الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


زنكنة .. هل مات آخر الرجال؟

حسين التميمي

2010 / 9 / 8
الادب والفن


بلغني نبأ وفاة الصديق والاخ والأستاذ محي الدين زنكنة اثر اتصال هاتفي من صديق، بعدها توالت الاتصالات من اصدقائي الادباء، وهم يكررون على مسامعي الخبر المؤلم، كأنما هم قد اتفقوا بينهم- دون قصد- على حرماني من لحظات خلوة كنت ارغب بها محاولا التعايش مع هذه الحقيقة المرة القاسية، بكل قسوتها وصوتها الفجائعي، وايضا كنت كما حدث عند رحيل صديقي مؤيد سامي الشهيد المغدور.. افكر بأن الخبر يمكن ان يكون كاذبا وانه مجرد دعابة سمجة من احد الاصدقاء، فكيف لرجل مثل (ابو آزاد) ان تغافله ازمة قلبية ؟ .. هكذا ببساطة هذا القلب الكبير يتوقف؟ّ! وأن يترتب على توقف هذا القلب توقف الجسد .. توقف الرأس !! هذا الرأس الذي طالما انجب الكثير من الاعمال الخالدة، هذا الرأس الذي كان يجيد التفكير واتخاذ المواقف الصعبة في ظل نظام استبدادي استمال الكثير من الاسماء الكبيرة والصغيرة وافلح، لكنه مع زنكنة فشل، وهو لم يفشل فحسب بل استغفل حين نشر زنكنة مسرحية (شعر بلون الفجر) تلك المسرحية التي سخر بها من الدكتاتور مرتين، مرة حين استطاع ان يمرر كل انتقاداته ورفضه من خلال النص ومرة اخرى عندما استطاع ان ينشر هذه المسرحية ضمن الاصدارات الحكومية.
لعل من اغرب المفارقات التي اكتشفتها بعد عام 1999 حين توثقت علاقتي بهذا الكاتب المسرحي الكبير، أن لديه حس مميز في التقاط المواقف الطريفة والتعليق عليها بطريقة ذكية تجعل من يستمع اليه يكتشف صورا اخرى اكثر جمالا وغرابة، وليس هذا فحسب بل كان زنكنة يجيد صناعة الطرفة ويسخر من كل شيء – حتى من نفسه احيانا- دون ان يحط من قدره واحترامه لدى الآخر، واذكر وقتها انني كنت اتحدث مع بعض الاصدقاء من الادباء والمثقفين عن هذه الأمور، ولم تكن تعابير وجوههم تدل على تأييد كبير لملاحظاتي تلك، لكن احد الاصدقاء المقربين من زنكنة ازال اللبس في هذا الموضوع حين اكد لي بأن الاخير لم يكن يتبسط ويتواضع في الحديث الا مع من يشعر معهم بالطمأنينة والثقة، وهؤلاء كانوا قلة في ذلك الوقت.
زنكنة ايضا لم يكن يسمح لأي كان – مهما بلغ رصيده من الكتابات- ان يزوره في البيت، اذا لم يكن هو مقتنعا بأن هذا الكاتب يستحق الاحترام والتقدير، واذكر ان احدهم قال لي قبل اكثر من ربع قرن ان علاقة وثيقة تربط بينه وبين زنكنة وانه كان يتردد عليه في البيت، وبالغ بالافتراء فوصف لي صومعة او مكتبة زنكنة، لكن حين توثقت علاقتي بالكاتب الكبير ورأيت مكتبته، لم اكلف نفسي عناء السؤال عن حقيقة ذلك الدعي واكاذيبه.
زنكنة الانسان والكاتب والاديب والمثقف، كان يدهش من حوله بآرائه وطروحاته المقتضبة الشافية الوافية، وزنكنة (الرجل) ايضا، في زمن ندر فيه ان تلتقي بانسان يحمل معاني الرجولة والثبات على الرأي، رغم كل المخاطر والتهديدات (الخارجية)ورغم كل الخيانات التي كان الجسد يرتكبها بحقه، من امراض مزمنة او مؤقتة ،ومن تعب ووهن اصاب العين حتى اوشكت ان تنطفئ، ويعلم كل اديب ومثقف معنى ان تصاب العين وهي افضل نافذة يطل من خلالها على الحروف والكلمات والصور وكل ماله علاقة بتواصله مع العالم الخارجي.
زنكنة كتب الكثير من المسرحيات وعرف بوصفه من افضل المسرحيين العرب الذين يعدون على اصابع اليد الواحدة، وقد استمر عرض بعض من مسرحياته لعدة سنوات في العديد من الدول العربية ومنها الكويت التي عرضت مسرحيته (السؤال) . زنكنة عرف ايضا في امريكا حين عرضت مسرحيته اليمامة وعرف في دول غربية اخرى، لكن ورغم انتاجه الوفير والغزير في مختلف مجالات الادب، ورغم ترشيحه لجائزة (العويس) الا انه كان من اكثر الادباء بعدا عن الاضواء، فلم يسوق لنفسه، ولم يحرص على اي شهرة او ذيوع وانتشار، بل كان يهرب احيانا من الشهرة، ويمتنع عن اجراء اللقاءات الصحفية، ويتابع كل مايقال عنه، ويعاتب اصدقاءه بقسوة احيانا اذا مانقلوا عنه اراء وتصريحات غير دقيقة، وربما هذا مادفع الكثير منهم الى وصفه بالحازم والمتشدد.. او غيرها من الاحكام السريعة، لكن اذكر ان هذا الرجل الحازم والمتشدد، حضر عرضا لأحدى مسرحياته على مسرح قاعة الوفاء في مدينة بعقوبة، وكان الجو ممطرا فلم يحضر العرض الا خمسة اشخاص، فقرر المخرج الغاء العرض، لكن زنكنة وقف في تلك اللحظة ونظر الى الاشخاص الخمسة وملابسهم تقطر ماء، ثم وجه كلامه الى المخرج قائلا: هؤلاء افضل عندي من مائة متفرج يأتونني في جو صحو معتدل، واضطر الجميع الى الرضوخ لرأي زنكنة، وفي عمان وبعد ربع قرن تقريبا حدث موقف اخر بينه وبين الشاعر الكبير عبد الوهاب البياتي، حين رفض الاخير جلوس شاب مثقف ضمن المجلس الذي كان يجمع البياتي وزنكنة وعدد من المثقفين، ووقتها كان الجميع يتعامل مع البياتي بوصفه الشاعر الاكثر سطوة والذي لاترد له كلمة، فما كان من زنكنة الا ان وقف مع الشاب (وقد اقتنع بصحة موقفه رغم حداثة سنه) وقال للبياتي الشاب لم يخطئ واذا غادر المكان فسأمضي معه، فما كان من البياتي الا ان رضخ لزنكة، وقد اثار هذا الحادث في وقته دهشة كل الادباء والمثقفين الذين كانوا يعرفون جيدا ان البياتي لم يقل كلمة يوما ويرجع عنها مهما حدث.
اذن كان زنكنة خليط عجيب غريب من البساطة والتواضع والقوة والثبات على الرأي والالتزام والثقة بالنفس، وقد استطاع من خلال هذه الصفات وغيرها، ان يحظى باحترام الجميع- حتى أعدائه- او من اختلفوا معه فضلا عن تلاميذه وأصدقائه.... زنكنة الذي ولد في كركوك وعاش لأكثر من ربع قرن في مدينة بعقوبة، كان العديد من ادباء ديالى وربما اناس من مدن اخرى يعتبرونه من ابناء او اهالي ديالى، ويؤكدون انتماءه الى مدينتهم بقوة، والرجل ايضا اضطر الى الاقامة في السليمانية مع بداية تردي الوضع الامني في ديالى، وصار التواصل بينه وبين اصدقائه يتم عبر الهاتف او بعض الزيارات السريعة، لكن لا احد كان يفكر بأن يفاجئنا زنكنة ويرحل سريعا قبل ان تستقيم الامور ويعود الامان والاستقرار التام الى ديالى كي تستعيد ديالى اهم رمز من رموزها الادبية، اذن القدر حال بيننا وبين ان تتحقق هذه الامنية.
ثمة سؤال اخير يراودني منذ ان وصلني الخبر المفجع: ترى هل رحل زنكنة؟ هل مات .. حقا؟! لكن وجه اديبنا الكبير يطل علي بملامحه الهادئة التي تمنح من يراها احساسا كبيرا بالراحة والاطمئنان، فلا املك الا ان اقول ان التراب ربما استطاع ان يغيب جسد زنكنة، لكن عندما ساطالع اي مؤلف من مؤلفاته، او استذكر رأيا من آرائه او حتى ملاحظة مقتضبة، فان زنكنة سيعود حيا مرة اخرى، اذن زنكنة سيبقى حاضرا معنا، زنكنة سيكون خالدا، وسيسخر من الموت مرة اخرى على طريقته، وسنواصل حديثا كنا بدأناه معا، وبيديه الكريمتين سيطلق يمامته في صراخ الصمت الاخرس، كي تحلق عاليا بحثا عن فضاء للحرية .









التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. طنجة المغربية تحتضن اليوم العالمي لموسيقى الجاز


.. فرح يوسف مهرجان الإسكندرية للفيلم القصير خرج بشكل عالمى وقدم




.. أول حكم ضد ترمب بقضية الممثلة الإباحية بالمحكمة الجنائية في


.. الممثل الباكستاني إحسان خان يدعم فلسطين بفعالية للأزياء




.. كلمة أخيرة - سامي مغاوري يروي ذكرياته وبداياته الفنية | اللق