الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


موائد الرحمن الرمضانية.. وداعاً .. يحدث في مصر فقط: الفقراء يتبرعون للأكثر فقراً!

سعد هجرس

2010 / 9 / 7
مواضيع وابحاث سياسية


لا أعرف سبباً محددا للارتباط الشرطي - لدي الكثيرين - بين شهر رمضان وبين »الخير« الذي يفترض أن يكون موجودا في كل الشهور وليس مقتصرا علي شهر بعينه.
لكن واقع الحال يقول إن الأعمال الخيرية تنشط في رمضان بنحو خاص وربما كانت »موائد الرحمن« أحد مظاهر هذه الروح »الخيرية«، حيث قدر التقرير الشهري الأخير الصادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء، عدد هذه الموائد الرمضانية بنحو 13555 مائدة خلال عام ،2008 كما قدر عدد المترددين عليها يوميا في حضر الجمهورية ما بين 1،8 و9.1 مليون فرد، موضحا أن 87% من موائد الرحمن المشار إليها ينظمها أفراد، بينما ينظم 13% منها جمعيات خيرية وشرعية.
ومن خلال التقرير ذاته نكتشف أن إجمالي الإنفاق علي موائد الرحمن يبلغ ما يقرب من 200 مليون جنيه سنويا.
كما نكتشف جانبا آخر لـ »جمال« الشخصية المصرية المفتري عليها حيث يقدر التقرير المعلوماتي - الذي تتكون هيئة تحريره من الدكتور ماجد عثمان رئيس المركز والدكتور حسين عبد العزيز مستشار المركز والدكتور محمد رمضان المدير التنفيذي للمركز، ويشرف عليه الدكتور محمد عبدالغني رمضان مدير مشروع البحث والتطوير ويقود فريقه البحثي أحمد سليمان ومحمد لطفي - يقدر أعداد الأسر المصرية التي شاركت بأموالها ومجهوداتها في أعمال الخير بنحو 8.15 مليون أسرة خلال عام ،2009 بنسبة 7.86% من اجمالي أسر الجمهورية، وقد بلغ اجمالي ما تنفقه هذه الأسر علي العطاء الخيري نحو 5.4 مليار جنيه سنويا.
وهذا معناه أن الغالبية العظمي من المصريين محبة للخير، ولا تتواني عن المشاركة في عمله قدر الإمكان.
وبديهي أن نسبة كبيرة من هؤلاء »الخيرين« ينتمون إلي الطبقة المتوسطة، بل ربما ينتمي عدد لا يستهان به منهم إلي الفقراء »نسبيا«، لكن ضيق ذات اليد لا يمنعهم من مشاركة من أهم أكثر فقراً منهم في مواجهة شظف العيش وقسوة الحياة.
أي أن عمل الخير ليس وقفا علي الأغنياء كما هو متوقع، وانما يشمل الأغلبية الساحقة من المصريين.
وهذه مسألة ايجابية بلاشك.
ومع ذلك فإنه يجب التمييز بين أعمال البر والإحسان الخيرية وبين المسئولية الاجتماعية لرجال الأعمال »القادرين«.
وما يجدر الانتباه إليه أولاً بهذا الصدد أن المسئولية الاجتماعية التي نتحدث عنها ليست مجرد عمل خيري، وليست مسألة اختيارية أو تطوعية »يتفضل« بها رجل الأعمال الفلاني أو الشركة العلانية علي المجتمع المحلي حسب ما يتيسر.
المسئولية الاجتماعية أقرب إلي أن تكون »عقدا اجتماعيا« - حتي وإن كان ضمنيا - بين رجال الأعمال والمجتمع، يتضمن المسئوليات التي يتعهد »الطرف الأول« للاضطلاع بها تجاه »الطرف الثاني«، بهدف بناء رأس مال اجتماعي يستفيد منه الطرفان، وأهم مجالات هذا التعاقد الاجتماعي مكافحة الفساد، والحفاظ علي البيئة، ومحاربة الفقر وحماية حقوق الإنسان، وتحسين بيئة العمل، وتحقيق ما يسمي في الأدبيات الحديثة بـ »العمل اللائق« بكل شروطه المعروفة، والتأكيد علي توافر مناخ المنافسة ومحاربة الممارسات الاحتكارية.. إلخ.
والواضح أن المسئولية الاجتماعية بهذا النحو ليست مجرد منح تبرعات بل هي قبل ذلك كله »قيم« و»مبادئ«.
وهذه القيم وتلك المبادئ المشار إلي أهمها في السطور السابقة ليست أحلاما مثالية وانما هي بالأساس »بيزنس« له جدواه الاقتصادية وقيمته النفعية ومردوده من الأرباح علي المدي الطويل.
لأن الشركات لا تقوم بـ »البيزنس« في الفراغ، بل في مجتمع يكون أسواقه، وهذه الأسواق اذا لم تكن مستعدة لاستخدام منتجات هذا البيزنس تصبح خارج السياق أصلا وغير معنية في الأساس، فما قيمة أي نشاط اقتصادي في سوق يعشش فيه الفقر، ولا توجد لدي الناس فيه قدرة شرائية لاقتناء ثمار هذا البيزنس أو ذاك؟
من هنا.. تصبح محاربة الفقر شرطا مسبقا لنجاح أي نشاط اقتصادي.
الأمر الثاني هو أن الشركة التي تقوم بمسئوليتها الاجتماعية - علي النحو المشار إليه - تضمن تفانيا أكبر، واحتراما أكثر من العاملين فيها وهذا بدوره يؤدي إلي زيادة الإنتاجية، ومن ثم زيادة الربحية.
وبهذا المعني لا تصبح المسئولية الاجتماعية مجرد دعوة مثالية، وإنما تتحول إلي »بيزنس تنمية بشرية« له مردوده الاقتصادي علي المدي البعيد.
ولهذا رأينا كبار رجال أعمال العالم يقومون بمبادرة لم يكن يتخيلها أحد من قبل، حيث أعلنوا اعتزامهم التخلي عن نصف ثرواتهم من أجل الاضطلاع بمسئوليتهم الاجتماعية والإنسانية تجاه البشرية.
وفي مقدمة هؤلاء بيل جيتس وزوجته ميليندا، ووارين بافيت ثاني أغني أغنياء العالم الذي تبرع بنحو 37 مليار دولار وضع 85% منها في مؤسسة لا تحمل اسمه، بل يديرها بيل جيتس، مبرراً ذلك - بكل بساطة - بأن بيل جيتس يفهم أكثر منه في إدارة هذا النوع من المؤسسات ذات البعد الاجتماعي.
علما بأن أهداف ومجالات اهتمام هذه المؤسسات تتجاوز الحدود الأمريكية لتصل إلي الفقراء والمرضي فيما وراء البحار والمحيطات في القارة الأفريقية مثلا.
***
هذا الدور ليس وقفا علي أغني أغنياء العالم، بل إن له صورا أخري في البلاد الفقيرة، وربما كانت تجربة محمد يونس في بنجلاديش - التي تعد واحدة من أفقر بلاد العالم - نموذجا متميزا لذلك، فهذا الرجل الذي حصل علي جائزة نوبل هو الذي ابتكر صيغة »بنك الفقراء« الذي يقدم قروضا ميسرة لفقراء المجتمع البنغالي، وظل هذا البنك - الذي بدأ بملاليم قليلة - ينمو ويتطور حتي أصبح له 1176 فرعا تخدم 5.2 مليون نسمة يعيشون في 41187 قرية حصلوا من بنك الفقراء منذ إنشائه علي 7.3 مليار دولار.
وعادت من هذه القروض أكثر من 5.3 مليار دولار إلي البنك مرة أخري، أي أن الفقراء الذين حصلوا عليها استخدموها وانشاؤا بها مشروعات صغيرة أو متناهية الصغر، دارت عجلتها وحققت إنتاجا، حقق أرباحا، أعادوا به القرض إلي بنكهم - بنك الفقراء - وأداروا حياتهم بالباقي.
فليس الأمر - وفقا لهذا النموذج - مجرد »صدقة« أو »إحسان« لمرة وانتهت، وإنما تجربة تنموية مستديمة.
***
فأين رجال أعمالنا في مصر من هذا كله؟
التاريخ القديم والحديث يخبرنا أن مصر الفرعونية كانت أقدم دولة في التاريخ عرفت عمل الخير بهذا البعد الاجتماعي المسئول وهذه الأعمال - لحسن الحظ - محفورة علي جدران معابدنا التي يزيد عمرها علي أربع آلاف سنة.
ثم إن المجتمع المدني المصري الحديث لم يبدأ اليوم أو الأمس وإنما يمكن تحديد نشأته »الجديدة« بعام ،1881 وهو العام الذي شهد إنشاء أول جمعية مجتمع مدني بالمعني الحديث، أي أن عمر هذا المجتمع المدني يناهز 129 عاما الآن، ومنذ ذلك التاريخ تزايد عدد مؤسسات المجتمع المدني حتي أصبح يناهز الآن 26 ألف مؤسسة.
واستطاع هذا المجتمع المدني أن يشيد صروحا عظيمة خلال الأوقات الذهبية من تلك الفترة، من أهمها جامعة القاهرة، ومستشفي المبرة، ومستشفي قصر العيني، فضلا عن القلاع الشامخة التي بناها العظيم طلعت حرب ابتداء من بنك مصر، وستوديو مصر، وشركة مصر للطيران، وشركات الأقطان والغزول والنسيج والخطوط الملاحية.. إلخ.
وبعد فترة انقطاع وتراجع للعمل الأهلي نتيجة الدور الجديد الذي اضطلعت به الدولة، بما في ذلك الدور الانتاجي، في الحقبة الناصرية، عادت الروح للعمل الأهلي منذ تبني سياسة الانفتاح الاقتصادي وما نتج عنها من آثار جانبية أصابت قطاعات واسعة من المصريين بأضرار وخيمة دفعت بفئات ليست قليلة منهم تحت خط الفقر.
وترافق مع ذلك ظهور ممارسات سلبية من جانب قطاع من رجال الأعمال الانفتاحيين الجدد، منها الهروب بقروض البنوك إلي الخارج والأنشطة الطفيلية والسلوكيات المنحرفة والاستفزازية.
لكن هذا لم يمنع من ظهور قطاع آخر محترم من رجال الأعمال أظهروا قدرا يزيد أو يقل من الالتزام بالمسئولية الاجتماعية، وأنشأ بعضهم »مؤسسات« لعبت - ولا تزال - تلعب دورا مهما في خدمة الثقافة والمجتمع بصورة أو أخري.
بيد أنه في الحساب الختامي، وبتطبيق المعايير الدولية علي مصر والعالم العربي يمكن أن نستنتج - بموضوعية - أن المسئولية الاجتماعية للقطاع الخاص ورجال الأعمال مازالت غائبة إلي حد بعيد، إلا باستثناءات محدودة وفردية تتصف بالعشوائية وبكونها أقرب من البر والاحسان أكثر من أن ترقي إلي مستوي المسئولية الاجتماعية بالمعني الدقيق.
وما يخفف من قتامة هذه الصورة أن السنوات القليلة الماضية شهدت إنشاء عدد من المؤسسات التي تقوم بهذا الدور الاجتماعي المسئول علي يد قلة من كبار رجال الأعمال المصريين، بشكل محترم وفعال.. نرجو أن يستمر ويتعاظم يوما بعد آخر.
***
يبقي أن نشير إلي مسألة سلبية يجدر الالتفات إليها، هي عزوف الشباب المصري عن المشاركة، حيث أكد تقرير »العمل الخيري للأسر المصرية« الصادر عن مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار الذي تشرف عليه الدكتوره نعايم سعد زغلول أن معدل التطوع بين الشباب المصري لم يزد علي 8.1% وهو معدل ضعيف جدا إذا قارناه بمعدل التطوع للشباب البريطاني الذي يصل إلي 44%، ومعدل التطوع لدي الشباب الأمريكي الذي يصل إلي 8.26%.
صحيح أن هذا العزوف عن العمل التطوعي هو جزء من العزوف المصري العام عن المشاركة في الشأن العام، لكنه يبقي أمراً سلبيا بكل المعايير.
وربما يكون أحد المداخل الأساسية لمواجهته هو تغيير التشريعات الحالية التي تفرض الوصاية الحكومية علي العمل الأهلي والتي تكبل العمل التطوعي بألف قيد وقيد.
***
وعموماً.. فإن الارتفاء بعمل الخير، من مجرد بر وإحسان وموائد رحمن رمضانية.. إلي عمل مؤسسي مستدام للمسئولية الاجتماعية، يتطلب - هو الآخر - صياغة عقد اجتماعي جديد.. بعد أن انتهي تاريخ صلاحية آخر عقود الإذعان التي حكمت حياة المصريين.
ورمضان كريم








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - اذا عرف السبب بطل العجب
طلال السوري ( 2010 / 9 / 7 - 23:00 )
عمل الخير هو عمل تطوعي دون مقابل. الموائد الرمضانية تستند الى حديث نبوي عن ابي هريرة - من افطر صائما فله ضعفي اجره - واذا اخذنا بعين الاعتبار ان الكشري والفول والطعمية هي القاسم المشترك فان صاحب المائدة يشتري صيام عمره بمبلغ زهيد مع فائض من الاجر.

اخر الافلام

.. نتنياهو: غانتس اختار أن يهدد رئيس الوزراء بدلا من حماس


.. انقسامات داخلية حادة تعصف بحكومة نتنياهو وتهدد بانهيار مجلس




.. بن غفير يرد بقوة على غانتس.. ويصفه بأنه بهلوان كبير


.. -اقطعوا العلاقات الآن-.. اعتصام الطلاب في جامعة ملبورن الأست




.. فلسطينيون يشيعون جثمان قائد بكتيبة جنين الشهيد إسلام خمايسة