الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


مبنى زهاء حديد -البغدادي-: وضوح التكليف والتباسه

خالد السلطاني

2010 / 9 / 12
الادب والفن


لا يختلف مختلفان في تقدير الاهمية الابداعية العالية لزهاء حديد، المعمارة العالمية ذات الاصول العراقية، وعن حضورها المؤثر في المشهد المعماري الدولي. انها الآن اشهر معمارة حداثية، او بالاحرى مابعد حداثية، وصاحبة مقاربة تصميمية شديدة التميز وفريده في منطلقاتها. وهي، وان لم توفق، في البدء، في تحقيق افكارها المعمارية على ارض الواقع، الا ان العالم سرعان ما اعترف اخيراً، بقيمة منجزها التصميمي المميز، فاسحاً المجال امامها لتنفيذ كثر من مشاريعها الجريئة. وهذه المشاريع مشيدة الآن في العديد من بلدان العالم، بغض النظر عن نوعية الموقع الجغرافي، اوخصوصية ثقافة المكان، اواختلاف المستوى التكنولوجي لتك البلدان. فمثلما تصاميمها منفذة في الولايات المتحدة الامريكية وفي المانيا، فانها منفذة ايضاً في الصين وفي ايطاليا وبالدانمرك وفي الامارات العربية وغيرها. كما إن مشاريعها التصميمية غير المنفذة غطت دول كثيرة بضمنها دول منطقة الشرق الاوسط كمصر والاردن ولبنان.
لقد اعتبرت غالبية تصاميم زهاء من قبل العديد من النقاد، بمثابة احداث معمارية وثقافية على درجة عالية من الاهمية؛ وهي الان تزار لرؤية طبيعة عمارتها والتعرف على مقاربتها التصميمة، تماماً كما تزار بقية الشواهد التذكارية المهمة الآخرى المتواجدة في المدن. من هنا القيمة المعمارية والثقافية العالية التى حُظيت بها بعض المدن بسبب وجود تصاميم زهاء فيها. ومن هنا ايضا، يمكن تفسير ذلك الابتهاج الذي عمّ الوسط الثقافي وخصوصا معماري العراق ومهندسيه، للنبأ الذي تناولته العديد من وكالات الانباء مؤخرا عن دعوة زهاء حديد لتصميم مبنى البنك المركزي العراقي، والذي اكده المتحدث باسم حكومة العراق السيد علي الدباغ، عندما صرح ، وكما ورد في احدى المواقع الخبرية بتاريخ 20 تموز 2010 ، بان "مجلس الوزراء وافق على تكليف المعمارية زها حديد بوضع التصاميم الاوليه والاشراف الهندسي لبناء مقر جديد للبنك المركزي العراقي" وقال المتحدث باسم الحكومة، ان مجلس الوزراء " وافق على قيام البنك المركزي العراقي ببحث المشروع مع حديد". (انظر: http://ww.radiosawa.com/arabic_news.aspx?id=8042732 ).

.. واخيراً، اذن، التفت المسؤولون في بلادنا الى وجود هذه المهندسة القديرة، بعد سنين كثيرة من التغاضي والتجاهل والنسيان. وكان هذا الالتفات مثيرا، اذ وشى باهمية مزدوجة: مرة، لان الاختيار وقع على زهاء حديد، المعمارة المهمة، ذي الشهرة العالمية لتصميم مبنى في بغداد، مدينتها التى ولدت فيها. والامر الآخر، ان التكليف صادر من اعلى جهة تنفيذية في البلاد، وهي مجلس الوزراء، وهو امر جعلني اشعر شخصيا، انا المتابع للمنجز المعماري العراقي، بالامتنان لاصحاب القرار، معرباً عن فرحي وابتهاجي لتلك "البشارة"، التى اتت بـ "بشارتيتن": الاولى حدث التكليف، والثانية جهة التكليف!؛ ما جعلني اسرح في تصوراتي متوقعاً ان فضاء بغداد المعماري سوف يزدان قريباً باضافة تصميم زهاء المميز، جنباً الى جنب تصاميم خيرة المعماريين العراقيين وزملائهم المعماريين العالميين مثل ولسون، وكوبر، وغروبيوس، ولو كوربوزيه، وخوسيه لويس سيرت، وجو بونتي وغيرهم. رائياً في ذلك القرار الحكيم، ولابأس من التكرار، دلالات عميقة تومئ الى اهمية منجز زهاء المعماري، بالاضافة الى الريادة لجهة قرار التكليف وندرته في الممارسة المعمارية.
بيد ان الابتهاج الحاصل جراء نبأ تكليف المعمارة العالمية، انحسر فجأة بسبب خبر آخر، يشير الى نفس موضوع مبنى البنك المركزي الجديد، ولكن بمضمون ليس فقط يتجنب التذكير بذلك القرار الحصيف الصادر من مجلس الوزراء، وانما يذكر جهة اخرى "مكلفه" من قبل البنك ذاته، باعداد تصاميم مبنى البنك. ومضمون الخبر كما ورد في جريدة "الصباح" البغدادية بتاريخ 18 آب 2010، (اي بعد حوالي شهر كامل من تصريح متحدث الحكومة)، ينص على الآتي " عقد البنك المركزي العراقي ورشة عمل في اسطنبول منتصف الشهر الجاري لمناقشة اعداد التصاميم الخاصة بالمبنى الجديد للبنك ( التأكيد لي، خ.س). وقال مصدر مسؤول في البنك لـ "الصباح"، ان ورشة العمل شهدت المشاورات الفنية الاولى المتعلقة بمرحلة اعداد التصاميم الخاصة بالمبنى الجديد للبنك المركزي العراقي الذي سينفذ في احدى الاماكن الستراتيجية في العاصمة. مشيرا الى ان العمل ما زال في مرحلة التصاميم التى بلغت نسبة انجاز تجاوزت 50 بالمائة. ( التأكيد لي، خ.س.). واضاف ان الفريق الفني المعماري المشرف على المشروع التقى هناك بعض الشركات الاستشارية الخاصة في اطار التعاون وتبادل الخبرات كون المصرف يمثل السلطة النقدية العليا في البلاد بما يمكنها من اداء دورها المرسوم خدمة للاستقرار والتنمية والازدهار الاقتصادي" .

ومن منطوق الخبر، نفهم بان ثمة قراراً سبق وان أُتـُخذ من قبل البنك بتكليف جهة استشارية ما، (لا نعرف هل هي تركية؟ ام عراقية؟ ام اوربية؟)، باعداد تصاميم مبنى البنك المركزي الجديد. وهذه الجهة، وفقا للبيان اعلاه، قد انجزت التصاميم الخاصة بالبنك والتى تجاوزت نسبة انجاز 50 % من العمل.
والسؤال هنا سؤلان: اولهما، ماذا تم من امر الموافقة الصادرة من مجلس الوزراء بصدد تفويض ادارة البنك المركزي بمفاتحة المعمارة زهاء حديد لاعداد تصاميم مبنى البنك المركزي العراقي الجديد؟ وثانيهما، كيف يمكن لجهة حكومية على قدر من الاهمية والرصانة كالبنك المركزي، ان لا تعلم مجلس الوزراء بان اعمال تصاميم مبنى البنك المركزي العراقي قد انيطت بمكتب استشاري آخر، وقد أُنجُزت تلك الجهة (وقت تاريخ التصريح) "نصف" العمل التصميمي؟ واذا صح الخبر المنشور في "الصباح"،( وهو كما اعتقد صحيح، لان مصدر الخبر كما يبدو هو البنك ذاته)، فان ذلك يشير الى حدث، لا يتترك مجالا للتأويل الكيفي او التفسير الاعتباطي، بان ثمة ورشة تم تنظيمها فعلا بخصوص "المشاورات الفنية الاولى المتعلقة بمرحلة اعداد التصاميم الخاصة بالمبنى الجديد للبنك المركزي العراقي". وهذا يعني فيما يعنيه، بان العمل التصميمي المنجز نصفه، الوارد في التصريح، يتعلق بالمبنى (الجديد) للبنك المركزي العراقي، وهو المبنى ذاته، (الجديد) الذي يفترض ان تكلف به زهاء حديد.

امام هذا التناقض الحاصل بين وضوح التكليف وصدقيته التى عبر عنها قرار مجلس الوزراء، والالتباس "المتخم" بالغموض الذي احدثه بيان البنك الى جريدة "الصباح"، دعونا نجتهد ونتابع بتأنٍ وبموضوعية عن اسباب ذلك التناقض الحاصل في مجريات هذه القضية، القضية التى اثارت كل هذا التشويش وعدم الوضوح. محتفظين بحقنا المهني بطرح الاسئلة على "رب العمل"، ومتطلعين في الوقت ذاته، ان يجد الاخير في تلك الاسئلة ضرورة تستدعي الاجابة عليها.
من المعلوم، ان البنك المركزي العراقي يمتلك بنايتين رئيسيتين باسم "مبنى البنك المركزي العراقي"، واقعتين في شارع الرشيد عند منطقة الشورجة. وهذان المبنيان الرئيسيان هما مبنى البنك المركزي الاول، المشيد بين 1954-1958، ومصممه المعمار السويسري وليم دونكل (1893-1980) William Dunkel. والمبنى الآخر المجاور له والذي اعتبر امتدادا للاول والمشيد 1981-1985، وقد صممه المعمار الدانمركي "بول اوي يانسين" (1937) Poul Ove Jensen من مكتب "دي+ دبليو" D+W ، بعد ان فاز المكتب الدانمركي في مسابقة معمارية عالمية نظمت في عام 1978، من اجل اختيار تصميم كفوء لمبنى البنك. وقد كان المبنيان هدفاً لعمليات عسكرية اثناء التغيير، كما تعرضا الى هجمات ارهابية عديده بعده، ما اثر تأثيرا كبيرا على بنيتهما الانشائية والخدمية. واذكر باني اثناء اعداد مواد كتابي "تناص معماري" الصادر في 2007 بدمشق،، تناولت بشكل تفصيلي عمارة البنك المصمم في الثمانينات، مفردا صفحات عديدة لعمارة البنك ومقاربته التصميمية، كون المبنى مَثـَلّ موضوع اطروحة الكتاب على نوعٍ بيّن. وفي حينها، تحدثت مطولا وفي جلسات عديدة مع "بول يانسين" مصمم البنك المركزي. واثناء حديثنا تطرقت الى ما اصاب مبنى البنك من تخريب وما تعرض اليه من اعتداءات، متسائلاً فيما اذا كان بامكان المكتب المساهمة في اعادة اعمار مبنى البنك، كونهم المصممين له، وهم بالتالي اقرب من الاخرين في معرفة مشاكله الحقيقية سواء المعمارية ام الخدمية، ما يجعل من اجراءات اعمار المبنى ان تتم على مستوى عالٍ من المهنية وفي ظرف فترة زمنية سريعة، وقد ابدى المعمار، والمكتب لاحقا، اهتماما لهذا التساؤل، معربين عن موقفهم الايجابي منه، في حال اذا طلب منهم رسميا ذلك. وقد نقلت هذه الاجابة، الى مكتب استشاري بغدادي بغية ايصالها الى ادارة البنك. ولم يتسنَ لي لاحقاً متابعة الموضوع وليس لي علم الى ما تم بصدده. ولكن على الارجح، لم يبرم اتفاقاً بين الطرفين. ومن تسلسل هذه الاحداث، نفهم بان مصطلح "مبنى البنك الجديد" الذي ورد في قرار مجلس الوزراء، (وكما ورد ايضاً في خبر ورشة اسطنبول)، لا يمكن ان يكون خاصاًً، لا بمبنى البنك المركزي الاول الخمسيني المصمم من قبل المعمار السويسري، ولا بالمبنى الآخر الثمانيني المصمم من قبل المعمار الدانمركي. انه يتعلق بوجود افتراض لمبنى "جديد"، ووجود افتراض موقع "جديد" ايضاً!.
وهذه الفرضية كفيلة بازالة ذلك الالتباس الناجم عن التصريحين، في حال اذا افترضنا اننا نتحدث، عن معلومة (قد تكون غير مؤكدة)، مفادها ان ادراة البنك ارتأت ان تختار موقعا اخرا "لمجمع مبانٍ" خاصة بالبنك المركزي العراقي، (اي عدم اقتصار الامر على مبنى منفرد)، ما يعني ان الحديث عن ورشة اسطنبول، اذا ما تأكد من صدقية تلك المعلومة، يتناول مسار تصميم يتعلق "بتطوير حضري"، خاص بمفردات الموقع الجديد. وبالتالي فان الكلام عن انجاز 50 % من "تصاميم البنك الجديد" يراد بها، التصميم الحضري لذلك الموقع. اذ ، وكما بينا، لا يمكن ان يكون الحديث عن "المبنى الجديد" خاص بالمبنيّين الواقعيّن في الرشيد. كما ان هذا الطرح الافتراضي يسوغ ضمناً الانهماك في عمل مسبق لاعداد مواصفات المبنى الجديد واشتراطاته ضمن "حزمة" مواصفات فنية، خاصة بالتطوير الحضري للمنطقة اياها؛ والتى باكتمالها وجهوزيتها يمكن ان تكون موضوعاً للنقاش مع مكتب زهاء في تحديد متطلبات تصميم المبنى في ضوء تلك المعايير.

بيد ان كل هذا الحديث يظل ضمن فرضية مفترضة. وحده، البنك المركزي، كفيل بازالة الغموض وعدم الدقة المثار حول هذه القضية. لكن التساؤل الاساس، ما انفك قائما، هل سيتم، بجد، مفاتحة زهاء حديد، وفقا لقرار مجلس الوزراء، لتصميم مبنى البنك الجديد؟ ذلك لان الحدث الذي نحن بصدده، يتعين ادراك قيمته بكونها عابرة لمحدودية طابعه المهني، المقتصر على ايجاد فضاءات خدمية لمبنى عادي. انها، وكما نراها، قيمة عالية جدا، وهامة جدا، وآنية جدا: معماريا وثقافيا ...وحضريا!. □□

د. خالد السلطاني
معمار واكاديمي








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. عام على رحيل مصطفى درويش.. آخر ما قاله الفنان الراحل


.. أفلام رسوم متحركة للأطفال بمخيمات النزوح في قطاع غزة




.. أبطال السرب يشاهدون الفيلم مع أسرهم بعد طرحه فى السينمات


.. تفاعلكم | أغاني وحوار مع الفنانة كنزة مرسلي




.. مرضي الخَمعلي: سباقات الهجن تدعم السياحة الثقافية سواء بشكل