الحوار المتمدن - موبايل
الموقع الرئيسي


من قرطاس الخواطر .. في الطريق الى الوطن/3

فلاح صبار

2010 / 9 / 13
الادب والفن


بعد عناق الاحبة ، تتفجّر ينابيع القلب بما يحتويه من عطاء و مودة لامتناهية ، وعظم شوق، ولهفة موّله بكل شئ في عراق العزيمة والصبر والتضحية، تحول عناقنا الى شلالات وفاء سقت موقع ساحة عباس بن فرناس الترابية . في الساحة المذكورة ، كان العرق ينهمر على جباه وخدود الشغيلة والعمال وكل من حضر لاستقبال حبيب او غريب ... قادم من مسافات بعيدة، أُجبرعلى التوجه اليها هربا من هِراوى القمع والسجن وحصاد الحروب. مسحنا بأنامل مرتعشة حبيبات دمع تفجرت فمزقت محاجر عيون مخلوطة بذرات غبار متطاير وعرق مشبع باملاح بيولوجية فرضه صيفنا الطويل الملتهب، فتوجهنا الى حيث يقطن اخي في احدى ضواحي العاصمة الحبيبة ...بغداد.
هاهي بغداد ،تضج بالمركبات المتنوعة ، وان كان - لون الخاكي هو السائد لاليات غريبة الاشكال - لم اعتد على رؤيتها من قبل ، تحاصرك أنى توجهت ، سمة بارزة تشد انتباه الزائر اليها !
وهاهم ابناؤها يكافحون للحصول على لقمة خبز تحت شمس الله المحرقة...وهناك على اطراف الساحة التي تعد بمثابة قاعة لاستقبال القادم من المطار، تقف بضع شجيرات خجولة محنية الظهر تشكو الظمأ ، مقبّعة برداء من الغبار الثقيل، مبتلاة بعظم قسوة البيئة ،اذ فقدت بريقها حينما اجبرت على اكتساء دخان الحروب المدمرة ، وتفجيرات الارهاب الغبي.
يارب العراق!
كنت مباركا لارض الانبياء، والاولياء ،والحكماء، حين منحت تلك البقعة الطاهرة حياة حبلى بالعظماء من ابنائها ورسمت جدائل دجلة الحسناء كافياء ، تظلل بها نديمها وإلفها الاول فرات..وسميتها ارض السواد .فهي خضراء أليفة ،تحتضن النخيل المبارك ، خالدة بجبالها الشاهقة ، ممتدة كرما بامتداد صحاريها، وعذبة بمياهها الدافئة واهوارها الخالدة أصل الكون و الانسان .. .
أجبني بحق ابراهيم وابنائه .. لم يحدث كل هذا الخراب في بلادي؟ اما كفى مامر بنا من عظيم دهور تميزت باقتدار بذلك الحزن والبؤس والشقاء؟ اي قدرأحمق بلينا به ؟ وماهو الذنب الذي اقترفناه؟
نحن يارب ،اوفياء ماعرفنا الغدر، ولاارتضينا المكر ، نحب الحياة ، والعيش بهدوء وسلام... نحب العمل ونراه أملا للجميع وليس ألما ... نتمسك بقيم مثالية ، لانتشبث بصغائر الامور اوبمكاسب غير مشروعة مريضة.
اجابني صوت من سفر تاريخ العراق ، عميق بعمقه ، صادق ناصح ، نفذ داخل روحي الملتاعة:
- ياعبدي ... بليتم بنفر لا يرعوون ، غير آبهين بالاخرين، ظلمة قساة، يظهرون شيئا ويضمرون اشياء، يرون في حل القضايا المعقدة مشكلة كبيرة لهم تهدد مكتسبات لهم مادية ومعنوية ، لذلك فهم يقفزون فوق الحلول الناجعةّ!
واضاف مصرا على ايقاظي :
لقد اتعبتني توسلاتك..الكل يحلم بتغيير العالم وما من احد فكر للحظة بتغيير نفسه وذاته ..فكن حاسما لامرك ، ولا تعوّل كثيرا على من تعوزه حكمة واخلاص وايثار من قومك . بك ومنك يبدأ التغيير! ابدأ بتغيير نفسك ! فانت ... انت الوحيد وبقدرتك، وبتعاونك مع الجميع ستشكل النقطة الاولى في بداية الخط المستقيم الذي سيوصلك الى مبتغاك الصالح...كن حاسما ! واعمل للنجاح والاصلاح، ودع عنك تلك اللعنة اللغوية الابدية ، ال- اذا- وال- لكن- فبهما مقتل شعب، ودمار وطن!! حيث تقف تلك الكلمات المقيتة كتبريرات باهتة للفشل ، و سدا هشا امام عجلة البناء و التطور والرخاء.
ايه..ايها النورس العائد... سألت نفسي :
سترى كل شئ الان، حقيقة ناصعة ماثلة امامك. دع امانيك الجميلة التي رافقت غربتك و مافارقتك على مدى تلك السنين الباردة الغبية ، تجول هنا ثم ... اكتشف ؟
ولاتنس تلك اللوحة التي احتضنتها فردوسا زاهيا بهيجا ومبهج، تباهي بها مدن العالم ، هي لوحة عشقك لبغداد.
انت هنا ! ستحتضنك اشجار نارنج العيواضية ، وسترتوي من شربت عمك - الحاج زبالة - في الحيدرخانة ، وسترتشف الشاي اللذيذ في مقهى سيدة الطرب ام كلثوم ، والزهاوي،وشارع المتنبي ، والميدان، والكرادة ، والفضل ، وشارع الكفاح ، وسينما مترو، وسيد سلطان علي، وسينما الوطني، وبرودواي و ريكس وروكسي ... وعلاوي الحلة والعطيفية...و..و..و
ايها النورس : انظر الان وراقب! هل بقي شئ من تلك الصورة ... اللوحة ؟ سألت روحي...
- ها...شلون شايف الحبيْبة بغداد ؟ سألني اخي: وهو يقود سيارته بارتباك واضح!
التفتُّ بحركة لا شعورية عنيفة ، واجبته بجمل تفتقر الى حجة وقناعات قوية ،جمل غير مترابطة :
- ما ادري! يمكن متغيرة...بس اشوفها مثل غزال بري رمادي متعب ،الجميع يريد نهشه ومع ذلك ... محّد يلزمه ، يتعب الصياد ويسخر من كل هواة ومحترفي الجريمة وقتل الحياة !ولكنني اخاف على بغداد من هذا الجحود البشري...
همهم بألم: متغيرة ومتعبة وصيد ثمين للغرباء ... صحيح! ولكن العار والسخف كله يكمن في اضعاف ارادتنا كعراقيين وايهامنا بعدم قدرتنا على النهوض والوقوف ثانية ، اطمئن خويه.... نحن لها!
واردف: لكنك متغير ايضا كما ارى ...احس بوجودك هنا.. وفي الحقيقة انت ليس هنا!
- عليك بالقناعة والتحديد والتركيز على مبتغاك، وايمانك بنا ، فستشرق شمس الغد.. ستشرق لاريب ، وكن واضحا باجاباتك ، لأننا بدون الوضوح والرؤية السديدة ستأخذنا المتاهات الى حيث لا نحب ، فعليك بنثر تفاؤلك ومحبتك على جوانب الطريق وسالكيها، كما عهدناك . انت هنا لتعمّر وتبني ما خرّب ولتعبّ من خمرة العشق لهذه المدينة التي حوصرت،وغزيت ، وتهدمت لاكثر من ثماني مرات من قبل .
بلى.. بغداد حوصرت، وهدّمت ، وسالت دماء زكية من ابناء هذا الشعب القوي والعنيد والمحب للحياة ، هدّمت عبر تاريخ ملئ بالقتل، والكوارث ،والاخطار، والقمع، والكراهية المستوردة ، لكن بغداد عادت مرة ثانية كمنارة للحب والابداع والحضارة، شامخة رغم الطغاة وقتلة الزمان الجميل وروعة ابداع الانسان.
احسست بألم يعصر قلبي المتعب اساسا وبدوار في رأسي، ولكن رائحة الارض، وأفران الصمون، والباعة المتجولون بعرباتهم المحملة بألذ اشكال الخضار الطبيعية المنعشة بعبقها الشهي ، وهي متناثرة عبر الطريق هنا... وهناك، عبأتني بقوة استثنائية هائلة ، أنستني متاعب القلب بذبحاته الاربع!!
اقتربنا شيئا فشيئا من بيت أخي الذي يقع ضمن منطقة كانت تعد من اجمل مناطق بغداد ويسكنها اساتذة واطباء وتجار كبار. كانت المنطقة مغلقة الا لمسلكيين اجباريين فتحا فقط لمرورالعربات و السيارات ، يقف على رأسيهما ثلة سمراء من الجيش والشرطة ، حرصا منهم على عدم استهداف المواطن البرئ ، لتفجيرات حقد وكراهية!.
في الحقيقة انتابني شعور غريب ،هو خليط من الخوف ، والرهبة، والتحدي ، ونحن ندخل المنطقة حيث يقيم اخي. ان خوفي ،لا يعد جبنا ، بل هو حالة فيها خليط مشاكس من الغرابة والرهبة والتحدي الشئ الكثير، حالة غير طبيعية جغرافيا ، لم آلفها منذ زمن بعيد. سنوات طويلة انقضت، وانا اقيم قسرا في بلد يسوده الهدوء والامن والقانون، وبمرور ساعات تسع،هي زمن الطيران الى بغداد، تجد نفسك في بيئة مختلفة تماما تفتقد للكثيرمن ذلك المناخ الآمن الطبيعي.
بعد سويعات من اخذ قسط الراحة، والتهاتف والسلام مع الاصدقاء، اصر أخي على القيام بجولة على بعض مناطق بغداد تلك التي علقت بذاكرتي وانا طفل، واستعادة الذكريات الجميلة التي لا زالت محمولة في كياني ، حينما كنت طالبا في الجامعة المستنصرية في بداية السبعينات بعد ذلك . كان الغروب قد بدأ يحط جناحه ويحتضن العاصمة والكون، الا ان هناك ظلام بدا وكأنه سمة سائدة نتيجة انقطاع الكهرباء المزمن ، ولاسباب عديدة يعرفها ابناء ارض السواد.نحن في العقد الاول من القرن 21 والمشكلة مستعصية على الحل ...ياللسخرية ! مليارات من دولارات النفط ومنذ اكتشاف البترول في بلادنا ضاعت هباء ، لامستشفيات ولا مدارس ولا بيوت تأوي ابناء هذا الوطن ولا بناء مشاريع انتاجية في الصناعة او الزراعة او السياحة تساهم في خلق فرص عمل للعاطلين والمحتاجين تساعد على العيش برخاء وكبرياء ، نحن بحاجة لكل هذا . دول اهملتها خرائط العالم لفقدانها ابسط مقومات قيام دولة ، وثمة دول صغيرة حديثة التكوين بدأت تأخذ مكانتها الحضارية بين الامم وقد سبقتنا اشواطا في حركة العمران والبناء ، فألبست مواطنيها ثوب الرفاهية والحياة الكريمة ، فماعرفت هجرة اقتصادية او سياسية طوعية او قسرية، وماعرف مواطنوها الخوف من الوقوف امام شرطي المطارات او المناطق والحارات ، وما ذلوا ، او اهينوا من قريب اوغريب.
آخخخ ... يارب العراق ...! اين نحن من كل هذا؟
اضاف ظلام بغداد القسري وحشة وكآبة اضافية لتوتري وقلقي الذي بدا وكأنه يخنقني. طلبت من اخي ان يمنحني قليلا من الوقت لاتخاذ قراري في الموافقة من عدمها للقيام في هذه الجولة التي كنت محتاجا اليها في الحقيقة... فلعلها تسقيني وتنعش ظمأ روحي الذي دام سنوات طويلة. وبعد لأي قررت المضي لاحتضان بغداد الحبيبة.
عتمة ، وخرائب ، واسوار كونكريتية ، وسيطرات متعددة وسكون خيم على العديد من المناطق التي مررنا بها، مدينة الحرية لامعنى لتسميتها، منطقة الكسرة مكسورة الخاطر، مدينة الاعظمية وشوارعها الجانبية خرائب تشكو وتفتقد للعظمة الا من انتصاب جامع النعمان الاعظم شامخا يتحدى الزمن!
باب المعظم موصد موحش، الميدان يرتع بالكلاب والقطط السائبة، وكان عنتر صامتا بساحته خجولا كئيبا ايضا !!!
امام هذا الانطباع الاولي القاتم لهذه الجولة السريعة وعلى الرغم من تدفق الامل بالمستقبل الواعد الذي احسست به وانا ارى شباب بلادي وشيوخه يتنزهون ويتبضعون ، يضحكون وهم يحتسون الشاي في المقاهي الشعبية المتناثرة حيث -عربات شواء الفشافيش والتكة والكباب - منهمكة باعداد وجبات العشاء العراقي المتميز والثقيل الدسم ، شعرت برغبة جامحة للسفر فورا الى مدينتي الام النجف الاشرف ، فهناك قد تسعفني حمائم الصحن الشريف بأخذ قسط من الراحة والاستقراروالهدوء ، كي اعود ثانية والتقي بحبيبتي وفاتنتي بغداد بمزاج آخر، اكثراصرارا و رغبة ، واقوى شكيمة، لتحليل مايدور على ارض الواقع من احداث ومتاعب .
يارب ...اعد البسمة لاطفالنا، ومكن بلادنا من تجاوز هذه المصاعب التي عصفت بها،ولتتحد القلوب العراقية الطيبة،ولتبدأ سواعدنا بضرب الارهاب ، والحاقدين على كل شئ في العراق ، وليعم السلام هذا العالم قاطبة متوجا بأمن العراق وازدهاره.
حكمة ما أحوجنا اليها:
كونوا جميعاً يابني إذا اعترى خطب، ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا
للقرطاس بقية








التعليق والتصويت على الموضوع في الموقع الرئيسي



التعليقات


1 - تحية طيبة
نصيف الناصري ( 2010 / 9 / 13 - 15:08 )
تحية طيبة صديقي فلاح الورد . آملُ أن تنقشع الغمة عن بغدادنا الحبيبة وكل أرض العراق ويتسنى لك التجوال الطويل في الأماكن التي عشت فيها أيام الدراسة وأيام الصبا والشباب . محبتي واعتزازي

اخر الافلام

.. الفلسطينيين بيستعملوا المياه خمس مرات ! فيلم حقيقي -إعادة تد


.. تفتح الشباك ترجع 100 سنة لورا?? فيلم قرابين من مشروع رشيد مش




.. 22 فيلم من داخل غزة?? بالفن رشيد مشهراوي وصل الصوت??


.. فيلم كارتون لأطفال غزة معجزة صنعت تحت القصف??




.. فنانة تشكيلية فلسطينية قصفولها المرسم??