الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


إحباط ليس في أوانه

جمال علي الحلاق

2010 / 9 / 13
حقوق الانسان




يُهيمن عليّ إحباط ثقيل ، وهو ليس شعوراً جديداً ، فقد حدث ذلك معي كثيراً ، ويحدث ، ولا أظنّه سيتوقّف عن مطاردتي ما دمت على الأرض ، وبين الآخرين .

أذكر مرّة ، وكان ذلك في النصف الثاني من عام 1996 ، وكنّا ( فرج الحطاب ، سليمان جوني ، عباس اليوسفي ، أحمد علي الشيخ ، بشير حاجم ، جلال نعيم ، وأنا ، وآخرين ) في ذروة الإعلان عن سمات الجيل الشعري التسعيني في العراق ، كنّا نقيم أمسياتنا في ( قاعة حوار ) في منطقة ( الوزيرية ) ، وفي قاعة ( منتدى المسرح ) في شارع الرشيد ، وحدث أن توجّهت لنا دعوة لإقامة أمسية خاصة في إتّحاد محافظة ( بابل ) ، كان هوس الإعلان عن تجربتنا قد بلغ أقصاه ، في المقاهي ، وفي أندية الجامعات ، وفي الصحف الرسمية ، وكنّا قد بدأنا بإصدار مجاميعنا الشعرية عن طريق الاستنساخ بدون موافقات رسمية ، وتبنّي عملية توزيعها بشكل شخصي ، الأمر الذي تحوّل الى ظاهرة إجتماعية ، ففي أقل من خمس سنوات كانت حصيلة الكتب المستنسخة خارج نطاق المؤسسة قد بلغ قرابة 150 كتابا ، في الشعر والقصة القصيرة والرواية والنقد الأدبي والدراسات الفكرية ، كان كلّ شيء يدفعنا الى التحرّك ، فهناك رغبة في الإعلان المغاير ، تجربة حياتية مغايرة ، وتريد أن تعلن عن نفسها ، كانت اللغة المفتوحة أداتنا في الإعلان ، ففي حقل الشعر كان النصّ القصير ، المكثّف ، المفتوح ، بابا الى موضوعة ( التعدّد الدلالي / تعدّد مستوى القراءات ) ، وبالتالي كانت الكتابة الشعرية التسعينية تتضمّن دعوة صريحة الى ( التعددية الفكرية ) أيضا ، كنّا نتحرّك تحت هذا الهاجس ، هاجس إمتلاك هامش من الحريّة ، ولو على صعيد اللغة والكتابة ، وقد تجسّد هذا الهامش بإصداراتنا الخارجة عن نطاق الموافقات المؤسّساتية .

ثمّ فجأة حاصرني الإحباط ، ولم ينبت هذا الإحساس المباغت إعتباطاً ، على العكس تماماً ، فقد تأسّس على سببٍ قتل في داخلي الشعور بهامش الحريّة الفاعل ، بل جعلني أشعر بالعقم ، وبلا جدوى الممارسة الكتابية ، جعل الحدث الإجتماعي أكثر قدرة على التغيير من الكتابة ، حدث جعل الكتابة هامشاً ضئيلا خارج نطاق الضوء تماماً ، وبالتأكيد فإنّ الأحداث الإجتماعية تتبع منابعها الفكرية ، وبعض الأفكار هي من الضيق بحيث تقود الشارع ليس الى رصيف ، بل الى ركن معتم خارج دائرة التاريخ ، هكذا ، موجودون بلا وجود ، أصوات ولا كلمات ، يومها بلغ الصراع بين قادة الجماعتين الكرديتين ( اليكتي والبارتي ) أن طلب ( مسعود البرزاني ) من ( صدام حسين ) التدخّل ومطاردة جماعة ( جلال الطالباني ) الى سفوح جبال إيران ، لقد كان هذا الحادث ضربة قاسية ضد شعوري بالحريّة ، وضد شعوري بالقدرة على التغيير ، فثمّة صراعات تافهة كانت تقود الشارع من ياقته الى دوّامة فارغة لا تنتهي ، كان ( صدام حسين ) بحاجة الى أيّ ضوء أخضر ، من أيٍّ كان ، كي يستعيد وجوده الكارتوني بعد أن تمّ تحجيمه داخل قصوره الفارهة ، ولم يكن هناك متنفّس لنا لكي نفتح نوافذ أو كوىً للتغيير ، لم يكن هناك أمامنا سوى الكتابة ، نتقدم عبرها خطوة ، فتعيدنا الصراعات التافهة هنا وهناك الى سنين الى الوراء .

لم أذهب الى محافظة بابل ، ذهب الأصدقاء جميعا ، وأقاموا أمسية في العتمة على ( ضوء الفانوس ) ، قيل أنّها كانت أمسية ناجحة ، فقد تخللتها حوارات ثقافية جميلة ، حوارات خارج نطاق الصراعات التافهة حتماً .

واليوم يهبط عليّ الإحباط ذاته ببرشوته القديم ، برشوته المتهالك ، لكنّه ، رغم تهالكه يصرّ على أن يحتلّني من أقصاي الى أقصاي ، فكما هبط عليّ هناك ، يهبط عليّ الآن ، وهنا أيضا .

صراع آخر ، صراع في جوهره تنمو شجرة السخف ، شجرة لا تثمر إلا تفاهات وترّهات أيضا ، لكنّها تفاهات تمتلك القدرة على تأزيم مناطق كثيرة على الأرض ، لقد أصبح العالم أضيَق من غرفة ضيّقة ، لذا ، فالصراعات الصغيرة - حجماً وقيمةً - كسرت نطاقها المحلّي ودخلت العالمية ، كلّ حدث مهما كان صغيراً وتافهاً ، يمكن باتّساع هيمنة الإعلام ، وسرعة وسائل الإتصال ، أن يكون حدثاً مركزيا للكوكب كلّه ، والكارثة هنا ، كم من الأحداث التي يمكن أن تقود الكوكب من ياقته الى أزمنة خارج نطاق اللحظة الراهنة ؟!

حَدَثَ أن صرّح ( قس ) متطرّف يقود حلقة من خمسين فرداً أو يزيدون ، أن سيحرق نُسَخاً من القرآن في الحادي عشر من سبتمبر ، فأثار ذلك لغطاً إعلاميا هائلا ، وأدخل بلداناً عديدةً تحت طائلة التهديد والإنذار .

عمل غير مسؤول ، لكنّه ليس بلا جذور أيضا ، فالحدث لم ينبت من فراغ ، وتصريح القس المتطرّف هذا وإن كان تصريحاً غبيّاً ، فإنّه أيضا ، وفي نفس الوقت ردّة فعل على ممارسة غبيّة متطرّفة أخرى ، فالإعلان عن بناء مسجد قرب منطقة الأبراج المنهارة لا يخلو من غباءٍ متطرّف أيضا ، الطرفان يتحرّكان بآلية غبيّة ، آليّة تكشف عقم الطرفين معا ، وتكشف أيضا مدى هشاشة الصراع الذي يقود العالم الى زوايا حادة ومربكة .

ليس هناك ضوء وظلمة في هذا الصراع ، بل ظلمة واحدة تتنافس على فراغ ، فعلان يتحدان في ترسيخ الكراهية والحقد ، وينبشان معاً - في الوقت ذاته - في تراب أحقاد قديمة .

صراع لا علاقة له بالمدنيّة ، ولا علاقة له بحقوق الإنسان ، لا علاقة له بقيمة الإنسان أصلا ، صراع صوري مبني على أسطورتين ، ترجعان معا الى جذر واحد ، ليس بعيدا عن الأساطير السومرية ، صراع قائم على تبنّي الأسطورة ، وبالإكراه .

لا أجادل هنا حول إمكانية أن يتبنّى المرء أيّ فكرة يشاء ، فهي حقّ من حقوقه المدنيّة ، لكن ، ينبغي أن لا يقود هذا التبنّي الى تأزيم الكوكب ، وإدخاله في كهوف ودهاليز أصبحت في عداد الماضي القديم .

لا بأس أن يكون هناك إنسان قديم ، شرط أن لا يمثّل هذا الإنسان القديم تهديداً للمدنيّة الجديدة .

طرفي الصراع ينتميان الى هناك ، الى مراحل ما قبل المدنيّة ، وكلاهما معا يمثّلان تهديداً للإنسان على الأرض ، وأعتقد أنّ القضيّة هنا تعود الى الفهم الضيّق لمفهوم حقوق الإنسان ، لأنّ تطبيق حقوق الإنسان يؤدي بالضرورة الى متّسع من الرفاهية ، غير أنّ ما يحدث ، وتحت صراعات خارج نطاق فهم اللحظة التاريخية الراهنة ، أقول ، أن الفهم الغبي لمفهوم حقوق الإنسان ، يجعل الحقّ بيد الأغبياء لغماً أو قنبلةً موقوتة ، ويجعل الأرض كلّها أرض حرام ، وهذا بحدّ ذاته إقرار عالمي بالجهل الذي يُفصح عن جبروته هنا وهناك .

نريد أن ننتبه لقدرة الإنسان على الخلق ، وليس لقدرته على التخريب والدمار ، نريد الإنتباه للإنسان الذي يخلق الحب ويدعو إليه ، ولا نريد أيّ كائن يدعو الى الكره والعدوان ، نريد أن نستثمر عقولنا الى أقصاها ، نريد أن نثبت جدوانا خارج الأساطير ، نريد أن نتابع آخر الكشوفات العلمية في كلّ حقول المعرفة ، نريد أن نقترب من آخر الإبكتارات البشرية ، من التقنية الهائلة التي تتقدّم ، نريد أن نقترب من الإنسان المتفوّق ، الإنسان المنفتح ، المحلّق بعيدا خارج الأُطر الإسمنتيّة الجاهزة ، لأنّه الوحيد القادر في النهاية على انتشال الأرض من وحول الأساطير الراكدة عليها هنا وهناك .








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. السودان.. طوابير من النازحين في انتظار المساعدات بولاية القض


.. آلاف الإسرائيليين يتظاهرون في تل أبيب للمطالبة بعقد صفقة تبا




.. مجلس الحرب الإسرائيلي يجتمع لدراسة رد حماس على مقترح صفقة تب


.. حرب غزة: لا تقدّم في مفاوضات الهدنة.. حماس تتمسك بشروطها ونت




.. مظاهرات في تونس لإجلاء الآلاف من المهاجرين غير الشرعيين