، لحظة أعادت للفرد ثقته بنفسه ، أعادت إليه قيمته وجدواه ، جعلته يتمسّك بحريّته كهويّة شخصيّة .

كنت أمرّ بين الشخوص الذين يتركون بصماتهم بثقل على الوقت والأرض معا ، فالإنسان يتآكل ، لكنّه تآكل يشبه الترسّب ، يجعل الإنسان يزداد رسوخاً ، يحفر وجوده بإرادته طيلة إقامته في العالم ، تلك هيّ رسالة جياكوميتي .

لكنّني لم أتمالك نفسي عندما وقفت وجهاً لوجه أمام تمثال " الكلب السائب " ، ودون أن أفكّر في ذلك ، ودون أن أُخطّط له أيضا ، رأيتني أجلس على الأرض قبالة التمثال ، تماماً ، كما يجلس مُرِيدٌ أمام شيخه ، أحاول أن ألتصق بلحظة الكلب الأولى ، بالفكرة وبالمخاض ، بجرأة جياكوميتي وهو ينحت التآكل والتيهان في لحظة واحدة ، كنت مستغرقاً تماما ، بعيداً - داخل المكان - أتحسّس العمل بعيني وذهني ، عندما فجأة حطّت على رأسي مثل حمامة أليفة إمرأة أسترالية عجوز ، وقد هالها شرودي العميق ، قالت تسألني : هل أنت مستمتع بهذا العمل الى هذا الحد ؟
قلت : نعم ، أنا مستمتع جدا .
قالت : وماذا يعني هذا الكلب ؟
قلت : لقد سأل جان جنيه جياكوميتي نفس هذا السؤال فأجابه : " أردت أن أنحت تمثالاً شخصيّاً لنفسي فكان هذا " ، إنّه ليس كلبا ، إنّه جياكوميتي نفسه ، وأنا أنظر إليه الآن مباشرة .

ما أن قصصت عليها الحكاية حتى بادرتني المرأة العجوز بجملتها الرائعة ، قالت : " كم هو مثير ذلك ، وكم هو حقيقي ، فأنا أيضا أشعر أحيانا بأنّني كلبة ، وفي أحيان أخرى أشعر أنّني قطّة " .

قالت جملتها وحلّقت في الزمن السائب ، زمنها الخاص ، تاركة إيّاي في حيرة فهم هذا العالم ، كان لها من العمر عمر جدّتي ، وللحظة تخيّلت أن جدّتي – التي ماتت عام 1996 عن عمر ناهز الثمانين عاما – تخيّلتها وهي تتجرّأ على أن تتحسّس نفسها كلبة أو قطّة ، ربّما كان من السهل أن ترى نفسها قطّة ، ليست سوداء حتماً ، لأنّها - وفق العرف الإجتماعي المغلّف بحسٍّ ديني سطحي - جنّيٌ أو مسكونة بالجن ، لكن هل كان بإمكان جدّتي أن تتجرّأ على أن ترى نفسها كلبة ، وسائبة أيضا .

صفعتني المرأة العجوز بقولها ، إخترقتني من أسفلي إلى أقصاي ، سحبت البساط من تحت أرجل كلب جياكوميتي ، فالقضيّة ليست شأناً خاصّاً ، أو إحساسا فرديّا ، بل نسيجاً كونيّاً يتحسّسه أشخاص إمتلكوا الجرأة على الإقامة خارج كلّ ما هو جاهز ، وخارج كلّ ما هو مكتمل ، إنّها ذائقة جمعية أخرى ، ثقافة هي نتاج تجربتها الحيّة في العالم ، ثقافة ليست موروثة ، وعي آخر ، وعي مرن ، الدخول فيه يمنحك قدرة على الإسترخاء ، وعلى رؤية الأشياء بشفافية عالية .

وحتى يكون للرؤية توتّرها أيضا ، خرجت من القاعة وأنا أتذكّر نظرة أبي المتديّن المؤمن للكلب ، كان أبي يرى - أسوة بالبيئة الإجتماعية التي نمى فيها – أنّ الكلب يطرد الملائكة من البيت ، فللكلب صلة بالشّر – لا أعرف جذر هذه الصلة ، ولعلّها لا تبتعد عن أصل فرعوني - وأنّ خلو البيت ، أو خلو الحياة من الكلاب يجعل العالم أكثر احتفاءً بالملائكة ، فهل أراد جياكوميتي أن يطرد الملائكة من العالم الأرضي ؟ هل فكّر في ذلك حقّاً ؟ هل أنّ وجود الإنسان على الأرض يطرد الملائكة منها ؟ هل أنّ مولد الإنسان الحديث إعلان بموت زمن الملائكة ؟ أتساءل وأنا أبتسم .

بقي أبي على هذا الإعتقاد حتى منتصف تسعينيات القرن الماضي ، وصادف أن إنتقل مع العائلة من قرية ( الزهيرات ) للسكن في منطقة ( القاطون ) في بعقوبة ، وكانت هذه المنطقة كغيرها من مناطق العراق حافلة باللّصوص .

وذات يوم زرته في منطقة ( القاطون ) ، ففاجأني أنّني رأيت كلبين يهزّان ذيليهما في باحة بيتنا .

لأكثر من ثلاثين عاماً وأبي لا يسمح لنا بإدخال كلب الى البيت ، حتى ولو كان جرواً جميلاً ودودا ، لكنّه هذه المرّة – وتحت إمرة وضع إجتماعي قاهر تنازل قليلا عن حسّه الديني - كان قد وافق على إدخال كلبين معاً في وقت واحد .

قلت له مشاكساً : هذا يعني أنّنا نجونا أخيراً من الملائكة .
عندها قال حكمته الرائعة : أن تخرج الملائكة من البيت خير من أن يدخل اللّصوص إليه .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. هل جاء موقف الأجهزة الأمنية الإسرائيلية مفاجئا؟


.. ما مدى تأثير موقف الأجهزة الإسرائيلية على المفاوضات في القاه




.. عاجل| مكتب نتنياهو: تمرير قرار إغلاق قناة الجزيرة في إسرائيل


.. بلال الشوبكي: مجرد جلوس إسرائيل بعد 7 أشهر للتفاوض مع حماس ه




.. تفاصيل فضيحة ثانية تهز ألمانيا بعد اختراق 6 آلاف اجتماع أمني