الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


حدود فان جوخ بين الوعي والخرافة

يوسف ليمود

2010 / 9 / 13
الادب والفن


قدّمت سرقة لوحة فان خوخ الأخيرة من المتحف القاهري، من بين ما قدّمت، فرصة عظيمة لمستعرضي الحس الفني ومدّعي التذوق، كي يغرقونا بسيول تمجيدهم المجاني المتوارث للفنان الأوحد، الأعظم، الخارق، الباذخ، الأسطورة، المجنون، الأكثر عبقرية، الأطهر قلبا، الذى لم ولن تعرف الأرض له مثيلا، حسب ما يفهم المرء من كلامهم عن هذا الفنان. طريقة النظر هذه إلى هذا الفنان والتقدير الأعمى والمبالغ فيه لعمله ظاهرة، هي أصلا نتاج مزج حياته الشخصية بفنه وعدم القدرة على الفصل بين الاثنين. وللإنصاف، هي ظاهرة عالمية وليست حكرا علي ثقافتنا العربية وحدها، وإن كانت عندنا أشبه بالورم المستفحل. دمل يحتاج من يفقأه لننظر ما تحت قشرته من جراثيم تتغذى على نسيج البشرة الذي هو معادل لنسيج اللوحة ـ أي عمل الفنان. والحق أنني، شخصيا، وبسبب هذا الابتذال المتغلغل، غالبا أخجل من التلفظ باسم هذا الفنان، اللهم إلا حين اضطراري المرور به في السياق التاريخي كحلقة في سلسلة. الفن ليس عاطفة، ولكنه في المقام الأول فكر. وحين تتضخم العاطفة على حساب الفكر، ينسحب الفن إلى ردهاته السرية، وتصبح الثقافة مجرد لغو ولغط وتهويمات، حيث المأساة الشخصية للفنان أو وقائع حياته البهلوانية العجيبة هي الحصان الذي يجر عربته الفنية عبر الزمن. في تاريخ الفن الكثير من الأمثلة التي تثبت هذه الحقيقة، ليس فان جوخ أولهم ولا هو آخرهم، وإن كان من أشهرهم، وقد أصبح رمزا انسانيا، أو حتى تميمة لكثير من بسطاء الذائقة. هذه الشعبية التي تكاد تكون مطلقة يمكن الإمساك بخيوط شبكتها لو انتبهنا إلى حقيقة أنه في هذا الفنان يجد كلُ ُ ما يريد البحث عنه، فهو الأخلاقي، العميق الإيمان، المتشكك، العربيد المتردد على المومسات، المصلح الاجتماعي، البوهيمي، الشاعر، المختل عقليا، الفاشل، الفقير المعدم، العاشق، المحب للحياة... وهو المنتحر. إنه بطلُ ُ دوستويفسكي بامتياز. لكن من منا ليس بهذه الصفات أو على الأقل ببعضها، ولو بنسبة ما؟ الأمر خارج فعلا عن دائرة التقييم الفني لأعمال هذا الفنان، رغم أن فنه هو السطح التي تنعكس منه، أو تنعكس عليه أسطورته كشخص.

الأسطورة صنيع الإنسان، هذا معروف. قديما، أضفى الإنسان على أشياء الطبيعة الأكبر منه والتي هددت وجوده، كالريح والنار والماء والظلام... قداسةً، فألّهها ونسج حولها الحكايات والأساطير والأديان. ثم أصبحت الآلهة واحدا ثابتا تدور حوله عجلة الأشياء الفانية بمنازلها المختلفة منه كمركز: الأقرب والقريب والبعيد والأبعد. على قدر القرب كان النور والقداسة، وعلى قدر البعد كان الظلام والخسران. هذا المنطق الديني في الحكم، وفي تحجيم الكائنات والأشياء والمعاني، من التقديس إلى التحقير، لا يزال حتى اليوم هو نفس المنطق الذي تعمل به الدماغ البشرية في تقييماتها، حتى تلك التي نفضت عن نفسها غبار الدين. ربما تكون نجت من فكرة المقدس بمعناه الروحي، لكنها وقعت في فكرة التقديس بمعناه المادي. كان نيتشه أول من حاول تمزيق قماشة المقدس التي نسجتها تراكمات التاريخ قبله، ومن عباءة نيتشه ولد فكر ما بعد الحداثة الذي لا يفتأ يفتت الأشياء والمعاني إلى عناصرها الأولى ويضع لحمتها تحت مجهره العدمي، فلا فوق ولا تحت ولامركز ولا أطراف. سقطت القداسة عن الفكر والفن لكنها لم تسقط عن الواقع، وللواقع منافع مع الفن وتأثيرات عليه. فخضوع الفن لماكينة السوق المعقدة، التي يتداخل فيها السياسي بالاقتصادي بالاجتماعي، جعل البرجوازية تستخدم حتى خطاب الفنان المضاد لها وتغلفه في ورقها البراق وصناديقها الزجاجية، لتجعل من الهش والفاني والعابر أبديةً على جدران متاحفها وصالات مزاداتها حيث الأرقام سلطة، ولا بد للسلطة من هالة، ولا بد للهالة من أسطورة. فان جوخ أصبح رقما فرمزا فأسطورة. القسيس الخائب في الكنيسة أصبح قديسا في البورصة.

بول سيزان خدم الفن أكثر مما فعل فان جوخ. سيزان لم ينتحر، بل عاند شياطينه حين راهن بوجوده على شق طريق في الفن يوصله إلى الجنة "في الجنة يعرفون أنني سيزان"، رامقا العالم الذي أنكره من طرف عقلانية شاهقة، ومضى في صمت. سيزان لم يقطع أذنه، ليس لأن وهجه الوجودي كان أقل اشتعالا من وهج جوخ، لكن لأنه كتم لهيبه بنصل منجل رياضي اجتز به الحشائش الضارة عن غابات لوحاته وطرقاتها، في حين أسلم فان جوخ وهجه لعاطفة لا تفرق بين الوقوف أمام اللوحة والوقوف أمام امرأة، وما كنا لنطالبه بغير ما كانه، حيث الجمال في أن يكون المرء نفسَه، وحيث هناك شيء اسمه القدر. لكن العالم يقدس العاطفة لأنه غارق في العاطفة. يرفعها، لجموحها ولا مسئوليتها، فوق التأمل، فالعاطفة دغدغة والتأمل ملل! لم يقدم سيزان للعالم حكاية، ويصعب على العالم ألا يكون خلف الفن حكاية، وفان جوخ كان الحكاية. ليس القصد هنا المقارنة، قدر ما هو محاولة التقاط الخيط الذي يصطاد به العالم سمكاته ليحنطها فتتحول بمرور الوقت وآليات التضخيم ذهبا. سمكا ذهبيا كذلك الذي سبح في ماء "مئة عام من العزلة". جوجان بدوره خدم الفن أقل من زميليه، لكنه كان أيضا حكاية، ولما التقت الحكايتان صنعتا رواية: جوجان وجوخ، وبينهما سيف ومبارزة افتراضية، أو موسى حلاقة سوف يسح الدم من شفرتها، وتسقط أذن المسكين على الأرض. أصبحت الحادثة أهم من اللوحة التي صورت الحادثة: وجْه الفنان بعينيه الناريتين مضمدا. أصبح لون الدم المتواري في أعماق أذهان المتفرجين أكثر قيمة من خطوط اللوحة وألوانها. اللوحة تقدم لهم طبق الحدوته وكوب الخيال. تختفي اللوحة كفكر وتصير عاطفة. أسطورة!

قيم الفن، لحسن الحظ، ليست ثابتة. ليست قيم الفن وحدها هي المتغيرة بتغير الأماكن والأزمنة، بل القيم جميعها تقريبا. الذي يحدد قيمة شيء أو معنى ما، هو درجة نفع هذا الشيء أو هذا المعنى وصلاحيته بالنسبة للمكان أو الزمن الذي يُتداول فيه. والفن، نظرا لحيويته وحساسيته للبيئة التي يخرج منها وتأثره بها، يتغير، ليس فقط معناه، بل تتغير وسائطه وأدواته، وأحيانا جذريا، كما حدث مع الفن المعاصر قياسا بالفن الحديث وكل ما سبقه من حقبات. سبعون عاما مرت على آخر لوحة رسمها فان جوخ، ولو أغفلنا الثورات والتطورات الفنية التي حدثت منذ وفاته، نبقى أمام حقيقة واقعة لا مفر من مواجهتها ولا معنى لإغماض العين عنها، وهي أن القيم الفنية التي تنتمى إلى عصر هذا الفنان، وتلك التي أبدعتها قريحته، قد جنحت من حيز الفني إلى حيز التاريخي. هذا لو أردنا النظر بعين الحقيقة لا بعين العاطفة. الفنان الألماني الراحل يوزف بويز كان قد سئل يوما عن ما إذا كانت لا تزعجه حقيقة أن أعماله لن يبقى منها شيء عبر الزمن بعد رحيله (كان يستخدم خامات هي عرضة للتآكل والاندثار)، فأجاب بأن حتمية ذوبان أعماله وفنائها في الزمن هي بالتحديد أكثر ما يحبه ويرضيه في أعماله. الإنسان نفسه كائن مندثر، فلم الإصرار على فكرة تحنيط الأشياء وتأبيدها بينما خالقها فانٍ، حسب ما رأى بويز! لكن، كما ألمحنا أعلاه، تستعمل البرجوازية كل ما لديها من تقنيات الحفظ والتغليف بعيدا عن السوس والصدأ والتحلل والعثة، للمحافظة على منجز فنان يكمن جمال أعماله وفنيتها في اندثارها من بعده. هذا الاندثار في حد ذاته قيمة فنية وجزء من أعماله لا ينفصل. إنه الموضوع.

لا علاقة لهذا الكلام بحكاية اللوحة المسروقة، فهذا موضوع آخر، ولا يُفهمنّ من الكلام أنه انتقاد الحفاظ على منجزات التاريخ الفني، فهذا أيضا موضوع آخر، لكنه ورم الأسطورة الذي انتفخ من جديد نتيجة سرقة لوحة فان جوخ، وذلك التمسح الزائف باسمه التميمة، استعراضا لذائقة تفضح نفسها بنفسها حين الكلام عن القيمة وعن الفنية. وكأن الذائقة الهاجعة في عزلة مئة عام، لا ينخسها من شخيرها إلا اختفاء لوحة لم يُنظَر إليها أصلا في الغالب، حين كانت معلقة في ركنها المغبر. ماذا عن أعمال مئات الفنانين الأحياء الذين، لو قام فان جوخ من موته اليوم واطلع على فكرهم وأدواتهم وقيمهم الفنية، لأشاح البصر عن منجزه، باعتبار أنه كان مرحلة في التاريخ ليس أكثر؟ ولا يُفهمنّ أيضا، رغم هذا، أنه إشاحة نظر منا عن القيمة الفنية لأعمال هذا الفنان، فالجديد لا ينسخ القديم لمجرد كونه جديدا، ولكنه الوعي بأين يقف الجديد من القديم وماذا في القديم وماذا في الجديد. هذا الوعي وحده هو الصراط الذي تسير عليه الذائقة. في عبوره تتحرر الذائقة من الأورام الخبيثة الملتصقة بالقديم والجديد معا، وتنجو من زيفها. تصير ذائقة مبدعة، لأن الوعي مبدع، والقيمة لا تنعكس على الأشياء إلا من داخلنا، لا من أساطير الأرض، ولا من خرافات السماء.








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



اخر الافلام

.. أخرهم نيللي وهشام.. موجة انفصال أشهر ثنائيات تلاحق الوسط الف


.. فيلم #رفعت_عيني_للسما مش الهدف منه فيلم هو تحقيق لحلم? إحساس




.. الفيلم ده وصل أهم رسالة في الدنيا? رأي منى الشاذلي لأبطال في


.. في عيدها الـ 90 .. قصة أول يوم في تاريخ الإذاعة المصرية ب




.. أم ماجدة زغروطتها رنت في الاستوديو?? أهالي أبطال فيلم #رفعت_